المعركة بين جنود الملائكة والشياطين في معركة النفس

جامع السعادات

2024-05-05 04:30

قد عرفت أن الوسواس أثر الشيطان الخناس، والإلهام عمل الملائكة الكرام. ولا ريب في أن كل نفس في بدو فطرتها قابلة لأثر كل منهما على التساوي، وإنما يترجح أحدهما بمتابعة الهوى وملازمة الورع والتقوى، فإذا مالت النفس إلى مقتضى شهوة أو غضب وجد الشيطان مجالا فيدخل بالوسوسة، وإذا انصرفت إلى ذكر الله ضاق مجاله وارتحل فيدخل الملك بالإلهام. فلا يزال التطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس.

لهيولانية وجودها وقابليتها للأمرين بتوسط قوتيها العقلية والوهمية، إلى أن يغلب أحد الجندين ويسخر مملكة النفس ويستوطن فيها، وحينئذ يكون اجتياز الثاني على سبيل الاختلاس، وحصول الغلبة إنما هو بغلبة الهوى أو التقوى، فإن غلب عليها الهوى وخاضت فيه صارت مرعى الشيطان ومرتعه وكانت من حزبه، وإن غلب عليها الورع والتقوى صارت مستقر الملك ومهبطه ودخلت في جنده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم، -قال الله تعالى: لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها الأعراف 179- وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله).

 ولا ريب في أن أكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وملكوها، ويتصرفون فيها بضروب الوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الأجلة. والسر فيه: أن سلطنة الشيطان سارية في لحم الإنسان ودمه ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه، كما أن الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم)، وقال الله سبحانه -حكاية عن لسان اللعين-: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) الأعراف16-17. فالخلاص من أيدي الشياطين يحتاج إلى مجاهدة عظيمة ورياضة شاقة فمن لم يقم في مقام المجاهدة كانت نفسه هدفا لسهام وساوسهم وداخلة في أحزابهم.

تسويلات الشيطان ووساوسه

لما كانت طرق الباطل كثيرة وطريق الحق واحدة، فالأبواب المفتوحة للشيطان إلى القلب كثيرة، وباب الملائكة واحدة، ولذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خط يوما لأصحابه خطا وقال: (هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله سبحانه: -وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله-) الأنعام 153.

 ثم لسهولة ميل النفس إلى الباطل وعسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية إلى الباطل التي هي أبواب الشيطان جلية ظاهرة، فكانت أبواب الشيطان مفتوحة أبدا، والطرق المؤدية إلى الحق التي هي باب الملائكة خفية، فكان باب الملائكة مسدودا دائما، فما أصعب بالمسكين ابن آدم أن يسد هذه الأبواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة ويفتح بابا واحدا خفيا مسدودا. على أن اللعين ربما يلبس بين طريقي الحق والباطل ويعرض الشر في موضع الخير، بحيث يظن أنه لمة الملك وإلهامه، لا وسوسة الشيطان وإغواؤه، فيهلك ويضل من حيث لا يعلم، كما يلقى في قلب العالم أن الناس لكثرة غفلتهم أشرفوا على الهلاك، وهم من الجهل موتى، ومن الغفلة هلكى، أما لك رحمة على عباد الله؟ أما تريد الثواب والسعادة في العقبى؟ فما بك لا تنبههم عن رقدة الغفلات بوعظك، ولا تنقذهم من الهلاك الأبدي بنصحك؟ وقد من الله عليك بقلب بصير وعلم كثير ولسان ذلق ولهجة مقبولة! فكيف تخفى نعم الله تعالى ولا تظهرها؟! 

فلا يزال يوسوسه بأمثال ذلك ويثبتها في لوح نفسه، إلى أن يسخره بلطائف الحيل ويشتغل بالوعظ، فيدعوه إلى التزين والتصنع والتحسن بتحسين اللفظ، والسرور بتملق الجماعة، والفرح بمدحهم إياه، والانبساط بتواضعهم لديه وانكسارهم بين يديه، ولا يزال في أثناء الوعظ يقرر في قلبه شوائب الرياء وقبول العامة، ولذة الجاه وحب الرياسة، والتعزز بالعلم والفصاحة، والنظر إلى الخلق بعين الحقارة، فيهدي الناس ويضل نفسه، ويعمر يومه ويخرب أمسه، ويخالف الله ويظن أنه في طاعته ويعصيه ويحسب أنه في عبادته، فيدخل في جملة من قال الله فيهم: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف 103-104.

 ويكون ممن قال رسول الله (ص) فيهم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). فلا نجاة من مصائد الشيطان ومكائده إلا ببصيرة باطنة نورانية وقوة قدسية ربانية، كما لا نجاة للمسافر الحيران في بادية كثيرة الطرق غامضة المسلك في ليلة مظلمة إلا بعين بصيرة صحيحة وطلوع شمس مشرقة نيرة.

العلائم الفارقة بين الإلهام والوسوسة 

من تمكن من معرفة الخير والشر سهل عليه التفرقة بين الإلهام والوسوسة وقد قيل إن إلهام الملك ووسوسة الشيطان يقع في النفوس على وجوه وعلامات: 

(أحدها) كالعلم واليقين الحاصلين من جانب يمين النفس. وتقابله الشهوة والهوى الحاصلان من جانب شمالها.

 (وثانيها) كالنظر إلى آيات الآفاق والأنفس على سبيل النظام والأحكام المزيل للشكوك والأوهام، والمحصل للمعرفة والحكمة في القوة العاقلة هي جانب الأيمن من النفس ويقابله النظر إليها على سبيل الاشتباه والغفلة والإعراض عنها، الناشئة منها الشبه والوساوس في الواهمة والمتخيلة التي على الجانب الأيسر منها، فإن الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة المقدسة من العقول والنفوس الكلية، لأنها مبادئ العلوم اليقينية، والمتشابهات الوهميات بمنزلة الشياطين والنفوس الوهمانية، لأنها مبادئ المقدمات السفسطية.

 (وثالثها) كطاعة الرسول المختار والأئمة الأطهار في مقابلة أهل الجحود والانكار وأرباب التعطيل والتشبيه من الكفار. فكل من سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة الملائكة المقدسين الملهمين للخير، ومن سلك سبيل الضلال فهو بمنزلة الشياطين المغوين بالشرور.

 (ورابعها) كتحصيل العلوم والإدراكات التي هي في الموضوعات العالية والأعيان الشريفة، كالعلم بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، وللبعث، وقيام الساعة، ومثول الخلائق بين يدي الله تعالى، وحضور الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين، في مقابلة تحصيل العلوم والإدراكات التي هي من باب الحيل والخديعة والسفسطة، والتأمل في أمور الدنيا غير الخارجة عن دار المحسوسات، فإن الأول يشبه الملائكة الروحانية وجنود الرحمن الذين هن سكان عالم الملكوت السماوي، والثاني يشبه الأبالسة المطرودة عن باب الله الممنوعة من ولوج السماوات، المحبوسة في الظلمات، المحرومة في الدنيا عن الارتقاء، والمحجوبة في الآخرة عن دار النعيم.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد