تسونامي الذكاء الاصطناعي: هل يغرق التعليم العالي العربي أم يرفع سفنه؟
د. ليث عبدالستار عيادة
2025-09-18 04:52
يشهد التعليم العالي في البلدان العربية مرحلة دقيقة في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجال الذكاء الاصطناعي. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي قوة مهيمنة تعيد تشكيل مختلف القطاعات، والتعليم ليس استثناءً، بل هو في قلب هذا التحوّل. ومع أن الجامعات العربية تتفاوت في بنيتها التحتية وقدرتها على التكيّف، فإن الحاجة إلى مواكبة هذا التقدم لم تعد ترفاً، بل ضرورة وجودية لبقائها ذات صلة في عالم سريع التغيّر.
من أبرز ما يتيحه الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم العالي هو القدرة على تخصيص التجربة التعليمية للطلبة، حيث يمكن للأنظمة الذكية تتبع أداء المتعلّم، والتعرّف إلى نقاط قوته وضعفه، ومن ثم تكييف المحتوى والخطط الدراسية لتناسب احتياجاته الفردية. هذا التطور يفتح آفاقًا واسعة لتحسين جودة التعليم، وزيادة فاعلية العملية التعليمية من حيث الوقت والمخرجات.
كما يُسهم الذكاء الاصطناعي في رفع كفاءة الإدارة الجامعية، من خلال تسريع الإجراءات الروتينية، وتحسين أنظمة الجدولة، والتنبؤ بالاحتياجات المستقبلية للمؤسسة.
وفي المقابل، هناك فرص كبيرة لتوظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير برامج تعليمية تلائم متطلبات سوق العمل الجديد، حيث تظهر الحاجة إلى خريجين متمكنين من تقنيات حديثة مثل علم البيانات، التعلم الآلي، الحوسبة السحابية، وأمن المعلومات. الجامعات التي تنجح في إدماج هذه التخصصات وتحديث مناهجها بما يتوافق مع هذه التوجهات ستكون أكثر قدرة على تهيئة طلبتها لسوق العمل، وبالتالي تعزيز فرصهم في التوظيف والمنافسة على المستوى الإقليمي والدولي.
لكن هذا التحول لا يخلو من التحديات. فغياب البنية التحتية التكنولوجية في بعض الجامعات، والنقص الواضح في التدريب والتأهيل، يمثلان عائقين حقيقيين أمام اعتماد الذكاء الاصطناعي بصورة فعالة. يضاف إلى ذلك غياب السياسات الموحدة التي تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، خصوصًا ما يتعلق بحماية البيانات الشخصية، وأخلاقيات التقييم، والحد من التحيّز في الخوارزميات المستخدمة.
في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال المخاوف المشروعة من أن يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي إلى تقليص التفاعل الإنساني في العملية التعليمية، وهو عنصر جوهري في بناء مهارات التفكير النقدي، والتواصل، والعمل الجماعي. كذلك هناك تخوفات من أن يؤدي انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى استبدال عدد من الوظائف الأكاديمية، ما قد يثير توترات داخل البيئة الجامعية.
مع ذلك، بدأت بعض الدول العربية تتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه. في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، يجري تطوير مناهج تعليمية جديدة تُعنى بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ضمن رؤية 2030 الطموحة. وفي الإمارات، تُعدّ الجامعات من أوائل المؤسسات التي أدخلت أدوات الذكاء الاصطناعي في التعلّم والتدريس، بل وتم إنشاء جامعات متخصصة بالكامل في هذا المجال. أما في العراق، فشهدنا مؤخراً تأسيس كليات متخصصة في الذكاء الاصطناعي وتوسيع البرامج المرتبطة بالتحول الرقمي.
من الواضح أن التعليم العالي في العالم العربي يتجه نحو لحظة فارقة. هناك دول تدفع بعجلة التطوير، وأخرى ما تزال مترددة أو تعاني من معيقات هيكلية. المستقبل، بلا شك، سيكون للتعليم الذي ينجح في دمج التكنولوجيا بذكاء، مع الحفاظ على القيم الإنسانية للتعليم، وضمان العدالة في فرص الوصول، وتكافؤ الموارد بين مختلف الفئات والمناطق. الرهان الآن هو على صانعي القرار الأكاديمي والسياسي، وعلى إدارات الجامعات، في تحويل هذا التحدي إلى فرصة تاريخية لبناء نموذج تعليمي عربي حديث، قادر على المنافسة عالمياً، ومؤهّل لقيادة التنمية في عصر الذكاء الاصطناعي.
في النهاية، التعليم العالي في البلدان العربية على مفترق طرق. الذكاء الاصطناعي ليس مسألة اختيار؛ بل ضرورة لمواكبة التغير العالمي. النجاح يعتمد على مدى استعداد الجامعات للدخول في هذا التحول الشامل: من البُنى التحتية والتكوين والتحديث المنهجي، إلى السياسات الأخلاقية والتنظيمية والشراكات المحلية والدولية.
إذا تم استثمار الفرص وتجاوز التحديات، يمكن أن ينتقل التعليم العالي العربي من كونه مستهلكاً للتكنولوجيا إلى صانع ومحور ابتكار يُساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما إذا تأخّرت الدول أو الجامعات في التكيّف، فستواجه خطر التخلّف أو البُعد عن المعايير العالمية.