الضرورة الجيوسياسية تحتم ترقية الدولار

بروجيكت سنديكيت

2024-06-26 03:59

بقلم: جوردان بليشر، جوش ليبسكي

كمبريدج، ماساتشوستس/واشنطن، العاصمةــ في خطاب ألقاه عام 1955 أمام مجموعة من المصرفيين الاستثماريين، روى رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي آنذاك ويليام ماكشيسني مارتن قصة عن أستاذ اقتصاد كان يُـعـطي تلاميذه ذات الامتحان دائما. وعندما سُئل كيف يمكن لأي طالب أن يفشل في مثل هذا الاختبار، أجاب الأستاذ: "الأسئلة لا تتغير، لكن الإجابات تتغير.

لا تزال هذه القصة موضوعية ومناسبة للمقام اليوم، وليس فقط لخلفاء مارتن في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. تدور المناقشة التي تتناول صحة الدولار حاليا في إطار تصور مزدوج: فإما أن مكانته كعملة احتياطية عالمية تتآكل بسرعة بسبب عوامل جيوسياسية إلى جانب السياسات المالية الأميركية، أو أنه يظل العملة المهيمنة المنقطعة النظير والتي لا يوجد لها منافس في الأفق.

الحق أن الواقع أشد تعقيدا. ففي حين يظل الدولار مهيمنا في مجالات مثل تمويل التجارة والنقد الأجنبي، فقد تكون هذه مؤشرات متبقية على القوة التي كانت للدولار. وقد تشكل أنظمة الدفع إشارة أكثر جدارة بالثقة إلى الموقف المحتمل لأي عملة في المستقبل. يُـشَـبِّـه القائمون على البنوك المركزية أنظمة الدفع بالسباكة: فلا يمكنك تشغيل المياه إلا بعد توصيل الأنابيب. وبمجرد تشييد وتشغيل هذه البنية الأساسية، قد يحدث تحول في مكانة العملات بسرعة أكبر من المتوقع. فلم يتوقع سوى قِلة من الناس التحول من الجنيه الإسترليني إلى الدولار في عشرينيات القرن العشرين.

في السنوات الأخيرة، عملت البلدان بنشاط على تحسين سباكتها المالية. وقد ساعدت أنظمة الدفع السريع في تحويل المشهد المالي في بلدان مثل البرازيل والهند. كما بدأت البلدان في الربط بين بُـناها الأساسية المالية، على النحو الذي عمل على تمكين التسوية اللحظية تقريبا عبر الحدود الوطنية. يربط مشروع mBridge بين البنوك المركزية والتجارية من الصين وهونج كونج وتايلاند والإمارات العربية المتحدة دون الاعتماد على الدولار. في وقت سابق من هذا الشهر، انضمت المملكة العربية السعودية إلى المشروع، ومن المتوقع أن تنضم إليه عدة بلدان أخرى هذا العام.

مؤخرا، عَـزَت جيتا جوبيناث، النائبة الأولى لمدير عام صندوق النقد الدولي وهي أكبر مسؤول أميركي فيه، استخدام الرنمينبي على نحو متزايد إلى نظام المدفوعات العابر للحدود بين البنوك المعمول به في الصين، والذي يعمل كدار مقاصة، على غرار نظام مدفوعات المقاصة بين البنوك في الولايات المتحدة. ورغم أن أكثر هذه المشاريع صغير نسبيا مقارنة بالحجم الهائل من المعاملات القائمة على الدولار، فلا يجوز لنا أن نتجاهلها.

من الممكن أن يُعزى الاهتمام المتزايد بالهياكل المالية البديلة جزئيا إلى تصور مفاده أن الاعتماد على الأنظمة الغربية أمر محفوف بالمخاطر. وقد رَصَـدَ بحث أجراه المجلس الأطلسي زيادة حادة في عدد البلدان التي تستكشف تكنولوجيات دفع جديدة منذ فرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا.

الواقع أن كثيرا من هذه المشاريع ليست مجرد نسخ طبق الأصل من أنظمة قديمة؛ بل إنها تسعى إلى جعل المدفوعات عبر الحدود أسرع وأرخص وأكثر جدارة بالثقة. وبمرور الوقت، قد تعمل على خفض الطلب على الدولار، وزيادة التكاليف التي يتحملها المقترضون الأميركيون وجعل الولايات المتحدة أكثر عُرضة لصدمات الاقتصاد الكلي.

يتمثل خطر أكثر إلحاحا في حقيقة مفادها أن هذه الأنظمة الجديدة قد تقوض مصالح الأمن القومي الأميركي. ذلك أن كثيرا من أنظمة الدفع عبر الحدود الجديدة قادرة على تسهيل المعاملات دون إشراك البنوك الأميركية، وهذا يحد من قدرة وزارة الخزانة على الوصول إلى المعلومات المالية ويؤدي إلى تآكل قدرتها على فرض العقوبات. لسنوات طويلة، سعت الحكومات والبنوك في مختلف أنحاء العالم إلى إيجاد السبل لتخطي الدولار، وغالبا بتكلفة باهظة. والآن، قد تجعل التكنولوجيات الرقمية المتطورة هذه العملية أرخص كثيرا.

في الاستجابة لهذه التحديات، يجب أن تكون أولى أولويات صناع السياسات في أميركا ضمان توافق أنظمة الدفع عبر الحدود في المستقبل مع القيم والمصالح الأميركية، مثل صيانة استقرار النظام المالي العالمي. يتمثل أحد السبل لتحقيق هذا الهدف في الدعوة إلى ضرورة وفاء أنظمة الدفع عبر الحدود الجديدة بالمعايير الدولية القائمة.

ولكن من المرجح أن يكون للولايات المتحدة نفوذ أكبر على أنظمة الدفع الجديدة هذه إذا شاركت بنشاط في تطويرها وبنائها وتشغيلها، كما كانت في إنشاء أنظمة الدفع بين البنوك مثل SWIFT والتسويات المترابطة المتواصلة (Continuous Linked Settlement).

على الرغم من البداية البطيئة، فإن الميزة الهائلة التي تتمتع بها أميركا والتي تتمثل في كونها القائم الفعلي بالوظيفة من شأنها أن تمكنها من اللحاق بالركب بسرعة. تُـعَـد البنوك الـمُـناظِـرة في الولايات المتحدة العُقَد المركزية للمدفوعات عبر الحدود، وأميركا موطن لبعض من أكبر وأرقى مقدمي خدمات الدفع عبر الأجهزة المحمولة وشركات التكنولوجيا المالية في العالم. ينبغي لصناع السياسات أن ينقلوا إلى القطاع الخاص حقيقة مفادها أن حلول الدفع عبر الحدود الجديدة تشكل حتمية جيوسياسية، وأن يضعوا مبادئ توجيهية واضحة لدعم الإبداع المسؤول.

يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يضطلع بدور حاسم في تيسير هذا التحول. الواقع أن البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم ــ بما في ذلك بنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان، وسلطة النقد في سنغافورة ــ تقود الإبداع في مجال الدفع في دوائر اختصاصها وعلى مستوى العالَـم. لكن افتقار الاحتياطي الفيدرالي إلى رؤية واضحة يجعل من الصعب على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها التنسيق بشكل فعال، وهذا بدوره يزيد من خطر تفتت النظام المالي الدولي. وإذا فشل الاحتياطي الفيدرالي في مواكبة الإبداع التكنولوجي، فقد تلعب أموال البنك المركزي دورا متضائلا في عمليات التسوية، على النحو الذي يهدد الاستقرار المالي.

ولأن بنك الاحتياطي الفيدرالي كان يركز تقليديا على تحسين كفاءة وسلامة أنظمة الدفع، فإن سعيه إلى مواءمة نفسه مع أجندة جيوسياسية تفرضها إدارة بعينها، كما يخشى بعض المراقبين، قد يعرض استقلاله للخطر. لكن الاعتراف بالعواقب الجيوسياسية المترتبة عل الدور الذي يضطلع به الاحتياطي الفيدرالي لا يتطلب إعادة كتابة تفويضه. لتمكين مستخدمي الدولار من إجراء المعاملات بكفاءة وأمان قدر الإمكان، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، ينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يدعم الإبداع والتجريب في المدفوعات، وبالتالي المساعدة في الحفاظ على هيمنة الدولار العالمية، جنبا إلى جنب مع فوائده في تعزيز الاقتصاد والأمن الوطني. هذا ليس مفهوما جديدا: كانت إحدى المسؤوليات الأصلية الملقاة على عاتق الاحتياطي الفيدرالي قبل قرن من الزمن ضمان معالجة أسرع للشيكات.

اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي بالفعل عدة خطوات واعدة. ففي عام 2023، أطلق خدمة دفع سريعة جديدة تحت مسمى FedNow، والتي إذا جرى اعتمادها على نطاق واسع، يمكن ربطها بالأنظمة في دوائر اختصاص أخرى وتعزيز جاذبية الدولار على المستوى الدولي. من ناحية أخرى، يشارك بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ــ إلى جانب بنك اليابان، وبنك إنجلترا، وأربعة بنوك مركزية أخرى ــ في مشروع أجورا التابع لبنك التسويات الدولية، والذي يستكشف كيف يمكن لتكنولوجيات ناشئة مثل التحول الرمزي والدفاتر المشتركة أن تعمل على تحسين المدفوعات عبر الحدود. على الرغم من أهمية هذه المبادرات، يتعين على الاحتياطي الفيدرالي أن يتحرك بسرعة أكبر وبشكل أكثر حزما، نظرا للفجوة الكبيرة بين إثبات المفهوم والتنفيذ.

يصادف شهر يوليو/تموز هذا العام الذكرى السنوية الثمانين لانعقاد مؤتمر بريتون وودز عام 1944، بينما كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مستعرة. إدراكا منها للحاجة إلى إنشاء نظام نقدي جديد، كان بوسع البلدان الأربعة والأربعين الـمُـشارِكة النظر إلى ما هو أبعد من الأزمة المباشرة وإرساء الأساس لمؤسسات دولية جديدة وإبداعات مالية للمستقبل.

إن الحفاظ على مكانة الدولار بصفته عملة احتياطية والفوائد التي تستمدها منه الحكومة الأميركية والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة يتطلب إحياء روح بريتون وودز. في إعادة صياغة ما قاله أستاذ الاقتصاد في القصة التي رواها مارتن، ربما نقول: "في حين ظلت الأسئلة على حالها، فإن الوقت حان لتقديم إجابات جديدة.

* جوردان بليشر، كبير المسؤولين القانونيين في شركة Radius Technology Systems مستشار سابق في وزارة الخزانة الأمريكية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي.

جوش ليبسكي، المدير الأول لمركز الجغرافيا الاقتصادية التابع للمجلس الأطلسي، وهو مستشار سابق في صندوق النقد الدولي ووزارة الخارجية الأمريكية.

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي