الركوب المجاني: صراع بين الأسواق الحرة واقتصاد الدولة
دلال العكيلي
2017-01-22 08:38
لم يكن مفهوم الركوب المجاني دارجا في ادبيات الفكر الاقتصادي قبل ان يتناوله كتاب "منطق الفعل الجمعي" للبروفيسور "مانكور أولسن" عام 1965، وبالرغم من ورود مصطلح "الركوب المجاني" لمرة واحدة في ذلك الكتاب إلا ان المصطلح نال اهتماما لدى الباحثين يعكس اهمية المفهوم في تطوير النظريات الاقتصادية.
وهناك العديد ممن سبقوا "مانكور أولسن" في طرح هذا المفهوم بشكل مقتضب مثل "سومنر سليتشر" عام 1949 والسيناتور روبرت تافت عام 1951، وتلا ذلك شرح بإسهاب للمصطلح من البروفسور جيمس بوكانن في ورقة عمل عام 1963 وقد تطور مفهوم الركوب المجاني لتصل تطبيقاته للعديد من السياسات الاقتصادية والمفاوضات التجارية.
وتعددت تعريفات هذا المفهوم خلال القرن الماضي الى ان استقر مضمونه حديثا ليعرف بالانتفاع من الخدمات او السلع دون المشاركة في تحمل كلفة تقديم تلك الخدمات او مصاريف انتاجها، مما يجعل هذا الانتفاع عبئا اقتصاديا عند تقديم الخدمات في المرافق العامة او عبئا على قطاع اقتصادي محدد يقابله انتفاع لقطاعات اخرى.
ومن أبسط الامثلة لاستيعاب مفهوم الركوب المجاني هو استفادة المزارعين من وجود خلايا نحل مملوكة لشركات انتاج العسل، حيث يقوم النحل بتلقيح الازهار مما يرفع من نسبة انتاج الثمار التي تحقق عوائد للمزارعين دون ان يتحملوا كلفة تلقيح ازهار النباتات ويتسع المفهوم لدراسة حالات أخرى من الانتفاع يمتد أثرها السلبي الى الغير كحق الانتفاع بالهواء النقي، حيث ان انتفاع قطاع اقتصادي من انتاج خدمة او سلعة مقابل تلوث الهواء دون تحمل عبء ما يترتب على تلوث الهواء يندرج ضمن مفهوم الركوب المجاني.
ورغم ان البعض يدرج ذلك ضمن مفهوم "العوامل الخارجية للانتفاع" إلا ان المصطلحين هما وجهان لعملة واحدة ويترتب على ذلك النشاط تضرر المجتمع من التلوث خصوصا عند الافراط في الانتفاع من سقف غير محدد لانبعاثات الغازات في الاجواء المفتوحة، ما يتطلب كبح أثر النشاط الملوث للبيئة عبر فرض قيود على ذلك النشاط، وتتنوع تلك القيود مثل فرض ضريبة على مقدار محدد من الانبعاثات او تحديد سقف لها للتخفيف من وطأة التلوث على الصحة العامة.
وعند البحث عن تطبيقات لمفهوم الراكب المجاني نجد منها ظاهرة الدعم الحكومي غير الموجه، الذي يجعل نطاق الدعم الحكومي يشمل الجميع بما فيهم الراكب المجاني القادر على تحمل عبء شراء السلعة عند ازالة الدعم عنها ولكنه يحصل عليها نتيجة اتساع تطبيق الدعم ليشمل الجميع بما فيهم القادر على الاستقلال ماليا عن الدعم الحكومي.
ونجد تطبيقا آخر لمفهوم الراكب المجاني من خلال ظاهرة الافراط في استخدام الادوية، حيث ان العديد من المراجعين للمستشفيات حول العالم لا يحتاجون الى ادوية المضادات الحيوية ولكن يتم صرفها بشكل يؤدي الى هدر الدعم الحكومي لأسعار الادوية، بالإضافة الى احتمال تزامن ذلك مع قدرة الميكروبات على مقاومة فعالية الادوية والتي بدورها تؤدي الى تدني فعالية الدواء في المستقبل وهو الضرر الاضافي من ظاهرة الركوب المجاني.
ويعتبر مفهوم الراكب المجاني وسيلة للإجابة عن كيفية معالجة ظاهرة الهدر في المنافع العامة وما يطرأ من ظواهر سلبية نتيجة عدم استشعار المنتفع بأهمية الحفاظ على استدامة خدمات المرافق العامة وكلما ارتفع عدد من يسري عليه وصف الراكب المجاني لمنفعة معينة اصبح من الصعب استدامة تلك المنفعة العامة، مما يجعل مفهوم الراكب المجاني اداة فعالة في تفسير اتجاه تشريعات اقتصادية تحاول معالجة خلل الافراط في استخدام المنافع الاقتصادية، سواء كانت تلك التشريعات تتعلق بتنظيم تحصيل الرسوم المرتبطة بخدمة عامة او تقييد الحصول على منافع محددة من خلال شروط تحدد حق الانتفاع.
وقد تطرق البروفيسور الفرنسي فيليب فونتين في ورقة عمل منشورة في مجلة "تاريخ الفكر الاقتصادي" الى مفهوم الركوب المجاني، حيث اشار الى ان هذا المفهوم ساهم في ظهور الخلاف الفكري بين مؤيدي مبدأ الاسواق الحرة وبين مناصري التدخل التشريعي لتنظيم نشاط الاسواق وكان لتعدد الدراسات حول ذلك المفهوم دور كبير في تبرير التدخل الحكومي في طريقة عمل الاسواق الحرة من خلال القوانين التي قيدت نشاط الاسواق الدولية.
ومن التشريعات الاقتصادية التي ساهمت في الحد من ظاهرة الركوب المجاني في العديد من الدول وضع قيود زمنية للصيد البحري لمنع الصيد في موسم تكاثر الكائنات البحرية، حيث ان الافراط في الصيد وقت تكاثر الكائنات البحرية يعد افراطا في استهلاك منفعة عامة، ويرتب ضررا كبيرا على استقرار البيئة البحرية يتطلب وضع القواعد التي تكفل الحفاظ على الثروة السمكية في كل الدول.
وفي سوق العمل نجد تطبيقا لمفهوم الركوب المجاني من خلال استفادة القطاع الخاص من عدم وجود حد أدنى للأجور، حيث ان الشركات تنتفع من تدني الاجور للعمالة الوافدة لرفع هامش الربحية نتيجة عزوف المواطن عن اجور تلك المهن ومع ان التدخل التدريجي لوزارة العمل لمعالجة فرق الاجور ساهم في تخفيف حدة ظاهرة الركوب المجاني في سوق العمل إلا ان ظاهرة الركوب المجاني قد تستمر الى ان يتم وضع حد أدنى للأجور بناء على معايير مرجعية دولية.
الركوب المجاني ومكافحة الاغراق التجاري
كما نلحظ تطبيقا لمفهوم الركوب المجاني في مسألة مكافحة الاغراق التجاري ويقصد بالإغراق التجاري ظهور سلعة مستوردة في السوق المحلي بأسعار اقل من مثيلاتها في بلد التصدير مما يؤدي الى اضرار جسيمة للمنشآت المحلية في الدول المستوردة وعند حدوث الاغراق التجاري تقوم بعض الشركات بطلب اتخاذ التدابير اللازمة مثل فرض زيادة في التعرفة الجمركية لمعادلة اسعار السلعة المستوردة مع السلع المحلية.
او فرض قيود على كمية السلعة المستوردة او التفاوض مع الشركة الاجنبية لتسوية الخلاف التجاري وللقيام بذلك تقوم بعض الشركات بتحمل تكاليف واتعاب فريق العمل الذي يتكفل بالتواصل مع جهة الاختصاص او الشركة الاجنبية للوصول الى نتيجة مرضية لحماية السلع المحلية من الاغراق التجاري وعندما ترفض بعض الشركات دفع مبالغ مالية لتغطية تكاليف فريق العمل الذي يتولى الاعداد والتنسيق لمكافحة الاغراق التجاري فإنها تحصل على منفعة من الحماية من الاغراق التجاري والذي يعتبر تطبيقا لمفهوم الركوب المجاني.
وقد تدفع ظاهرة الركوب المجاني الى التساؤل عن امتداد هذه الظاهرة بين الدول من خلال استغلال دولة ما لمنفعة تجارية على حساب دولة اخرى ونجد الاجابة عن هذا التساؤل في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية التي تمنح اي دولة عضو في منظمة التجارة العالمية حق الانتفاع من اي ميزة واردة في اتفاقيات ثنائية تمنحها دولة عضو الى اخرى حتى لو لم تقم تلك الدولة بالاتفاق معها.
فمثلا عند قيام دولة ما بإزالة عوائق تجارية بينها مع دولة اخرى لتعزيز التبادل التجاري فإن بقية الدول الاعضاء في منظمة التجارة العالمية تستطيع الانتفاع من هذه الخطوة بالرغم من عدم قيامها بمجهود عملي للوصول الى تلك الميزة التجارية ولذلك يعتقد الكثيرون بوجود ظاهرة الركوب المجاني بين الدول الاعضاء في منظمة التجارة العالمية.
مشكلة الراكب بالمجان
يستخدم مصطلح "الراكب المجاني او الحر " في الاقتصاد لأجل الدلالة على الفرد الذي يستفيد من المصادر او البضائع أو الخدمات دون أن يدفع أجراً لهذه المنفعة استخدم هذه المصطلح أول مرة في نظرية اقتصاد en:Public Goods ,ولكن مبادئ مشابهة جرى تطبيقها في سياقات أخرى منها Collective bargaining وقانون منع الاحتكار antitrust law و العلوم النفسية و السياسية الركوب المجاني يصبح بنفس دلالة مشكلة الراكب الحر عندما توزع مخصصات بضائع او عمل بشكل سيء أو عندما يقود إلى مبالغة أو تواكل في المصادر ذات الملكية المشتركة.
هذه المشكلة التي يطلق عليها مشكلة الراكب الحر Free rider problem هي عندما تتوزع الآثار السلبية لأحد الأفعال على نطاق واسع، بينما تؤول الآثار الإيجابية بشكل كبير إلى القائم بهذا الفعل رغم أن هذا المصطلح نشأ ضمن النظرية الاقتصادية الا ان مبادئ مشابهة قد جرى استخدامها في العلوم السياسية وعلم النفس الاجتماعي واختصاصات أخرى بعض الأفراد في الفرق او المجموعات قد تخّفض من مساهماتها او ادائها إذا شعروا أن هناك شخص او أكثر من اعضاء الفريق قد يركبون مجاناً.
الفعل الجمعي لتجاوز الفشل والركوب المجاني في العراق
ان المديات الممكنة لتخليق مبادرات للفعل الجمعي قد تسهم في تقوية زخم الأصلاح بمحاصرة الهروب من الواجب في اداء المهام الإصلاحية لتجاوز الفشل ولهذا فالمقصود ليس النظام السياسي والدولة او فيما إذا كان الفشل في طبيعة النظام السياسي ام في التشكيلة الحاكمة، او الانسجام الممكن بين الجغرافية السياسية والبشرية للدولة، بل النظر إلى الموضوع على مستويات عدة.
وتنطلق هذه المحاولة من أن الاضطراب والخلل الذي شهده العراق يتعذر تفسيره بمعزل عن القيم الاجتماعية وما تنتجه من معايير ظاهرة ومستترة لتنظيم السلوك البشري وتبدو تلك القيم، والأيديولوجيات ذات الأثر في الحراك والفعل السياسي، كأنها عاجزة عن الوصول بالمجتمع، المنقسم على النحو المعروف، إلى حالة الانسجام بين تراتبيات المنزلة والسلطة وتوزيع الأدوار ومتطلبات عمل الدولة الوطنية بالحد الأدنى من الكفاءة في اداء الوظائف.
كما ان ضآلة الأنجاز في قطاع الأعمال واضح ولا يعزى تعثره كليا إلى السياسة والأمن بل ثمة اسباب تنتمي إلى عالمه الداخلي ونسقه الخاص ولم يُظهر المجتمع الأهلي قوة الدافع لحماية الحياة والازدهار الإنساني بحيث يرغم المستوى السياسي على الانصياع لضوابط وسقوف لا يستطيع تجاوزها وأن تنويع المقاربات وزوايا النظر قد يسهم في إطلاق صيغ جديدة من الحوار تقود إلى إغناء برامج الأصلاح والتطوير او ترفع مستويات الاستعداد لمباشرة حلول جادة للمشكلة السياسية.
ويتضمن الفشل انحسار التعاون على اصعدة مختلفة، وسوف يتضح ان الفساد المالي ولأداري هو تخلي عن التعاون الضروري لحماية المصالح المشتركة، والمطلوب مبادرات تتجه بالضد من التداعي ولتقوية إرادة العمل الجمعي من اجل البقاء والنماء ومثلما يتطلب النشاط الاقتصادي تعاقدات تفترض وجود السوق، فإن السوق لا يكون ولا يعمل إلا بالمجتمع اي بالقيم المشتركة التي تخلق الثقة للدخول في تلك التعاقدات وإنجاز الصفقات.
ولكي تكون القيم المشتركة الموثوق بها حاكمة لابد من تراتبية وسلطة تفرضها بقوة القانون والسلطة وترابيتها وما يتصل بها تحتاج إلى عقد اجتماعي صريح او ضمني لقبولها والخضوع لأوامرها والعوامل الضاغطة على الأفراد والمجموعات والمنظمات بالاتجاه الذي يضعف القيم المشتركة هي ذاتها التي تنقض اسس التعاون الإيجابي والذي لا تستقيم الدولة بدونه ولا شك ان الانقسام على الخط الطائفي في العراق ومفاعيله الإقليمية والدولية كان من اعنف عوامل الجريمة والخراب، لكن ضعف القيم المشتركة يلاحظ في اصغر نطاق جغرافي وفي اوساط تامة التجانس الاثني ما ادى إلى تغول الفساد في نواحي شتى.
مقاربة الفعل الجمعي
دائما توجد احتياجات مشتركة هي قوام الاجتماع الإنساني ومنها ان جميع افراد المجتمع ينتفعون من سيادة القانون لحفظ امنهم وحماية ممتلكاتهم، ومما يخدم مصالحهم وجود نظام تعليمي كفوء، وصحة عامة تعمل جيدا، ومنظومة سليمة لضمان مياه صالحة للشرب وبيئة نظيفة، وشوارع وانظمة نقل واتصال وسواها كثير وهذه الاحتياجات التي تلبى جماعيا تسمى سلع عامة Public Goods وتحتاج مباشرة، او بصورة غير مباشرة، لفعل جمعي لأعاده إنتاجها واستدامتها.
ومن خصائص السلع العامة عدم استثناء احد من استهلاكها، والسلع العامة البحتة تتضمن في تعريفها عدم التدافع في الانتفاع منها Non- Rivalrous اي ان استهلاك هذا الفرد منها لا يقلل فرص الآخرين في الوصول إليها ولأن النزاهة وكفاءة اداء الدولة من بين هذه السلع العامة، لذلك تتطلب إدامتهما دوام الفعل الجمعي لمكافحة الفساد وسوء الأدارة، وبتعبير آخر يتطلب الأمر نوعا من الفعل الجمعي للحفاظ على تماسك وحيوية مختلف الأشكال التي يتخذها الفعل الجمعي لأنتاج السلع العامة او خدمة المصالح المشتركة .
وعادة في المجتمعات الكبيرة لا يكون الانضباط في الفعل الجمعي تاما إذ يختار افراد من المجتمع عدم المشاركة لاستمرار الخير العام طالما ان المهمة منجزة بمشاركتهم او عدمها وسوف ينتفعون اسوة بالذين تحملوا أعباء المشاركة ويسمى هذا السلوك الركوب المجاني Free- Riding ويمكن تمثيل موقف الركوب المجاني عند مطالبة الصيادين الامتناع عن الصيد الجائر، فلسان حال الصياد ، لو امتنع بقية الصيادين عن الصيد الجائر فهذا في مصلحة المجموع، وهو منهم، اما امتناعه هو شخصيا فلا يضر بالنتيجة وبذلك يزاول الصيد الجائر وينتفع من امتناع بقية زملائه لاستدامة تكاثر الأسماك.
اي يختار الركوب المجاني ليحقق الأنتفاع غير المشروع مفترضا عدم العقوبة او ان كلفة المخاطرة بمخالفة الأوامر أدنى من الانتقاع الذي يحققه بالمخالفة ويضرب المثل، ايضا، من دور نقابات العمال في تحسين شروط العمل والأجور لجميع القوى العاملة وليس للمنخرطين في النقابات لوحدهم لأن القواعد الناظمة للعلاقة بين العمال وارباب العمل سلعة عامة Public Good لا يمكن استثناء بعض العمال من مزاياها المكتسبة بنضال النقابيين.
والعمال الذين لم يشاركوا رفاقهم عناء النضال ولم يسهموا في تحمل نفقات مكاتب الاتحاد العمالي قد مارسوا الركوب المجاني وهذا مثال يفيد النطاق الواسع لاشتغال المفهوم والذي لا ينحصر في مهمات الأصلاح الحكومي ومكافحة الفشل من اجل الدولة الكفؤة العادلة للجميع
ويمكن الحد من الركوب المجاني بتشديد الرقابة والعقوبة، لكن الرقابة لا تشدد فعلا والعقوبة لا تفرض إلى الحد الرادع دون التعاون الذي يصطلح عليه الفعل الجمعي.
في العراق ينعدم الاستعداد تقريبا للتضحية بالمنافع الفئوية للأمد القصير، الرواتب او حجم القطاع الحكومي او تقليص عدد المواقع الأدارية لهذا الحزب او ذاك، من اجل مكاسب تنموية في زمن لاحق وهنا ايضا تتدخل مسألة الثقة في الأمد البعيد او على حد تعبير أحد الكتاب "رفع سعر الدولار له نتائج فورية واكيده ومنها صعود اسعار المستوردات وخفض الرفاه الاستهلاكي اما النتائج الأخرى مثل تنمية الصناعة والزراعة فهذه ليست مؤكدة" وبتعبير آخر عندما تطالب فئة اجتماعية بخفض مكاسب قد تحققت لهم فعلا لقاء عوائد اكبر للمجموع فسوف يختارون، على الأغلب، الانسحاب من المشاركة في الفعل الجمعي ولذا تعود المسألة مجددا إلى نزاع المصالح، و يغدو الأصلاح رهنا بالقدرة على تأليف الكتلة الاجتماعية القادرة على حسم النزاع لجهة الأصلاح.
الركوب المجاني في الوسط السياسي ومن زوايا اخرى
والركوب المجاني سلوك شائع في العراق وهو من الأسباب الرئيسة للفساد والفشل وعلى سبيل المثال يعلم قادة الأحزاب المشاركة في السلطة، واعضاء مجالسها المركزية واعضاء المجلس النيابي والحكومة وشاغلو المواقع العليا في أجهزة الدولة، ان عليهم مسؤولية تضامنية سياسية واخلاقية في محاربة الفساد المالي وسوء الأدارة، والتصدي للفشل في اداء الدولة، لكن يوجد في هذا الوسط القيادي شخصيات تختار الركوب المجاني لأنهم لا يريدون تحمل اعباء إزعاج المنتفعين من الخراب.
فمنهم من يريد المكاسب المعنوية والمادية للموقع السياسي ولأداري، بل ويعلم ان مكاسبه تلك رهن باستمرار وجود الدولة وعملها، لكنه لا يريد الأسهام بتكاليف الحفاظ على شرف الدولة وكفاءتها والركوب المجاني واضح جدا في السلوك السياسي والأداري في العراق، وايضا مسكوت عنه وهذا السكوت ركوب مجاني آخر والمعرفة بالطبيعة البشرية تفيد قطعا ان اداء الأمانة في المواقع السياسية والأداريه العليا مهمة جسيمة لا يستطيعها إلا القليل من الأفراد الذين تهيأت لهم المزايا المناسبة.
لأن اداء الأمانة هناك بحسب الموازين الدينية والأخلاقية والدستورية والقانونية يتطلب الاستعداد للمخاطرة بالحياة، وقدر استثنائي من الجسارة وتصرفات توصف، من الأقرباء والأصدقاء، بالقسوة وعدم الوفاء، لأنها امانة ثقيلة وخيانتها لا تبقي ولا تذر اما ان شخصا يتورط بتلك المسؤولية الجسيمة وليس لديه الاستعداد لطرد الصديق الذي يخون الواجب والحكم على القريب بالسجن لأنه انتهك القانون، ولا يقول لفلان احترم سيادة العراق وللآخر انت مجرم قاتل، لأنه إنسان كما يوصف من جماعة الركوب المجاني أنه "طيب، دمث الخلق، لا يزعج احدا، معتدل، يرضي الجميع" فهذه نازلة احلت بالعراق.
لأن المنزلة Status بين الناس، والموقع السياسي او الاداري، او الرئاسة في اي مجال، هذه جميعا، لها وظائف تؤديها وليست مزايا يستحقها "نبلاء القوم" رغم انف المجتمع وعندما يعجز شاغلوها عن الاضطلاع بمهامها يصيب المجتمع ضرر فادح، أما إذا تهرب المعنيون عن أداء تلك المهام الحيوية على نحو الركوب المجاني فهذا فساد صريح وعندما تستخدم تلك المواقع لخدمة المصالح الشخصية غير المشروعة فهو فساد أكبر وخيانة عظمى.
ويعبر عادة عن تفشي الركوب المجاني بالعدوى وإن علية القوم لهم الدور الأكبر في الترويج لهذا النمط من السلوك او ذاك وكلما تكاثر حديث الأعلام عن ممارسات في اوساط النخب العليا مثل التقاعس في حماية القانون، او النهوض بالاقتصاد او الدفاع عن الوطن وحماية مواطنيه، ازداد إحتمال الركوب المجاني في المستويات القريبة منهم ثم تدريجيا يعم المجتمع الوطني.
حيث يصل الركوب المجاني إلى حد غياب الفعل الجمعي تقريبا في العديد من المهام التي تتطلبها سلامة الأمة، من محاربة الجريمة والرشوة إلى الكفاح لترصين النظام التعليمي والخدمات الصحية والبيئة ورفض التجاوز على المال العام وحقوق الملكية للأفراد وحرياتهم المدنية وجميع ما يندرج في الصنف الواسع للسلع العامة.
ولقد تحمل الشعب العراقي من المآسي والعذاب ما يعجز عنه الوصف جراء هذا الطراز من السلوك، الركوب المجاني، الذي اعتادت عليه شخصيات مشاركة في النظام السياسي والسلطة والإدارة الحكومية وليس من الصعب مراجعة المواقف المعلنة والفعلية إزاء وقائع سفك الدماء، ومجاملة الدول القريبة والبعيدة على ضلوعها الذي لا تخفيه في تخريب العراق وتحويله إلى أكثر بقاع الأرض رعبا وفوضى، والسكوت او التصرف بنية إسقاط الفرض تجاه السرقات الهمجية للمال العام.
ومن اسوا ما وصل إليه العراق ان أبناء الشعب أصبحوا على قناعة بأن سياسيين في الصف الأول تتناثر اشلاء ناخبيهم في برك الدماء، ابرياء لا حول لهم ولا قوة، لم يظهر منهم الاكتراث بما يتناسب مع الفجيعة، او حتى تكلف التعبير بزهد او إعراض عن شيء من مرغوباتهم، بل يتصرفون وكأنهم موظفون بسطاء يمتثلون لأوامر تنفذ وحسب.
وفي مكافحة الفساد المالي يذكر عن وصول إخبار إلى مسؤولين مهمين في الدولة بان المدير الفلاني قد ضيع على العراق مبالغ طائلة، يأتي الجواب مع التبرير بالحصانة السياسية "نحن نعلم بذلك" وللحقيقة يحار المرء احيانا في تصنيف المواقف هل هي ركوب مجاني ام أن قوة الفساد والتخريب قهرتهم.
الولايات المتحدة الراكب المجاني
استخدم الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، في حملته الانتخابية تعبير الراكبون المجانيون (Free Riders) وتستخدم هذه العبارة في الغرب بمعنى سلبي، وتطلق على من يستخدمون المواصلات العامة بدون تذاكر ركوب وقد قصد ترامب بقوله هذا المستفيدين من خدمات الولايات المتحدة (حمايتها)، من دون أن يدفعوا شيئاً، وقد وجه كلاماً قاسياً وغير لائق ضد الكويت، قائلاً إن الولايات المتحدة حرّرت الكويت من احتلال صدام حسين ولم تقبض شيئاً في المقابل، بينما كان عليها أن تدفع نصف قيمة منتجاتها من النفط خمسين سنة، أو ربما بشكل دائم.
كما هدّد السعودية بأنه إذا تم انتخابه قد يوقف واردات النفط منها، ومن دول عربية أخرى، إذا لم تشارك بقوات برية لمحاربة "داعش"، أو على الأقل دفع بدل مادي للولايات المتحدة في مقابل جهود محاربة الجماعة الإرهابية كما وجه انتقاداً لكوريا واليابان، كون الولايات المتحدة تقدم لهما حمايةً منذ زمن طويل من أي تهديداتٍ سوفييتية سابقةٍ وصينية حالية، من دون أن تقبض في المقابل.
وبالطبع، لن نقول إن ترامب جاهل لا يعلم الحقيقة، لكنه ببساطة يعلم ويكذب ليستخدم اللغة التي يجتذب بها ناخبين محافظين، فهو يعلم أن الولايات المتحدة قبضت تكاليف حرب تحرير الكويت، وهي تقبض اليوم تكاليف مشاركتها في الحملة الدولية ضد "داعش" لكن، دعونا نسأل عمن هو الراكب المجاني فعلاً؟ .
بلغ حجم الديون الأميركية الفيدرالية أكثر من 19.9 تريليون دولار، بينما بلغت قيمة الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة 18.7 تريليون دولار، أي أن مديونيتها بلغت 106% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهذه من أعلى معدلات الدين في العالم، وتشبه دول العالم الثالث الفقيرة. وكانت حصة كل فرد أميركي من هذا الدين نحو 61.2 ألف دولار. فأميركا تستدين
"تمتلك الولايات المتحدة اقتصاداً ديناميكياً قوياً، وتعتمد قوته على قدرتها العلمية والتكنولوجية العالية جداً" ويتعاظم دينها منذ 1960 من دون أن تسدّد شيئاً من هذا الدين. وعلى دول العالم أن تستمر بإقراضها المال، فالخزينة الأميركية تُصدِرْ سندات خزينة غير قابلة للتسديد عملياً، لتشتريها الدول الأخرى بالمال. وعلى شعوب العالم أن تدّخر ولا تنفق كثيراً، لكي تقدّم مدخراتها على شكل ديون للولايات المتحدة كي تنفقها، والمعروف أن شعوب الصين واليابان والهند من أكثر شعوب العالم ادّخاراً. لذا، هي أكبر المقرضين للشعب الأميركي لكي ينفق على ترفه.
وتعد الصين اليوم أكبر دائن للولايات المتحدة، وبلغت ديونها في نهاية شهر مارس/ آذار 1.244 تريليون دولار، تليها اليابان في المركز الثاني بقيمة استثمارات تبلغ 1.137 تريليون دولار، أما دول الخليج الست (السعودية، الإمارات، الكويت، عمان، قطر، البحرين) مجتمعة فتحمل سندات خزانة أميركية قيمتها 231.1 مليار دولار حتى الهند الفقيرة تشتري سندات خزينة، وقد بلغت ديونها على الولايات المتحدة أكثر من 50 مليار دولار على شكل سندات خزينة وبالطبع، لا تشمل هذه الديون الفيدرالية الاستثمارات في الاقتصاد الأميركي أو الإيداعات الأجنبية في بنوكها.
لأن الصينيين واليابانيين والهنود يدّخرون كثيراً، ولا ينفقون الكثير، فهم ينتجون أكثر مما يستهلكون وبالتالي، يصدرون أكثر مما يستوردون، محققين الفائض الذي يقرضونه للولايات المتحدة، أما الأميركيون فهم ينفقون كثيراً، ويدّخرون قليلاً، ويستوردون أكثر مما يصدّرون ووفقاً لتقرير مكتب الإحصاءات الأميركي، بلغ عجز الميزان التجاري الأميركي لعام 2015 نحو 735 مليار دولار، حيث صدرت نحو 1.5 تريليون دولار، بينما تجاوزت وارداتها 2.2 تريليون دولار وعلى الرغم من هذا الوضع، يعد الاقتصاد الأميركي اقتصاداً قوياً وموثوقاً.
المسألة الثانية ذات الطابع الطفيلي هي كون الدولار الأميركي عملة عالمية، فالعالم يحتاج إلى عملة صعبة، من أجل إجراء الصفقات، ومن أجل توظيفات الشركات ومدّخرات الأفراد، ومن
"قوة الولايات المتحدة العسكرية وجيشها هما بالذات ما يمنحها كل هذا الدور الذي تحصد من ورائه كل هذه المنافع" أجل تشكيل احتياطيات البنوك المركزية وغيرها ومن قديمٍ، كان الذهب يلعب هذا الدور، وكان يحمل قيمته بذاته، ولا يخص أي دولة، وعندما صدرت النقود الورقية كانت تعد صكوكاً على البنوك المركزية مغطاةً بالذهب.
وكان على البنوك أن تقدم الذهب لحاملها في حال طلب ذلك، وبعد الحرب العالمية الثانية، فرض الدولار الأميركي نفسه عملة ورقية عالمية، بينما تراجعت العملات العالمية الأخرى، والدولار هو عملة وطنية أميركية تملك الولايات المتحدة وحدها حق طباعته وتقديمه للعالم بالكميات التي تريدها، ولا تزيد كلفة طباعة ورقة الدولار أو المائة دولار عن خمسة سنتات تقدمها للعالم، وتقبض مقابلها سلعاً وخدمات بقيمة كامل الورقة النقدية.
وقد كان الدولار مغطى بالذهب بمعدل 35 دولاراً مقابل أوقية واحدة من الذهب، ومع تزايد الطلب على الدولار، وعجز الولايات المتحدة عن تأمين ما يكفي من التغطية الذهبية، أعلنت سنة 1971 بقرار من الرئيس نيكسون عن فك ارتباط الدولار بالذهب، ولم تعد الولايات المتحدة تلزم نفسها بتقديم أي ذهبٍ لقاء عملتها، وما يضمن قيمة عملتها هو الثقة باقتصادها لكن الثقة تتولد من استمرار الطلب على الدولار من هنا، أبرمت الولايات المتحدة سنة 1973 صفقة مع السعودية لتسعير البترول، وبيعه بالدولار فقط، وقد تبعتها بقية الدول المصدرة للنفط بضغط من الولايات المتحدة، ما رفع الطلب على الدولار بأرقام كبيرة وقلص الطلب على العملات العالمية الأخرى، مثل الجنيه الإستراليني والمارك الألماني والفرنك الفرنسي والفرنك السويسري والين الياباني، وكانت كلها عملات عالمية صعبة، وقد أوجد هذا فرصةً كبيرةً لإثراء الولايات المتحدة وقد وصف الرئيس الفرنسي ديغول طباعة الولايات المتحدة الدولار من دون غطاء ذهبي، بأنه "سرقة مكشوفة".
تدافع الولايات المتحدة اليوم بقوة عن استمرار تسعير النفط والغاز وبقية المعادن من حديد ونحاس وألمنيوم ونيكل وغيرها، وكذلك بورصات القمح والسكر وغيرها من المحاصيل بالدولار الأميركي، وأن يبقى الدولار العملة الرئيسية في تشكيل الاحتياطيات الأجنبية للبنوك المركزية، وأن تبقى عملات عدد من دول العالم مرتبطة بالدولار، مثل عملات دول مجلس التعاون الخليجي، كل هذا يوجِد طلباً كبيراً على الدولار، وتقوم الولايات المتحدة بإصدار (طباعة) ما يغطي الطلب بتكلفةٍ زهيدة، بينما تقبض هي الفارق، مما يجعل اقتصادها قوياً، ولكن بطابع طفيلي في الوقت نفسه.
ونعلم مدى دقة هذا الكلام، عندما تهدّد الولايات المتحدة أي دولة تسعى إلى أن تسعّر صادراتها من النفط بغير الدولار وبالطبع، سعى الاتحاد الأوروبي إلى جعل اليورو عملةً عالميةً ثانية، منافسة للدولار، تحقق فوائد كبيرة للاتحاد الأوروبي، بقدر ما يتسع الطلب العالمي عليها وقد حوّلت الصين عملتها الوطنية "اليوان" إلى عملة عالمية، وهي تسعى إلى توسيع الطلب عليه في السوق العالمية، لكي تحول مزيداً من مياه الاقتصاد العالمي إلى طواحينها.
تمتلك الولايات المتحدة اقتصاداً ديناميكياً قوياً، وتعتمد قوته على قدرتها العلمية والتكنولوجية العالية جداً، فهي تتربع على قمة التكنولوجيا العالمية، وتمنحها هذه القدرة تفوقاً في صناعة الأسلحة، وبناء جيش قوي وتخصيص أعلى ميزانية عسكرية في العالم، بلغت في العام 2016 نحو 617 مليار دولار، كما بلغت مبيعات الولايات المتحدة من الأسلحة نحو 45 مليار دولار سنة 2015، بينما بلغت ميزانية الصين العسكرية 192.8 مليار دولار وروسيا 49.15 مليار دولار للعام نفسه.
قوة الولايات المتحدة العسكرية وجيشها هما بالذات ما يمنحها كل هذا الدور الذي تحصد من ورائه كل هذه المنافع فمن هو الراكب المجاني؟.