كيف نختلف دون استعلاء؟

محمد علي جواد تقي

2023-06-24 07:20

"إذا أردت أن تَعظَم محاسنك عند الناس فلا تَعظَم في عينك"

أمير المؤمنين، عليه السلام

الاختلاف سنّة إلهية في الحياة والكون ورائها حكمة بالغة في تحقيق التكامل والتناسل و ديمومة الحياة، بيد أن الاستعلاء المتمخض احياناً من هذا الاختلاف فانه نتاج سلوك ونفسية الانسان الطامح دائماً للهيمنة والتميّز والتفوق على أخيه الانسان مهما كان الثمن.

ربما يضطر البعض لحل هذه المعضلة الفكرية في تحريم وتجريم الاختلاف، والدعوة لأن يكون الجميع مُوحَدون في طريقة تفكيرهم و رؤاهم و استيعابهم للخلاص من هذه الورطة، كما ابتدع مفكروا آخر الزمان طريقة لانقاذ الفقراء من استغلال الاغنياء بتحريم الملكية الفردية على أنها علّة الظلم والطغيان والتوزيع غير العادل للثروة وفرص العمل، فحاولوا إصلاح المشكلة في جانب، فحصل خرقٌ من جانب آخر، فاذا كان العامل والفلاح أجيراً لدى الطبقة الارستقراطية، وجد نفسه اليوم أجيراً لدى الطبقة السياسية والحزبية الفاسدة.

أما اليوم، وبعد ديكتاتورية الحكم والقبيلة، تسرّب الأمر الى المجتمع الصغير (الأسرة) عندما صار بعض أولياء الأمور –ولا نقول كلهم- يمارسون الاستبداد والديكتاتورية بأبشع صورها مع افراد الأسرة ضاربين عرض الحائط أي مفهوم ايجابي للاختلاف في الرؤى والافكار، وهو ما خلق مشكلة فرعية سببت في خرق مجتمعي وثقافي كبير بفضل العالم الافتراضي المفسيح (الانترنت) المتاح امام الأولاد والشباب الذي وفّر لهم فرصة الإدلاء بآرائهم والتعبير عن مشاعرهم ورغباتهم، بقطع النظر عما اذا كانت صحيحة أم غير ذلك.

مع ذلك، المشكلة ليست عصية على الحل عندما نعرف أنها ليست مشكلة حقيقية بقدر ما هي إفراز لحالة انسانية وظروف اجتماعية، فقد نقل آية الله السيد جعفر الشيرازي في كتابه "محاضرات ثقافية" عن علماء النفس بأن "حالة الاستعلاء تظهر في الشخصية النمطية الجامدة او المتسلطة، ومن ثمّ فلا وجود لغريزة التعصّب والاستعلاء في نفس الانسان، وإنما هناك استعداد للوصول الى هذه الحالة، ينمو مع التنشئة والتربية التي يتلقاها الانسان من مجتمعه".

ثمة خطوات عملية من شأنها إعطاء صورة ناصعة مع نتائج باهرة لاختلاف الآراء والأمزجة والقناعات في شتى الميادين، وأنها هي التي تصب في صالح الانسان لا الفردية والتعالي وعبادة الذات، بشرط تخليصها من هذه الصفات، لتكون حالة طبيعية في حياة البشر، ومن هذه الخطوات:

1- تقويم النفس والسلوك

أكد العلماء أصالة الاستعلاء في مراحل التنشئة الأولى للطفل، فالأبوان لهما مدخلية مباشرة في تنمية حالة الكِبر عند طفلهما على سائر أقرانه، وإلا؛ نحن نعرف أن الطفل من حيث الفطرة والمبدأ يلعب مع أقرانه ويتبادل معهم الالعاب و الاطعمة، ويلهو معهم دون شعور معين بالتمايز حتى وإن كانت المجموعة تضم الفقير والغني، او الاسود مع الابيض، ولكن دخول المؤثرات الخارجية تبعثل للطفل ايعازات خاصة بأنه ليس كالآخرين، ولا يجب عليه التعامل مع الاختلاف الموجود بايجابية، كأن يكون "حبّاب"، أو وديع، فهو من أسرة غنية، او متعلمة، او من جنس، او قومية اخرى لها الافضلية.

هذه التوجيهات تنمّي لدى الطفل شعوراً بالكِبر والعلو على الآخرين، فتكبر معه في مراحل حياته حتى يصل الى مراحل متقدمة يكون فيها مسؤولاً في دائرة حكومية، او استاذاً في الجامعة، او مديراً او مسؤولا في الدولة، بل وحتى كاسب عادي او تاجر في السوق، فان تعامله وسلوكه سيصطبغ بهذه المنهجية التفكيكية –إن صح التعبير-.

وهذه المعضلة النفسية والاجتماعية القائمة اليوم، والتي شوهت مفهوم الاختلاف، وقلبت الموازين، تحتاج لعمل جماعي منظم لمواجهة مشكلة جماعية في حد ذاتها، لان ثمة شعب بأكمله يرى إن اختلافه مع شعب آخر في اللغة او المستوى المعيشي او الثقافي مبرر للتعالي عليه، بل واستغلاله بأبشع ما يكون.

فإضافة الى المنهج التربوي الواجب تعديله وتقويمه مما هو عليه من الاعوجاج، نحتاج الى جهد إعلامي –ثقافي مشترك يكافح هذه المشكلة في النفوس ليتسنّى تعديل السلوك والتفكير إزاء المختلف الآخر، مثلاً؛ ما يكتب ويُقال عن شعب متقدم اقتصادياً وسياسياً، ثم يُقارن بشعب آخر مبتلى بتخلف سببه فساد الحكام و خطل النظام الاقتصادي، مما جعله يتخبط في التبعية والفوضى، فذاك يُوسم بالذكاء والنجاح والتفوق، وهذا تلصق به تهم الكسل، والخذلان، وصفات أخرى ليس من الانصاف إطلاقها بشكل عام.

بل العكس؛ بإمكان المؤسسة الاعلامية النهوض بدور حضاري و انساني عظيم في الدعوة الى تبادل الخبرات والتجارب بين الشعوب المجتمعة على انتماءات الدين والتاريخ والجغرافيا لتحويل الاختلاف الموجود الى فرصة للتنمية والتطور ينتفع منها الجميع؛ هذا فضلاً عن الحديث في المجال الاخلاقي والروحي الواسع النطاق الذي طالما كتب وتكلم عنه العلماء والباحثون مشكورين وما يزالون ولله الحمد، مثل؛ التعاون والتكافل والإيثار وسائر الصفات الحميدة.

2- حرية التعبير للوصول الى الحقيقة

عندما نتحدث عن حرية التعبير ينصرف الذهن فوراً الى الحريات السياسية؛ للأفراد والجماعات، بينما هذه الحرية نجدها مهملة مستصغرة في جوانب اخرى لا تقل أهمية ومدخلية في مختلف جوانب الحياة، ومن أبسط الامثلة على ذلك؛ المدرسة والجامعة، فهل من حق الطالب أن يقف أمام الاستاذ ليبدي له رأيه في مسألة منهجية او فنية في التعليم؟ في أحسن الافتراضات؛ التجاهل، او التهرّب من الاجابة، بل وفي دائرة أكثر دقّة؛ الأسرة؛ من المفترض ان يكون للأولاد حق التعبير عن رأيهم في مسائل اقتصاد الأسرة، او طريقة التعامل فيما بينهم، او مع الجيران، وحتى ما يتعلق بالتوجه الفكري والثقافي السائد في الوسط العائلي.

يبدو أن البعض ممن يجدون في اختلافهم علواً على الآخرين، اقتصار الحقائق عليهم هم دون سواهم، وهم في ذلك يتسببون في خلق أزمات معرفية غير مرئية لا تلبث ان تتحول الى أزمات ثقافية وفكرية عارمة تؤثر على الوضع السياسي والاقتصادي في البلد برمته، وكيف لا، وقد شُيدت الاسوار العالية أمام ذوي الرأي المختلف، مع دفعات من القمع بأشكال مختلفة، "وبغيات حرية التعبير لا يمكن السعي نحو كشف الحقيقة؛ لان الحقيقة واحدة، وقد يتوصل اليها البعض دون الآخر، فاذا تم السماح للجميع بالتعبير عن آرائهم فسوف يتمكنون من تشخيص الصحيح من السقيم".

ولا نجانب الحقيقة اذا أشرنا الى حركات جماهيرية عارمة شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية استهدفت السلطة الديكتاتورية، فتحت شعار المطالبة بحرية التعبير تم تعبئة الآلاف ممن حرموا من هذه الحرية قبل نزولهم الى الشارع ومقارعة الديكتاتورية والفساد، فهم يهتفون ويصرخون، واحياناً يغضبون ثم يحطمون في درجة غليان تصل الى حد الانفجار وسفك الدماء، وهم أبعد ما يكونوا من حقائق الامور، ولا أدلّ على هذا من اندلاع انتفاضات جماهيرية في الشوارع بشعارات لا يجد اصحابها لها أثراً في مرحلة ما بعد هذه الانتفاضات.

3- القبول بالآخر والتنافس الشريف

في جلساتنا الودّية بين الاصدقاء تتطاير مفردة بشكل متكرر وغريب جداً خلال الاحاديث الجانبية، وربما تزداد وتيرتها اذا احتدّ النقاش حول مسائل خلافية ذات مدخلية في السياسة أو الدين او الاخلاق، وهي؛ لا!

حتى وإن حصلت إنتقالة الى اللهجة الايجابية فان هذه ال "لا" ملاصقة للألسن بشكل مُطرف، فيقول احدهم: "لا زين"! مما يكشف عن سريرة تنطوي على رفض غير مقصود للآخر، واستجابة للعقل الباطن بعدم التنازل والقبول بالآخر، واستحسان رأيه الخاص رغم سيادة الجو الايجابي للحديث.

المقبولية والتفاعلية ليست بالضرورة دعوة للرضوخ والانحناء للآخر، بقدر ما هي رغبة نفسية مع انعكاس في السلوك لتحويل الاختلاف السلبي الى تنافس شريف على طرح الافكار والرؤى، ثم العمل على تطبيقها واقعياً من خلال ابتكار افضل الطرق واسلها وأقلها تكلفة.

كل هذه التفاصيل وأمثالها من شأنها أن تمحي الآثار السلبية للاختلاف بين الافراد والجماعات، و ابرزها حالة الاستعلاء، بل ومعالجة هذه الحالة المرضية ومن ثم التخلص منها نهائياً.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا