ترامب يطلق العنان للنفط المجنون

د. نبيل جعفر المرسومي

2019-04-03 06:48

في عام 1956 قدم الجيولوجي الأمريكي كينج هيوبرت نظريته حول ذروة النفط بناءا على دراسته الأولية على 48 ولاية أمريكية تمخضت عن توقعاته بوصول انتاج النفط الأمريكي الى ذروته في اوائل عقد السبعينات من القرن الماضي. وفعلا كانت توقعات هيوبرت دقيقة نسبيا في مراحل زمنية معينة عندما قدر بلوغ ذروة النفط في أمريكا بداية عام 1970 بكمية إنتاج تعادل 3.5 مليار برميل في السنة (أي عند مستوى 9.6 ملين برميل في اليوم)، اذ انخفض إنتاج الولايات المتحدة منذ بداية السبعينيات باستمرار إلى ان وصل إلى 5.4 مليون برميل يوميا في عام 2004 أي بنسبة هبوط 44% ثم وصل إلى 5.1 مليون برميل يوميا عام 2007 وبعد ان كانت الولايات المتحدة دولة مصدرة للنفط اصبحت دولة مستوردة له.

غير ان انتاج النفط في الولايات المتحدة على خلف نظرية هيوبرت عكس مساره التراجعي بالصعود في الإنتاج بسبب زيادة انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة بأكثر من 4 مليون برميل يوميا. ومنذ ان تسنم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في 20 يناير 2017 والإنتاج الأمريكي من النفط الصخري في تصاعد مستمر وخلفا لسلفه الديمقراطي، باراك أوباما، الذي شجع مصادر الطاقة المتجددة، توعد ترامب باستئناف استخراج الفحم وبتسهيل استغلل النفط الصخري ومصادر الطاقة الأحفورية بشكل عام.

وقد دعت أوساط الصناعة النفطية في أميركا ترامب إلى رفع القيود والقوانين الـ١٤٥ والقرارات التنفيذية التي وضعها الرئيس باراك أوباما في هذا القطاع، وطالبت الرئيس الجديد بإعادة فتح المياه الأميركية للتنقيب. كان أوباما قد منع بشكل دائم الحفر في مساحة مائية تمثل ٩٨% من المساحة الأميركية في القطب الشمالي. وترامب الذي يشجّع رفع القوانين المعيقة عيّن كارل إيكان مستشارا لتسهيل القوانين البيئية أمام الصناعة الأميركية. إن الإنتاج الهائل من النفط والغاز الصخري بواسطة التكسير المائي يجري وسط حملة احتجاج واسعة في الولايات المتحدة تقوم بها منظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا حماية البيئة. وتدرج هذه المنظمات المحاذير الأتية:

● التخوف من تلوث طبقات المياه العذبة القريبة من السطح بالمياه والمواد الكيميائية المستعملة في عملية التكسير، أو بالغاز المنتج.

● تلوث الجداول والأنهار بالمياه المستعادة من الآبار.

● ضجيج الشاحنات الهائلة الحجم التي تنقل المعدات والمياه والرمال، وتصاعد الغبار، وتأثير هذه الإزعاجات اليومية المتواصلة على حياة الناس الأهلين في المنطقة.

● الهزات الأرضية الضعيفة الناتجة عن حقن كميات هائلة من المياه.

● حرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط، لكثرة الآبار المنتشرة على رقعة واسعة وعدم توافر الكابسات ومعامل معالجة الغاز، كما هي الحال في والية داكوتا الشمالية الأميركية.

وعلى العموم فإن التوسع في استغلال مصادر النفط والغاز الصخري قد واجهته مجموعة من القيود والعقبات، ففي الجوانب البيئية تزايد القلق من احتمالات التأثير على البيئة والصحة العامة وبخاصة التأثيرات المختلفة على مياه الشرب، وعلاقة تقنية التكسير الهيدروليكي بظاهرة الزلازل، ومشكلة التخلص من المياه المستخدمة في تكسير الصخور الرسوبية والملوثة بالكيمياويات، فضلا عن الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز الصخري التي تسهم بدرجة كبيرة في تلوث البيئة.

بدأ الإنتاج الواسع للنفط الصخري باستعمال الحفر الأفقي الطويل المدى لملامسة حيز كبير من الطبقة واستخدام التكسير المائي المتعدد المراحل. ان دمج تقنية الحفر الأفقي مع تقنية التكسير الهيدروليكي قد فتح المجال امام انتاج النفط الصخري بطريقة اقتصادية. والتكسير الهيدروليكي يعني حفر بئر نفط عمودية للوصول الى الطبقة غير المنفذة للسوائل في الصخور المحكمة الموجودة في اعماق بعيدة عن سطح الأرض، ثم يتم حفر البئر بالاتجاه الأفقي للوصول الى المناطق المستهدفة. ويتم بعد ذلك ضخ كميات كبيرة من الماء الساخن والرمل والمواد الكيميائية بضغط عال لإحداث شقوق في السجّيل تتيح انسياب الغاز أو النفط الخفيف وإنتاجهما بعد تنظيف البئر من المياه المستعملة. تتطلب عملية تفتيت الصخور ضخ كميات كبيرة من المياه تقدر بحوالي خمسة براميل ماء لكل برميل واحد من النفط يتم دفعها مع المذيبات بواسط مضخات كبيرة توجه مباشرة الى تشكيلات الصخور الرسوبية في باطن الأرض من اجل تكسير الصخور لاستخراج النفط الحبوس بداخلها، بعد ذلك ينقل النفط من خلال الأنابيب المعدة لغرض تكريره وتحويله الى مشتقات نفطية.

وحيث ان الصخور قليلة النفاذية، فإن كمية محدودة من النفط والغاز الموجودين في المنطقة المتاخمة للكسور المستحدثة او الطبيعية يمكن استخراجها. ولذلك تتعرض آبار النفط والغاز الصخري الى تراجع سريع في انتاجهما مما يتطلب تخصيص استثمارات كبيرة لعمليات الحفر وتطوير البنية التحتية والمحافظة على مستويات الإنتاج.

وقد ادت السياسات الأمريكية الجديدة في مجال الطاقة التي تبناها ترامب دورا محوريا في زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري اذ بعد أن ادى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب اليمين، اختفت الملفات الخاصة ببرامج مكافحة التغير المناخي من صفحة البيت الأبيض، والغى القيود المفروضة على قطاع الطاقة الأميركي وجعل المجتمعات المحلية كما يقول قادرة على الاستفادة من هذه الثروة الجديدة. ولم تكن خطوة ترامب مفاجئة إذ أن الرئيس الأمريكي الجديد يرى أن الاحتباس الحراري خدعة صينية لإبطاء القدرات التصنيعية والإضرار بتنافسية صادرات الولايات المتحدة الأمريكية.

ويؤيد الرئيس الجمهوري الجديد مشروع بناء أنبوب “كيستون اكس ال” بين كندا والولايات المتحدة الذي أوقفه أوباما، كما وعد بإتاحة استغلل قسم أكبر من الأراضي العامة على المستوى الفيدرالي ال سيما في آلاسكا. ولم يقتصـر الأمـر على ذلك، بـل يريد ترامب إلغاء القانـون المتعلـق بتلوث الهـواء (خطة الطاقة النظيفة) والهـادف إلى خفـض حصـة الفحـم المستخدمـة في إنتـاج الكهـرباء.

ونتيجة للسياسة الأميركية الجديدة التي تبناها ترامب فقد ارتفع إنتاج النفط الصخري الأمريكي الى 6.217 مليون برميل يوميا في عام ٢٠١٧، ثم ارتفع الى 6.517 مليون برميل يوميا في يناير عام 2018 ثم قفز الى 8.223 مليون برميل يوميا في يناير عام 2019 وهو ما ادى الى ارتفاع انتاج الولايات المتحدة من النفط الخام الى 12 مليون برميل يوميا محتلة بذلك المرتبة الأولى في العالم في انتاج النفط الخام.

وقد ادت الزيادات الكبيرة في انتاج الولايات المتحدة الى انخفاض واردات الولايات المتحدة من النفط الخام الى 7.5 مليون برميل يوميا في شهر ديسمبر 2018 منخفضة 131 ألف برميل يوميا عن الشهر الذي سبقه فيما ارتفعت صادراتها من النفط الخام الى 2.4 مليون برميل يوميا. وقد ادى ذلك الى انخفاض صافي واردات الولايات المتحدة من النفط الخام الى 5.015 مليون برميل يوميا في شهر ديسمبر 2018 بعد ان كانت 5.828 مليون برميل في شهر سبتمبر 2017 وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية في صافي وارداتها من النفط الخام بعد الصين التي تصل صافي وارداتها الى 10.331 مليون برميل يوميا في ديسمبر 2018.

وتوقعت وكالة الطاقة الدولية، إن الولايات المتحدة ستقود نمو إمدادات النفط العالمية خلل السنوات الخمس المقبلة، إذ ستضيف أربعة ملايين برميل أخرى يوميا إلى إنتاج البلد المزدهر بالفعل. وذكرت الوكالة في توقعاتها للخمس سنوات القادمة ان تقود الولايات المتحدة بشكل متزايد نمو إمدادات النفط العالمية، مع توقع نمو كبير أيضا لدى منتجين آخرين من خارج أوبك، من بينهم البرازيل والنرويج والمنتج الجديد جيانا. وأضافت: بنهاية فترة التوقعات (2024)، ستتخطى صادرات النفط من الولايات المتحدة روسيا وتكون قاب قوسين أو أدنى من السعودية، ما يوفر تنوعا أكبر في الإمدادات. وبحلول العام 2024، ستظل الولايات المتحدة تشكل 70 في المائة من نمو إنتاج النفط العالمي وقالت إن العراق سيعزز مكانته بين أكبر المنتجين، ليصبح ثالث أكبر مصدر للإمدادات الجديدة في العالم ويقود النمو داخل أوبك.

ومن المتوقع ارتفاع إنتاج الدول من خارج منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بمقدار 6.1 مليون برميل، ليصل إلى 68.7 مليون برميل يوميا العام 2024، في المقابل يتوقع التقرير انخفاضا في إنتاج أوبك بين عامي 2019 و2020، قبل أن يرتفع بشكل «معتدل» ليصل إلى 32 مليون برميل يوميا العام 2024.

وسيؤدي قرار تحالف المنتجين في "أوبك" وخارجها "أوبك+" بتقليص المعروض النفطي بنحو 1.2 مليون برميل يوميا لامتصاص وفرة المعروض في الأسواق، إلى إنتاج محتمل أعلى من النفط الصخري في الولايات المتحدة في الفترة المقبلة.

ان زيادة الإمدادات الأمريكية على نحو واسع ستدفع "أوبك" إلى إعادة حساباتها خاصة أن الإنتاج الأمريكي مرشح لمزيد من النمو بعد التغلب على اختناقات النقل من خلل تدشين ثلاثة خطوط أنابيب عملقة جديدة في العام المقبل. اذ أن "أوبك" تقوم بإعادة هيكلة نفسها للتواؤم مع متغيرات السوق خاصة العوامل الجيوسياسية الطارئة، حيث تواجه ذلك من خلال دمج روسيا وغيرها من المنتجين في منظومة عمل مشتركة وثابتة.

إن صناعة النفط الصخري هي «سوق بلا عقل» كما يصفها بوب دادلي، الرئيس التنفيذي لـ«بريتيش بتروليوم»؛ لأن الشركات تنتج على أساس الإشارات السعرية للنفط وليس على أساس العرض والطلب. ولهذا يوصف تفكير شركات النفط الصخري دائما بأنه قصير الأجل ويساعدهم في ذلك طرق الإنتاج؛ إذ كل ما يتوجب عليهم فعله هو تحريك الحفارة إلى الموقع وبدء الحفر، أو سحبها من الموقع؛ إذ لم يعد هناك حاجة إلى ذلك. هذا الأمر هو سر نجاح شركات النفط الصخري بعكس شركات النفط التقليدي؛ وذلك لأن إنتاج الأخير يتطلب دراسة للمكامن وبناء محطات معالجة، والكثير من الأمور الأخرى؛ من أجل الحفاظ على سلامة المكامن. أما النفط الصخري فيتم استخراجه بالتكسير الهيدروليكي للصخور، وهذا لا يتطلب الحفاظ على المكامن وإطالة عمرها. لكن الأمور بدأت في التغير، إذ ان شركات النفط الصخري تعاني من مشكلات إنتاجية بسبب حفر المزيد من الآبار المتلاصقة؛ وذلك لأن أعمال التكسير الهيدروليكي للصخور يقلل من إنتاجية الآبار الجديدة التي تم حفرها على مقربة من الآبار القديمة. والحل هو المباعدة بين الآبار بشكل كبير، لكن بالنسبة لصناعة تعتمد على حفر المزيد من الآبار لأن معدل إنتاج الآبار يهبط بشكل كبير في أول عام، فإن الأمر صعب لأن زيادة إنتاج النفط الصخري تعتمد على المساحة وعلى عدد الآبار.

وهناك مخاطر أخرى بالنسبة للنفط الصخري، وهي شح التمويل لأنها صناعة قائمة على الاقتراض من المصارف. وبحسب تقرير سابق لـ«وول ستريت جورنال»، فإن شركات النفط الصخري جمعت 22 مليار دولار في صورة ملكية وديون (إصدار أسهم أو سندات أو اقتراض) في عام 2018، وهذا نصف الرقم الذي تم جمعه في 2016 وثلثه في عام 2012.

بات واضحا لكل المهتمين في قطاع النفط أن المعادلة النفطية العالمية قد تغيرت مع بزوغ نجم النفط الصخري خلل السنوات القليلة الماضية، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بأي حال من الأحوال. ويجب التعامل مع هذا الطرف الجديد في المعادلة دون مبالغة غير منطقية، وفي المقابل لا يستقيم تهميشه أو التقليل من تأثيره في هذه المعادلة.

وتأسيسا على ما سبق يمكن الاستنتاج بان النفوط التقليدية ستواجه منافسة شرسة من منتجي النفط الصخري الأمريكي خلل السنوات الخمس المقبلة وسيستمر الضغط على اسعار النفط الخام ومنع ارتفاعها من خلال زيادة انتاج الطاقة الأحفورية متمثلة بالنفط والغاز والفحم في الولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن زيادة انتاج الطاقة الأحفورية غير التقليدية متمثلة بالنفط الصخري الأمريكي والنفط الرملي الكندي، إذ ان ثلاثة أرباع المشاريع النفطية في العالم تأتي من الإمدادات خارج "أوبك"، وباستثناء مشروعات النفط الصخري الأمريكي، ستكون مربحة على مدى السنوات الخمس المقبلة عند سعر 35 دولارا فقط للبرميل، ما يجعل فرص نمو الخام الجديد من مناطق عالية التكلفة مثل بحر الشمال جيدة، حتى لو بقي مستوى الأسعار منخفضا". الأمر الذي سيؤدي الى إيجاد فائض من المعروض النفطي يقوض مساعي اوبك ويحول دون زيادة اسعار النفط الخام في السوق العالمية. ومع ذلك سيظل النفط التقليدي المحرك الرئيس لسوق الطاقة العالمي في المدى البعيد. وقد اكد تقرير "بتروليوم إيكونوميست" الدولي أن الاستثمارات الحالية في موارد النفط والغاز حول العالم التي تبلغ قيمتها السنوية 430 مليار دولار لا تكفي لمواكبة اتجاهات الطلب الحالية، بل توفر فقط الحد الأدنى المطلوب، مشيرا إلى الحاجة لرفعها إلى مستوى يتجاوز 700 مليار دولار سنويا لبقاء الصناعة في حالة من الرواج والازدهار، وتلبية الطفرات المستقبلية المتوقعة فى نمو الطلب على الطاقة التقليدية، خاصة في الاقتصادات الأسيوية الناشئة. كما أشار إلى أن الاستثمار التقليدي في النفط والغاز لا يزال أساسيا ومكونا رئيسيا ومحركا للاقتصاد العالمي، مشددا على ضرورة أن يظل تزايد إنتاج موارد الهيدروكربونات التقليدية من الأولويات مع تبلور التحول في مجال الطاقة. وأضاف أن "تعزيز الاستثمار في النفط والغاز التقليديين يمثل تحديا في المديين القصير والمتوسط، على الرغم من التحرك نحو مزيج طاقة مستقبلي منخفض الكربون في المستقبل".

* أ.د. نبيل جعفر المرسومي، أستاذ علم الاقتصاد في جامعة البصرة
** شبكة الاقتصاديين العراقيين
http://iraqieconomists.net/ar

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي