اللّيِن والطريق الى المودّة
محمد علي جواد تقي
2023-01-17 06:54
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}
حلو اللسان، وحسن المعشر، وطيبة القلب، سمات تبعث على الارتياح، يتمناها الجميع لأنفسهم من الجميع! فهي انعكاس للفطرة السليمة المحبّة للخير، وما تستدعي من خصال كريمة، ومنها اللين في الكلام والسلوك، كونه يمثل احدى الصفات الاخلاقية ذات الطابع الاجتماعي المؤثر في سياق العلاقات بين الافراد بشكل عام، وأيضاً؛ بين أفراد الأسرة الواحدة.
هذه الأمنية الجميلة لا نجدها على صعيد الواقع كقاعدة اساس للسلوك والثقافة في معظم مجتمعاتنا، وإن وجدت فهي ليست بالنسبة المرجوة كما هي الرغبة النفسية لدى الجميع، بسبب عدم تطابق هذه الصفة مع مقتضيات الواقع المعيشي والاقتصادي وحتى السياسي، فمن يجرب اللين والرِفق مرة واحدة في السوق او الدائرة الحكومية او خلال حركة السيارات في الشارع، فانه سيشعر بالغربة الاخلاقية وسط تسابق محموم على التملّك والظهور والاستحواذ بكل اشكاله، حتى وإن كان ثمنه جرح مشاعر طفل صغير في البيت، او انسان فقير الشارع.
توفير الأجواء اللازمة
كما هي البركة المليئة بالمياه الآسنة لن تحظ بالمياه النقية إلا بإزالة كامل المياه الآسنة، ثم تنظيف البركة جيداً حتى لا يبقى شيئاً من الاوساخ في المياه الجديدة والنقية، ينطبق الأمر تماماً على الصفات الحسنة في النفس، فاللين والرفق في الكلام والسلوك لن نجد له أثراً ما دامت القسوة مستوطنة في النفوس، وما يُصطلح عليه بـ"الخُرق"، وهي الصفة التي تطبع شخصية بعض الناس هذه الأيام رغم النهي والتحذير من مآلاتها السيئة على الفرد والمجتمع في الاحاديث الشريفة المروية عن المعصومين، عليهم السلام.
مكافحة هذه الحالة، او الحدّ منها، ليست مسؤولية تقع على عاتق صاحبها فقط، بقدر ما هي مسؤولية المتعرضين لهذه الحالة من المحيطين اجتماعياً، فأحياناً يقول قائل: لا أشعر بشيء غير طبيعي في سلوكي وطريقة كلامي، وضعي طبيعي! و لهذا اسباب نفسية لسنا بوارد الخوض فيها، ولماذا هذا الانكار او التهرّب، مما يستدعي الأمر مساعدة الآخرين بتوفير الأجواء اللازمة لتنمية حالة اللين في التعامل البيني، كأن تكون الردود على الانفعال والقسوة بالابتسامة، او الهدوء، والتذكير بالامور الايجابية للتخفيف من سخونة الموقف، ثم إزالة عوامل الانفعال نهائياً.
واحياناً تكون الهدايا والزيارات والاتصالات لاستعلام الحال والاخبار بين العوائل والاقارب والاصدقاء ذات مدخلية واسعة لخلق حالة اللين في النفوس مهما كانت ترسبات الغضب والكراهية والحساسيات، فالانسان يبقى كائناً يجمع الغرائز والنزعات، وايضاً المشاعر الانسانية، فهو لا يقوى أن يبقى منبوذاً او محل إشارة من الناس بأنه صعب المعشر، أما اذا حصلت المقاطعة مع هذه التركيبة الفطرية والإلهية فان النتيجة لن تكون سوى الخسارة لصاحبها، وهي الحقيقية التي ينبهنا اليها القرآن الكريم في أهمية "التواصي بالحق"، في سورة العصر عندما يقُسم الرب بالعصر {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
هذا التواصي والدور الاجتماعي التكاملي لبعث روح الأخلاق في النفوس، يؤكد حيوية الأخلاق كقيمة اجتماعية مقدسة، وأن "خصال المحبة والتعاون والصداقة ليست قوانين جامدة بقدر ما هي منهج للسلوك، فقد أكد الاسلام على حرمة التفرقة، الغيبة، والنفاق، وسوء الظن، كثرة المزاح، وشدد على عوامل توطيد المحبة والمودة والثقة المتبادلة". (الحياة في ظل الأخلاق- المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم شيرازي).
فوائد ملموسة
ربما تكون للغلظة والشدّة فوائدها الكبيرة في جميع مجالات الحياة، حسب تصور البعض، فان اللين والودّ له آثار ايجابية ملموسة، ولن تكون مدعاة للندم مطلقاً، بل العكس تماماً؛ مدعاة للفخر والاعتزاز لانها ستكون من لبنات الكيان الاجتماعي الكبير والمتماسك، أما لماذا لا نجد مصاديق عملية لهذا القول، فبكل بساطة؛ ابتعادنا عن النموذج الصحيح المؤدي بنا الى السعادة في الحياة، واتباع نماذج أخرى نتصور أنها كفيلة بتحقيق ما نريد.
أول من خلق مصداقية عملية للّين في القول والفعل؛ رسول الله، صلى الله عليه وآله، في ذلك المجتمع الغارق في القسوة والغلظة والخشونة في كل شيء، بل كانت هذه الخصال جزء من ثقافة المجتمع الجاهلي، وثمة روايات تاريخية عديدة عن حالات تعرض لها النبي الأكرم مع كثيرين واجهوه بالغلظة والقسوة، فردّها بالابتسامة، او الكلام اللّين والهادئ، وبهذا الاسلوب تمكّن النبي من مدّ جسور العلاقة مع أفراد المجتمع المكّي، ومع سائر ابناء القبائل العربية التي لم يكن لها عهد باللّين والتسامح والودّ، إلا من بعض الخصال الأخلاقية ذات الطابع الشخصي لتطبع صاحبها بأنه "كريم"، او "شجاع"، فسهل عليه، صلى الله عليه وآله، التأثير عليهم، وفتح قلوبهم لنفحات الإيمان والأخلاق وقيم السماء.
والفائدة الأخرى الأكثر أهمية في البناء الاجتماعي جسدها النبي الأكرم ايضاً؛ "تنبيه هؤلاء الى أخطائهم، ثم يتأثرون بهذه الأخلاق ويدخلون في دين الله أفواجا"، (بحوث أخلاقية- السيد جعفر الشيرازي)، وقد كشف القرآن الكريم حقيقة نفسية لدى الانسان بأنه لن يكتشف خطأه بخطأ مماثل من الطرف المقابل، وإنما بنقطة ضوء تدلّه على الطريق الصحيح، والآية الكريمة التي تخبر رسول الله بأن لولا صفة اللين عندك لانفضوا من حولك، ابتدأت بالرحمة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فاللين بحد ذاته يمثل رحمة سماوية للانسان مثل ماء المطر ينبغي الاستفادة منها، وجعلها بنداً أساس في سلوكنا وثقافتنا ليعرف الجميع فائدة اللين، كما يعرف في الوقت نفسه؛ مضار القسوة والغلظة في جميع نواحي الحياة.