العدالة الاقتصادية والرحمة الاجتماعية في فكر الإمام الصادق (ع)

احمد عبدزيد الجبوري

2025-09-20 05:10

في عالم اليوم الذي تتسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتتفاقم أزمات المعيشة، يبرز فكر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كمنهج أخلاقي وعملي، اذ لم يكن الإمام منظرا، بل كان مربيا وموجها يرسم خطوط العدالة الاقتصادية بروح الرحمة الاجتماعية، ويقدم خارطة طريق لا تزال صالحة للتطبيق في عالمنا المعاصر، هذا المنهج ليس مجرد فلسفة، بل هو دليل عملي يوجه الفرد والمجتمع نحو تحقيق التوازن والاستقرار، وقد كانت قصة (مصادف) خير مثال على هذا المنهج، إذ رفض الإمام ربحا كبيرا تحقق بطريقة استغلالية، مؤكدا أن مجالدة السيوف أهون من ذلك، هذا الموقف، إلى جانب تعاليمه حول العمل، ومكافحة الاحتكار، والتكافل، لا يزال يقدم حلولا عملية لمواجهة تحديات الرأسمالية الحديثة.

العدالة والرحمة: وجهان لعملة واحدة

يشكل كل من العدالة والرحمة الركيزتين الأساسيتين في فكر الإمام الصادق (عليه السلام)، لا بوصفهما مفهومين منفصلين، بل باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، فالعدالة هي الإطار الذي يحدد الحقوق والواجبات، بينما الرحمة هي الروح التي تمنح هذا الإطار الحياة وتضمن تطبيقه بمرونة وشفقة، يظهر هذا التوازن جليا في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال: (علامة رضا الله تعالى في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم)(1).

ان العدالة الاقتصادية مسؤولية مشتركة فمن جهة، يتحمل السلطان (الحاكم) المسؤولية الكبرى في تحقيق العدالة، لأنه يملك أدوات التنظيم والتشريع والرقابة، فـ(عدل السلطان) هو الشرط الأول، ورخص الأسعار تأتي كنتيجة لهذا العدل، فالحاكم العادل هو الذي يسن القوانين التي تمنع الاحتكار، وتضمن المنافسة الشريفة، وتحمي حقوق المستهلكين والمنتجين على حد سواء، ولا يكتفي بالجانب النظري، بل يفعل دور المؤسسات الرقابية لضمان تطبيق هذه القوانين بصرامة وحزم.

لكن هذا لا يعني أن المحكومين أو عامة الناس خارج دائرة المسؤولية، فالعدالة لا تبنى فقط من الأعلى، بل تصان من الأسفل أيضا، فالمجتمع ليس مجرد متلق للقرارات، بل هو شريك فعال في صناعة العدالة، فالتاجر، والمستهلك، والعامل، جميعهم شركاء في تحقيق التوازن الاقتصادي، إذا تواطأ التجار على رفع الأسعار، أو استغلوا حاجة الناس، أو غابت الرقابة الأخلاقية عن معاملاتهم، فإن الأسعار سترتفع ظلما، حتى لو كان السلطان عادلا، هذا يؤكد أن كل فرد مسؤول عن ترسيخ قيم العدالة من موقعه، وأن التهاون في هذا الجانب يعد خيانة للأمانة المجتمعية.

العمل والكسب: أساس الاستقلال المالي

أولى الإمام الصادق (عليه السلام) أهمية كبرى لتنظيم الحياة الاقتصادية، واعتبر أن الكسب الحلال بجهد وعرق هو أساس الاستقلال المالي، كان يرفض الكسل والاتكالية، حتى قال: (شيعتنا من لا يسأل الناس ولو مات جوعا)(2)، كما كان يحث على التجارة والاستثمار، لا بهدف الربح المادي فقط، بل لدفع عجلة الاقتصاد في المجتمع، وتوفير فرص العمل، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وجسد هذا المبدأ عمليا، حين أعطى أحد أصحابه مبلغا من المال ليتاجر به، قائلا: (ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوبا فيه، ولكني أحببت أن يراني الله عز وجل متعرضا لفوائده)(3)، فلما تحقق الربح، فرح الإمام، وأمر بإثباته في رأس المال، مما يدل على تقديره للسعي الشريف، وبعد وفاة التاجر، حرص الإمام على استرداد المال بدقة وأمانة، مستندا إلى الوثائق والشهود، ليؤكد أن التجارة ليست فقط وسيلة للرزق، بل ميدانا للأخلاق، والثقة، والشفافية، هذه الرؤية الاقتصادية تعطي العمل قيمة معنوية وأخلاقية، وتجعله وسيلة للارتقاء بالمجتمع ككل.

قصة مصادف: درس في أخلاقيات الربح

تعد قصة الإمام الصادق (عليه السلام) مع خادمه (مصادف) واحدة من أبرز الدروس في أخلاقيات التجارة، هذه القصة، التي تروى بأكثر من صيغة، تحمل في طياتها معان عميقة تتجاوز ظاهر الأحداث.

القصة الكاملة:

دعا أبو عبد الله (عليه السلام) مولى له يدعى مصادف، وأعطاه ألف دينار، قائلا له: تجهز إلى مصر، فتجهز مصادف بمتاع وخرج مع مجموعة من التجار، وعندما وصلوا إلى مشارف مصر، استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن حال المتاع الذي معهم، والذي كان من بضاعة عامة الناس، فأخبرتهم القافلة أنه ليس في مصر شيء من هذا المتاع، عندها، تحالف التجار فيما بينهم على أن لا يبيعوا بضاعتهم إلا بربح (الدينار بالدينار)، أي أن يحققوا ربحا بنسبة 100%، مستغلين بذلك حاجة الناس الماسة.

لما عاد مصادف إلى المدينة، دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) ومعه كيسان في كل واحد منهما ألف دينار، فقال: جعلت فداك، هذا رأس المال وهذا الآخر الربح، فقال الإمام (عليه السلام): هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع؟، فأخبره مصادف كيف اتفقوا وتحالفوا، فقال الإمام (عليه السلام) مستنكرا: سبحان الله! أتحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلا بربح الدينار بدينار؟!، ثم أخذ الإمام أحد الكيسين، وقال لمصادف: (هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح)، ثم أردف: (يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال) (4).

دروس عملية من القصة

تقدم قصة مصادف دروسا عملية خالدة، فبينما تغيرت طبيعة التجارة، وتطورت أدواتها، فإن المبادئ الأخلاقية التي أرساها الإمام الصادق (عليه السلام) لا تزال جوهرية وحيوية لتحقيق التوازن والنجاح المستدام، ومن تلك الدروس:

1. العدالة في التسعير ومنع التواطؤ

تشبه ممارسة مصادف والتجار (التواطؤ على التسعير)، وهو ما يعد في الاقتصاد الحديث جريمة اقتصادية تضر بالمستهلكين وتخل بمبدأ المنافسة العادلة، وقد جاءت الروايات لتؤكد أن التسعير العادل ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو واجب شرعي وأخلاقي، يسهم في حفظ التوازن الاجتماعي ومنع الظلم، ففي الروايات الشريفة، يكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر قائلا: (فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل، واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)(5)، هذه الوصية لا تقتصر على منع الاحتكار فحسب، بل ترسخ مبادئ أساسية للتجارة العادلة فينبغي ان يتسم البيع بالسهولة والتسامح، بعيدا عن الاستغلال والمغالاة، واستخدام معايير ثابتة ومنصفة في تحديد الأسعار والأوزان، لا تتغير بحسب هوى البائع أو حاجة المشتري، فالربح مسموح به، ولكن ليس على حساب ظلم المستهلك أو إلحاق الضرر به، وفي المقابل، لا يجوز أن يقع البائع تحت خسارة تجحف بماله وجهده، هذا المبدأ يرسخ فكرة أن التجارة علاقة منفعة متبادلة، وليست صراعا بين طرفين. 

2. أخلاقيات الربح: جهاد النفس

ترسخ قصة الإمام الصادق (عليه السلام) مبدأ عميقا يبين أن الربح ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة مشروعة تضبط بالعدل والرحمة، لم يرفض الإمام الربح لأنه حرام، بل لأنه تلوث باستغلال حاجة الناس، لقد أرسى مبدأ جوهريا مفاده أن الربح يجب أن يكون نتيجة للجهد والعمل، لا التواطؤ واستغلال الظروف، فالتجارة ليست ساحة للمكاسب السريعة، بل هي ميدان يختبر فيه ضمير التاجر وأخلاقه، ومدى عدالته وإنصافه.

إن قول الإمام: (يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال) ليست مجرد نصيحة عابرة، بل هي خلاصة فلسفة كاملة في أخلاقيات الربح، إنها تقارن بين جهاد الجندي في ساحة المعركة وجهاد التاجر في سوقه، فالأول يواجه عدوا ظاهرا، بينما الثاني يواجه أشد الأعداء نفسه الأمارة بالجشع والطمع، هذا الجهاد الداخلي هو ما يحدد مشروعية الكسب وبركته الحقيقية.

3. الرحمة الاجتماعية: أساس المعاملات

لم تقتصر رؤية الإمام الصادق (عليه السلام) على الجانب الاقتصادي، بل امتدت لتشمل قيما إنسانية عميقة مثل الرحمة والتعاطف، عندما علم الإمام بما فعله مصادف، لم يكن اهتمامه ينصب على الربح المادي الذي جلبه، بل على الضرر الذي لحق بالناس، فقول الإمام: (سبحان الله! تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلا بربح الدينار بدينار)، هو جوهر الموقف الأخلاقي في القصة، فهو استنكار لعدم وجود الرحمة في قلوبهم.

ويعزز هذا المعنى ما ورد عنه (عليه السلام) حيث قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاقد على التعاطف والمؤاساة لأهل الحاجة)(6)، إن تصرف الإمام برفض الربح كان تطبيقا عمليا لمبدأ الرحمة الاجتماعية، فالتجارة يجب أن تكون وسيلة لتحقيق الخير في المجتمع، لا لإلحاق الضرر به، فالربح الذي يأتي على حساب معاناة الناس هو ربح منزوع البركة، مهما كان حجمه.

يقدم فكر الإمام الصادق (عليه السلام) خارطة طريق متكاملة تجمع بين العدالة الاقتصادية والرحمة الاجتماعية، ففي عالم اليوم الذي يسيطر عليه الجشع، تعد قصة مصادف دليلا عمليا على أن الربح الحقيقي ليس في الكم، بل في الكيف، إنها دعوة للتجار إلى جعل ضميرهم هو ميزان معاملاتهم، فالكسب الذي يبنى على استغلال حاجة الآخرين هو ربح منزوع البركة، إن التجارة في هذا الفكر ليست مجرد وسيلة للثراء، بل هي عبادة تؤجر عليها النفوس الصالحة، وميدان لجهاد عظيم ضد النفس الأمارة بالجشع.

.........................................

1. الكافي - الشيخ الكليني - ج ٥ - ص ١٦٢

2. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٩ - ص ٤٤٣

3. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٧ - ص ٤٣

4. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٧ - ص ٥٩

5. نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٣ - ص ١٠٠

6. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٢ - ص ٢٠٣

ذات صلة

هل نصدّق الكرامات المتداولة.. وهل نصدّق الوعود الانتخابية؟أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وأثرها في صيانة وتعزيز الحقوق والحرياتالتجربة العراقية الأخيرةفي الحياة الزوجية: ماذا يجب على الزوجة تجنبه؟مظلة باكستان النووية.. هل تحقق توازن الردع للسعودية في المنطقة؟