اللهو.. فعلٌ جميلٌ خادع

محمد علي جواد تقي

2022-07-12 07:15

"إن القلوب تملّ كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".

أمير المؤمنين، عليه السلام

الشعوب والأمم السابقة كانت تضمّ شريحة المفكرين ممن يبذلون جهداً ذهنياً، وهم الشريحة الأقل عدداً على مر التاريخ، كما تضم الشريحة الأكبر من الناس العاملين بجهدهم العضلي، ومعروف أن الشريحة الأولى هي الأقدر على توجيه الناس وقيادتهم، لأنهم يخططون ويصنعون المناهج والبرامج، ولا يتعلق عملهم بمكان او زمان، ربما تعمل ادمغتهم وهم بين النوم واليقظة، فلا وقت للفراغ لديهم، وهذا بدأ منذ مدارس اليونان القديمة التي خرجت الفلاسفة والمفكرين، وحتى العصر الحديث حيث تنكبّ شريحة محدودة من العلماء والفنيين على تجاربهم و ورشهم لتقديم الجديد من الاكتشافات والابداعات، فاذا كان يقال لباستور –مثلاً- او اديسون، أو مدام كوري، وأقرانهم؛ هلّا خرجت معنا لقضاء بعض الوقت على الشاطئ او حضور مسابقة الخيول، او التفرّج على مصارعة الثيران، لكان الردّ مزيج من الاستخفاف والرثاء لحال المتحدث، بينما الملاحظ من عامة الناس –وليس كلهم بالطبع- فانهم يميلون الى حضور أماكن اللهو واللعب لوجود فسحات طويلة من الوقت، بعد قضاء ما يلزم لكسب قوت يومهم في ساعات الصباح الى وقت الظهيرة.

فكرة اللهو تطورت في الغرب مع تطور الاقتصاد وارتكازه على نظرية المنفعة، فأضحى اللهو كفكرة ونزعة لدى الانسان، فرصة ذهبية لجني الارباح، فانطلقت الشركات والمؤسسات لانتاج أحدث وأجمل وسائل اللهو واللعب لتجذب الملايين في داخل البلد وعلى مستوى العالم، وتكسب الملايين والمليارات من خلال المتابعة والمشاركة والحضور لبرامج تلفزيونية، وحفلات غناء وموسيقى، وصالات لعب مختلفة، الى جانب السينما والرياضة رغم الجدل الدائر بين أن يكون الهدف والغاية في الجوهر، وهو اللياقة البدنية، والفن، والثقافة، وبين أن يكون المظهر في قتل وقت ثمين على أمور لا فائدة يجنيها المشاهد إلا القليل مما يتحدث عنه البعض من نشر ثقافات الشعوب من خلال السينما والمسرح والتلفزيون.

لماذا نبحث عن اللهو رغم الخسارة؟

بداية علينا الوصول الى تعريف لغوي لفعل اللهو، حتى نصل الى المفهوم؛ "اللهو؛ بفتح فسكون، مصدر لَهَا، الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، كاللعب بالنرد ونحوه".

وبما أن علماء اللغة، قبل غيرهم من العلماء، وضعوا أصبعهم على العلّة الغائبة؛ "الحكمة" وضياعها في متاهات اللهو واللعب وقضاء الوقت بما يضر ولا ينفع، فان الاجابة على السؤال ببساطة؛ الفراغ الروحي قبل فراغ الوقت لدى البعض، فمن لديه خطة عمل يومية، أو منهمك في التحصيل الدراسي والعلمي، او لديه تطلعات و اهداف في حياته يريد تحقيقها من الصعب ان تجذبه أقوى المغريات الموجودة على الهاتف النقال مهما كانت الالعاب جذابة، والبرامج والمقاطع والتطبيقات مغرية، لانه يدرك جيداً أن وراء كل تطلعاته "حِكم" تعود عليه بالفائدة في قادم الأيام، و أي توجه آخر يعني خسران الحاضر والمستقبل.

البعض له رأي آخر غير هذا، فهو يتحدث عن تنفيس الهموم، و الترويح عن النفس، وإن اقتضى الامر هدر بعض بالمال والوقت، والتبرير هنا يبدو فضافضاً، فهل تزول الهموم وتسعد النفس باللهو؟ لاسيما و أن لهو هذه الايام محوره العالم الافتراضي البعيد عن الواقع الذي يعيشه صاحبه، فمهما غاص في مقاطع الفيديو، والالعاب، والاتصالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فانه سيعود في نهاية المطاف الى واقعه السيئ، ومعيشته المأزومة.

جميع الدول المبتلاة بانسدادات سياسية و أزمات اقتصادية شائكة عصيّة على الحل، الى جانب المشاكل الاجتماعية، ومنها؛ العراق، يرون أن اللهو أمرٌ لابد منه للخلاص من وطأة المشاكل السياسية والاقتصادية وآثارها على حياتهم، و ربما يجدون في الأمر قدراً مفروضاً عليهم، والسبب واضح؛ عجزهم عن حل مشكلاتهم، ثم التفرّج على المسببين لهذه المشكلات والازمات من أشباه "المسؤولين" السياسيين الفاسدين.

المشكلة في هذه الحالة أنها لا تنحصر في سلوك فردي خاص، وإنما لها انعكاسات سيئة على المحيط الاجتماعي؛ الأسرة وافراد المجتمع من خلال ظاهرتين من جملة ظواهر يلحظها –ربما- الجميع:

الاولى: هدر المال المتعلق بميزانية الأسرة –على الاغلب- ففي معظم الحالات تتم تغطية تكاليف الالعاب الالكترونية، او شراء الدراجات وأجهزة الهاتف النقال، وأمثالها، من ميزانية الأسرة، ويشترك في هذا من لديه دخل متوسط الى دخل عالٍ من المورد المالي، حيث يوجد دار مملوكة، وسيارة، وراتب جيد، ومن يسكن العشوائيات ويعمل بائع خضار في السوق، في حين بامكانهم التوفير قدر الامكان لليوم الأسود -كما هو المثل: القرش الابيض ينفع لليوم الأسود- عندما يكون طريقهم نحو الطبيب او المستشفى او حالات طارئة اخرى، وهذه من الامور الغائبة عن اذهان الكثير للأسف الشديد.

أما الظاهرة الثانية: فهو ما يتعلق بالمحيط الاجتماعي العام الذي يجد انه مرغم على تقبل اصحاب الدراجات النارية والسيارات بأصوات التزمير العالية، وأصوات الاغاني والموسيقى المرتفعة.

لا إفراط ولا تفريط

كل ما مرّ لا يعني بأي حال من الاحوال ان تكون حياتنا كلها جدّ والتزام وانضباط وعمل مستمر من أول ساعات الصباح وحتى أن يحل وقت النوم، فهذا لا يقبله عقل، وقد قالها أمير المؤمنين: "إن القلوب تملّ كما تملّ الابدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".

ليس من الحكمة أن نكون مثل اليابانيين –مع الفارق طبعاً- عندما انهمكوا طيلة ثلاثين سنة من الستينات الى السبعينات ثم الثمانينات في العمل الدؤوب بالالكترونيات وصناعة السيارات والمكائن، وبناء الطرق والجسور، ولم يتركوا فسحة زمنية للراحة والتقاط الانفاس، فلم نعرف عنهم شيء سوى الاجهزة المنزلية المُحكمة، والسيارات الجميلة، وسلع استهلاكية عديدة، حتى بانت الحقيقة وعرفنا أن اليابان ضحت بجيل كامل من شبابها في المصانع والمختبرات العلمية فتحولوا الى شيوخ طاعنين في السنّ لم يخلفوا أولاداً ليكونوا شباب المستقبل، فتحول المجتمع الياباني الى مجتمع العجائز، وكانت النتيجة ان حلّت محلها كوريا الجنوبية في احتلال الاسواق العالمية بنفس المنتجات.

كما ليس من الحكمة في شيء التفريط بالوقت الثمين والامكانات الهائلة عندنا دون مقابل، بل ليس من الحكمة أن تكون حياة الانسان العراقي "أشبه بالممات، فهو يعيش كآلة من أجل تحقيق رغباته"، (من حكمة لقمان، تدبر في سورة لقمان- السيد مرتضى المدرسي)، فاضافة الى وجود السلع الاستهلاكية من حوله، يتحول هو الآخر الى مادة للاستهلاك لخدمة أناس آخرين يقبضون الملايين، بل المليارات من لهو مخادع، بينما بالامكان تحقيق "تغيير الجوّ" والتنويع في الممارسات اليومية من خلال المطالعة العلمية والثقافية، لاسيما الأدب والشعر المتضمن للحكمة، قالها رسول الله، صلى الله عليه وآله: "إن مِن الشعر لحكمة وإن من البيان لسحر"، واختيار ما يتضمن العِبر والتجارب والدروس.

الى جانب هذا ينبغي تكريس ثقافة التزاور بين العوائل والاصدقاء لما لها من الفوائد المعنوية (صلة الرحم)، والمادية لتبادل الاخبار والافكار بين الاصدقاء.

ولا بأس من الاستجمام ومداعبة الطبيعة الخلابة التي خلقها الله –تعالى- للانسان، حيث المزارع والبساتين والمناطق المزروعة والمشجرة والمرتفعات الجبلية، والبحيرات والانهار، ومتابعة الطيور والحيوانات البرية، كلها؛ من المناظر الباعثة على الراحة والسكينة، بل المُذكرة بحجم النِعم المسخّرات للانسان، وما عليه فعله بالمقابل ليكون صاحب هدف وغاية سامية في الحياة، كما أن لوجود الطيور والحيوانات في الطبيعة غاية لدى خالقها، وأن لا شيء عبث في هذه الحياة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي