مستقبل النقود لن يشهد ثورة

بروجيكت سنديكيت

2025-10-01 05:17

بقلم: نورييل روبيني، برونيلو روزا

نيويورك ــ تُـرى ماذا يخبئ المستقبل للنقود وأنظمة الدفع؟ في حين أن هذا العالَـم سيشهد بكل تأكيد تكنولوجيات غير مسبوقة، فإن استشراف الصورة الكاملة يتطلب وضعها في سياقها التاريخي.

تقليديا، كانت أنظمة النقود والمدفوعات تعمل على مزيج من النقود الأساسية (التي يصدرها البنك المركزي) ونقود القطاع الخاص، التي تصدرها عادة البنوك التجارية من خلال الودائع تحت الطلب، وبطاقات الائتمان، وما إلى ذلك. ولأن أنظمة الدفع الأحدث في مجال التكنولوجيا المالية مثل Alipay، أو WeChat، أو Venmo، أو PayPal لا تزال مرتبطة بالودائع المصرفية وبطاقات الائتمان، فإنها تمثل تطورا وليس ثورة.

أما عن عملة البيتكوين وغيرها من الأصول المشفرة اللامركزية، فلم يتحول أي منها إلى عملة حقيقية لأن أيا منها لا يمثل وحدة حساب، أو وسيلة دفع قابلة للتوسع، أو مخزنا مستقرا للقيمة، أو معيار قياس (معيارا لغيرها من الأصول المماثلة). ذهبت السلفادور إلى حد إعلان البيتكوين عملة قانونية، ولكن في أفضل الأحوال، تُـسَـوَّى بها نحو 5% فقط من معاملات السلع والخدمات.

صحيح أن بعض المعلقين يعتقدون أن عُـملة البيتكوين، مع حرص إدارة ترمب على إنشاء احتياطي استراتيجي منها، ومع إضافتها من قِـبَـل أعداد متزايدة من المستثمرين المؤسسيين إلى محافظهم الاستثمارية، ستصبح مخزنا للقيمة بمرور الوقت. لكن هذه الفرضية لم تُـخـتَـبَر بعد.

ولكن ما هي الاحتمالات الأخرى التي تخلقها تكنولوجيات دفتر الأستاذ الـمُـوَزَّع (DLTs)؟ بعيدا عن الأصول المشفرة، والتي ستظل رموزا متقلبة لأنشطة المضاربة، ظهرت ثلاثة خيارات أخرى: العملات الرقمية التي تصدرها بنوك مركزية (CBDCs)، والعملات المستقرة، والودائع الرمزية.

الآن، تضاءلت المخاوف من أن تؤدي عملات البنوك المركزية الرقمية إلى الاستغناء عن وساطة البنوك أو تسهيل التهافت على البنوك لسحب الودائع منها في أوقات الذعر المالي، وذلك بعد أن أصبح من المحتمل فرض قيود على الأرصدة من عملات البنوك المركزية الرقمية. في معظم الحالات، سوف تسعى البنوك المركزية فقط إلى توفير أصل عام آمن لمحافظ الناس الرقمية، وليس بديلا لأنظمة الدفع في القطاع الخاص؛ ولن تكون معظم عملات البنوك المركزية الرقمية "قابلة للبرمجة" أو ذات عائد.

هذا يعني أن حلول القطاع الخاص ستظل تهيمن على المدفوعات. فالتكنولوجيا المالية قادرة على تقديم خيارات رخيصة وآمنة وفعّالة لا تعتمد بالضرورة على تكنولوجيات دفتر الأستاذ الموزع؛ والآن تقدم الحكومات منصات دفع لحظية للبنوك والشركات التي تعمل على تسهيل التسوية الرخيصة والفورية. وحتى في مجال تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع، قد يتسبب ترميز صناديق سوق المال أو "العملات الثابتة" ذات الفائدة (المربوطة بسلة من الأصول) في الدفع نحو تبني أشكال جديدة من أشباه النقود أو الأموال في عموم الأمر والتي يمكن تحويلها بسلاسة إلى نقود رقمية توفر خدمات الدفع.

ولكن تختلف التفضيلات بشكل ملحوظ بين مناطق الاختصاص. في الولايات المتحدة، أدت المعارضة الإيديولوجية لعملات البنوك المركزية الرقمية من جانب إدارة ترمب إلى تفضيلها للعملات المستقرة (الأمر الذي أثار تحذيرات من بنك التسويات الدولية (BIS) من العودة إلى الأعمال المصرفية الحرة الفوضوية من زمن القرن التاسع عشر، ولكن في هيئة رقمية). وفي أوروبا، على النقيض من ذلك، نجد أن المخاوف بشأن مخاطر العملات المستقرة ــ مثل حلقة الهلاك الجديدة بين الخزانة ومُصدِري العملات المستقرة، وضعف ممارسات مكافحة غسيل الأموال وممارسات "اعرف عميلك" ــ تعني ضمنا تفضيل عملات البنوك المركزية الرقمية والودائع الرمزية. وفي الصين، أفضى النفور من العملات المستقرة التي من المحتمل أن تكون لامركزية إلى تفضيل الحكومة لعملات البنك المركزي الرقمية، فضلا عن حلول الدفع التي تقدمها التكنولوجيا المالية.

في ظروف مثالية، من الممكن أن تتعايش كل هذه الحلول وتضطلع بأدوار مختلفة في إطار شبكة جيدة التنظيم من العملات الرقمية. ستكون عملة البنك المركزي الرقمية هي الأصل العام الآمن في محافظ الناس الرقمية، فتوفر أساسا للثقة للنظام بأكمله. ثم تُستخدم العملات المستقرة بعد ذلك في المدفوعات المحلية من نظير إلى نظير أو المدفوعات الدولية، وتُستخدم الودائع الرمزية في المعاملات بين البنوك.

حتى الآن، يبدو أن منطقة الاختصاص الوحيدة التي أدركت أهمية تنفيذ هذا "الهرم" من العملات الرقمية هي الإمارات العربية المتحدة، التي تعمل على تهيئة البيئة الأكثر ترحيبا بالأصول الرقمية على المستوى العالمي. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه في حين تعتمد الأشكال الرقمية الجديدة من النقود على شكل من أشكال تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع، فإن معظمها يعمل على دفاتر أستاذ مركزية وليست غير مركزية، ويُـصَـرَّح باستخدامها في الأغلب الأعم من قِـبَـل جهات تحقق معتمدة وجديرة بالثقة، وليس من خلال معاملات غير مصرح بها وغير جديرة بالثقة. أو هي، بعبارة أخرى، أقرب إلى دفاتر الأستاذ المركزية التقليدية من تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع الحقيقية.

مع ذلك، يبدو أن كثيرا من أولئك الذين يعملون على ترميز الأصول في العالم الحقيقي يختارون تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع باعتبارها "المنصة الـمُـوَحِّدة" المفضلة، مع الأصول الرقمية المقومة بالعملات الرقمية المحلية. وعلى هذا، فبدلا من التركيز على السباق على الهيمنة على أنظمة الدفع المحلية أو العابرة للحدود، نقترح مراقبة الجغرافيا السياسية التي تحكم العملات الرقمية، نظرا لإمكانية استخدامها كأصول احتياطية عالمية.

في سعيها إلى دور عالمي أكبر للرنمينبي، وذلك جزئيا للتخفيف من مخاطر العقوبات المالية الأميركية في المستقبل، تدفع الصين في اتجاه استخدام عملتها الرقمية التي يصدرها البنك المركزي الصيني (e-CNY)، في المعاملات عبر الحدود بين الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية (ومشروعها الشقيق، طريق الحرير الرقمي). وباستخدام تكنولوجيا m-Bridge، المصممة في الأصل بالتعاون مع بنك التسويات الدولية، يصبح من الممكن استخدام العُـملة e-CNY للالتفاف حول قنوات الدولار ونظام سويفت (SWIFT) للمعاملات عبر الحدود؛ الواقع أن الصين تمتلك بالفعل بديلا لنظام سويفت: CIPS (نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك).

تشير هذه التحركات إلى أن منطقة اليورو قد تكون محصورة بين مطرقة الدولار الذي لا يزال مهيمنا (والذي سيتعزز دوره بفضل تبني عملات مستقرة مربوطة بالدولار على نطاق واسع) وسندان عملة البنك الصيني المركزي الرقمية الصاعدة. لهذا السبب، تتحرك أوروبا بسرعة لإدخال اليورو الرقمي، الذي قد يساعد في الحفاظ على دور العملة الموحدة كعملة احتياطية عالمية ومنح الاتحاد الأوروبي بعض "الاستقلالية الاستراتيجية".

أخيرا، تدفع إدارة ترمب بالعملات المستقرة (من خلال قانون GENIUS الأخير) للحفاظ على دور الدولار المهيمن في المدفوعات العالمية وكعملة احتياطية. ومع عمل العملات المستقرة المستندة إلى الدولار الآن على إعادة دولرة الاقتصاد العالمي ، تعيد كل من الصين ومنطقة اليورو النظر في شكوكها السابقة وتفكر في إصدار عملات مستقرة من جانبها.

سوف يتسم مستقبل النقود وأنظمة الدفع بالتطور، وليس بثورة جذرية في عالَـم العملات الرقمية. الواقع أن تأثيرات الشبكة تعطي الأنظمة الحالية ميزة التثبيت. فبعد مرور أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن على إطلاق البيتكوين، يتمثل التقدم الرئيسي في العملات المشفرة في العملة المستقرة، وهي مجرد نسخة رقمية من العملة الورقية؛ وحتى اعتماد العملات المستقرة سيكون تدريجيا. النقود منفعة عامة ومسألة أمن وطني أعظم من أن تُـتـرَك لقوى فاعلة خاصة مجهولة ولامركزية. وعلى نحو أو آخر، سوف تبقى النقود ضمن اختصاص الدولة.

* نورييل روبيني، مستشار أول في شركة هدسون باي كابيتال مانجمنت إل بي، وأستاذ فخري في الاقتصاد بكلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، ومؤلف كتاب "التهديدات الكبرى: عشرة اتجاهات خطيرة تُهدد مستقبلنا، وكيفية النجاة منها"

برونيلو روزا، الرئيس التنفيذي لشركة روزا وروبيني والمؤلف المشارك (مع كيسي لارسن) لكتاب "الأموال الذكية: كيف ستشكل العملات الرقمية النظام العالمي الجديد"

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

العلاقة بين الدولة والشعب.. حدود السيادة وطبيعة الشرعيةشهادات من قلب العراق الممزقكيف تصنع التهيئة النفسية الفارق في نجاح الطلبة؟ الباحث عزيز ملا هذال يجيبكيف تتحكم في مستقبلك قبل أن يحدث؟الاستعمار الاستيطاني والصراع غير المتكافئ.. فلسطين نموذجاً