دروس جديدة من الاقتصاد السلوكي
صندوق النقد الدولي
2024-03-26 06:32
بقلم: أولريك مالمندير، كلنت هاملتون
الخبرات الحياتية السابقة لصناع السياسات والمستهلكين على حد سواء تفرض انعكاسات طويلة الأمد على النتائج الاقتصادية في العالم الحقيقي.
بتاريخ 29 أكتوبر 1929، انسدل الستار فجأة على عشرينات القرن الصاخبة في الولايات المتحدة. ففي حدث عرف باسم "الثلاثاء الأسود"، انهارت البورصة الأمريكية، وظلت لسنوات طويلة دون ذروة عام 1929 حتى الخمسينات.
ولم تنحصر التداعيات اللاحقة للكساد الكبير داخل البورصة فقط، بل طالت بطون المواطنين الذين اصطفوا أمام مطاعم الفقراء أو لاذوا إلى النوم في أطراف المدن. وقد عاش جيل "أطفال الكساد الكبير" الذي نشأ إبان الكساد الكبير حياة مقترة وعزف عن المخاطر، ولا سيما المرتبطة بالبورصة. وحرفت الصدمة التي عاشها المواطنون ملامح جيل كامل ومعتقداته ونظرته إلى العالم واختياراته الاقتصادية – في أسواق المال والعمل وجوانب أخرى عديدة من الحياة.
وفي علم الاقتصاد، أصبح أطفال الكساد الكبير رمزا لموجة جديدة من بحوث الاقتصاد السلوكي. وتسهم هذه الموجة في إفساح هذا المجال البحثي لاستقاء المعرفة والمنهجيات من العلوم الاجتماعية والطبيعية ذات الصلة، إلى أصوله في علم النفس والاقتصاد. ويركز جوهر العديد من الموضوعات والمنهجيات الجديدة حول الصدمة والضغوط والإدمان والصحة النفسية وتنمية الطفل على السياسة، حيث ترتبط مباشرة بالأعمال التي تناولت "وفيات اليأس"، حسب المصطلح الذي أطلقه كل من آن كيس وأنغوس دايتون في القرن الحادي والعشرين وثبات الأدوار الجنسانية والتمييز العرقي.
بدايات الاقتصاد السلوكي
ولكن لنرجع إلى الوراء قليلا لقصة وجيزة حول أصول الاقتصاد السلوكي. فمنذ ما يزيد على خمسين عاما، في أواخر الستينات، كان مجال الاقتصاد مكتفيا بالحسابات الرياضية الدقيقة والنماذج، وشعر أبرز اقتصاديي العصر، مثل بول صامويلسون وملتون فريدمان، بأنهم أقرب إلى الفيزيائيين منهم إلى علماء النفس. ولكن في الوقت نفسه تقريبا، التقى عالما النفس الإسرائيليان دانييل كانيمان وعاموس تفيرسكي في الجامعة العبرية بالقدس حيث بدءا تعاونهما الذي أدى في نهاية المطاف إلى تحول في المشهد الاقتصادي القائم آنذاك. وتناول أهم أعمالهما، الذي كشف الستار عن نظرية أفق الاحتمالات في عام 1979، عددا قليلا من المبادئ لوصف كيفية اتخاذ البشر للقرارات في مواجهة المخاطر – وهي مبادئ بدت منطقية للغاية ولكنها كانت بعيدة أيضا عن علم الاقتصاد التقليدي. وأحد هذه المبادئ أن البشر يعزون وزنا أكبر للاحتمالات الضعيفة ووزنا أقل للاحتمالات الغالبة. (هل سبق لك الشعور بالقلق من سقوط الطائرة رغم أنه حدث نادر؟ هذا ما يعنيه العالمان.) والمنظور المهم الآخر أن البشر يكترثون بالتغيرات في الثروة النسبية ويبغضون الخسارة. (فقد تجد نفسك محبطا لخسارة 20 دولارا رغم تأثيرها المحدود على مجموع ثروتك.) وقد اُعتبر أن نظرية أفق الاحتمالات وحدها تستحق جائزة نوبل في الاقتصاد، ولكن كانيمان وتفيرسكي أضافا إلى الفكر الاقتصادي الكثير من مفاهيم علم النفس حول "الاستدلال والتحيز".
وبمجرد اتقاد شعلة الاقتصاد السلوكي، حملها الباحثون في مجال الاقتصاد والمالية لمواصلة هذا السعي. فقد تعاون ريتشارد ثالر، الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017، مع كانيمان وتفيرسكي، ونشر لاحقا سلسلة خاصة من المقالات بعنوان Anomalies حول الظواهر التي أخفق الاقتصاد في تفسيرها بمعزل عن علم النفس، مثل أسباب الارتفاع المعتاد في أسعار الأسهم خلال شهر يناير.
وقد ركز الاقتصاد السلوكي آنذاك على تحديد الاختلالات وتقديم حلول من علم النفس لتفسيرها. وبمجرد وضع النماذج النظرية، انطلقت موجة ثانية من الاقتصاد السلوكي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين للتركيز على توثيق التحيزات السلوكية تجريبيا – التي غالبا ما تكون في صورة آثار ضخمة في العالم الحقيقي – ودمجها في مجالات البحث الاقتصادي الأخرى. فعلى سبيل المثال، من أهم المسائل المحيرة في اقتصاد التنمية أسباب الإقبال المحدود على الفرص الاستثمارية المربحة، مثل استخدام الأسمدة. ويمكن تفسير هذا اللغز في ضوء الفكرة التي تقول بأن البشر يكترثون للتغيرات في ثرواتهم النسبية ويبغضون الخسارة (إذا لم تتحسن محاصيلهم بعد استخدام الأسمدة، على سبيل المثال).
وفي واقع الأمر، أصبح الاقتصاد السلوكي عنصرا أساسيا في جميع مجالات الاقتصاد تقريبا – التمويل والعمل والقطاع العام والتنمية والاقتصاد الكلي – خلال الموجة الثانية من البحوث السلوكية لدرجة أن البعض قد يحق له الاعتقاد بأن "المهمة انتهت". فقد بات الواقع النفسي جزءا لا يتجزأ من مفهوم "الكائن الاقتصادي" الكلاسيكي، ذاك الكائن الذي دائما ما ينتقي الخيار المثالي ويبدو أقرب إلى جهاز الحاسب الآلي منه إلى الإنسان.
العقل والجسد
ولكن هناك مشكلة: فإذا نظرنا إلى الكائن الاقتصادي باعتباره جهاز حاسب آلي، يعني ذلك أن الاقتصاد السلوكي جاء بفكرة أن هذا الجهاز قد تشوبه عيوب برمجية وربما يقدم أحيانا على تصرفات غير منطقية. غير أنه حتى مع هذه العيوب، يظل الكائن السلوكي جهاز حاسب آلي قد يخطئ أحيانا. ولكن برنامجه مهيأ بالفعل – ويحوي قدرا من التفاؤل المفرط أو التحيز للحداثة أو مغالطة التكلفة الغارقة – وسيحدد أفعاله إلى الأبد.
غير أن ما حدث مع أطفال الكساد الكبير كان مختلفا بالتأكيد. فقد طرأ عليهم تحول كبير بفعل خبراتهم السابقة. وهذا واقع الحال. ألم يتقاسم أفراد كل جيل خبرات أدت إلى تحولهم؟ ولذلك نطلق عليهم أسماء مثل أبناء "جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية" الذين ولدوا خلال فترة الانتعاش التي تلت الحرب.
وهذا هو المفهوم الذي تهدف أحدث موجات الاقتصاد السلوكي إلى استحداثه في مجال الاقتصاد. فالبشر أكثر بكثير من مجرد حواسب آلية أو حواسب آلية ذات برامج معيوبة. فكل منهم كائن يعيش ويتنفس ويتأثر بمساره الحياتي الفريد. وطالما قال العديد من الباحثين الاقتصاديين – في مجالات اقتصاديات الصحة والاقتصاد العصبي على سبيل المثال – بأنه لا يمكن تجاهل الآليات البيولوجية التي تنظم أجسادنا وتجدد عقولنا. وقد أصبحنا الآن قادرين على رؤية الحلقات المفقودة بصورة أكثر منهجية: فالبشر عبارة عن عقل وجسد، ويجب مراعاة كلاهما في جميع علوم الاقتصاد المعنية بتوصيف السلوك البشري.
كيف يمكن لهذه الفكرة أن تساعدنا في ممارسة الاقتصاد بصورة أفضل؟ لنعود إلى "أطفال الكساد الكبير" ومفهوم بحوث الاقتصاد عما حدث لجيلهم. وتذهب العلوم العصبية وبحوث الطب النفسي العصبي إلى أن خبراتنا الشخصية السابقة تغير من تركيبتنا. فقد وثقت أبحاث المرونة العصبية على مدار عقود كيف يعيد العقل البشري باستمرار تنظيم مساراته في ضوء الخبرات الجديدة. فكلما استخدم العقل مسارات معينة، أصبحت هذه المسارات أكثر قوة، بينما تضمر المسارات التي يقل استخدامها. وبالتالي، فإلى جانب آثار الجوع والضغوط، كانت للكساد الكبير آثار مزمنة على عقول البشر. فقد كشفت هذه التجربة عن خطر الأسواق المالية على الحياة في الواقع، وكيف لها أن تهدد قدرة الفرد على توفير احتياجاته الأساسية. ونتيجة لذلك، كانت احتمالات مشاركة مراهقي وشباب الكساد الكبير الذي شهدته الثلاثينات في البورصة لاحقا ضعيفة للغاية. فلم تتجاوز نسبة المستثمرين في البورصة 13%، أي أقل من نصف المعدل في أي جيل لاحق.
آثار الخبرة السابقة
مفهوم "آثار الخبرة السابقة" هو إطار منهجي لكيفية تأثير الخبرات الشخصية الحياتية على معتقدات البشر وقراراتهم بشكل دائم. وهو يتعارض بذلك مع الفكر الاقتصادي التقليدي الذي يقول بأن الفرد يستخدم جميع المعلومات المتاحة في تكوين معتقداته. ومن الأساليب المستخدمة في هذا الصدد هو تمثيل الفكر البشري واتخاذ القرارات في مواجهة الخطر بأنه إعطاء وزن أكبر للنتائج التي اختبرها الفرد شخصيا من قبل. فإذا شهد انهيارا كبيرا في البورصة، فإنه سيفترض إمكانية حدوث ذلك مجددا، بل وسيعتقد أن احتمالات الانهيار كبيرة. وفي الواقع، تؤكد عقود من بيانات الاستثمار في البورصة الأمريكية ذلك: فالمستثمرون الذين عانوا من تراجع عائدات البورصة خلال السنوات الماضية من حياتهم تتضاءل احتمالات استثمارهم في البورصة مجددا. أما الأفراد الذين مروا بخبرات إيجابية، فتزداد احتمالات استثمارهم في البورصة.
ولكن آثار الخبرة السابقة لا تتعلق بأحداث الماضي القريب فحسب. فيذهب أحد المفاهيم المهمة إلى أن الأجيال المختلفة تتشكل بصور مختلفة، وبالتالي قد تختلف استجابتها للأحداث القريبة ذاتها. فامرأة في الستين من عمرها ستختلف استجابتها للغاية تجاه وقوع أزمة مالية وانهيار البورصة مقارنة بشخص أخر في عمر الثلاثين، نظرا لأن صاحبة الستين عاما اختبرت المزيد والمزيد خلال حياتها وتعكس نظرتها بشكل بديهي متوسط جميع هذه الخبرات، بينما مر صاحب الثلاثين بخبرات أقل كثيرا. وبالتالي فإن الأزمات القريبة تستغرق جزءا أطول من حياته وتستأثر بأهمية أكبر في تفكيره وقرارته. ولا نعني بذلك أن كانيمان وتفيرسكي كانا على خطأ بشأن التحيز للحداثة بمفهومه البسيط. على العكس! فالأفراد يتحيزون بوضوح للحداثة، ويولون أهمية أكبر للمعلومات الحديثة على حساب المعلومات القديمة. ولكن ما يهم هو الخبرات الحياتية الشخصية، فالخبرات السابقة على مدار الحياة هي المكيال الذي تكال به الخبرات الجديدة.
وتكشف بيانات البورصة عن جوانب أخرى مثيرة للاهتمام في عملية صنع القرارات البشرية. وأحد هذه الجوانب هو "خصوصية المجال" لتأثيرات التجارب: فالخبرات مهمة عند اتخاذ القرارات في نفس المجال فقط. فعلى سبيل المثال، يبدو أن خبرات البورصة لا تؤثر على الاستثمار في أسواق السندات. كذلك تكشف البحوث عن أن الخبرات الخاصة بمجال البورصة لا تتعلق بالعائد على الأسهم أو السندات فحسب، بل تتجاوز ذلك. فتشير البحوث ذات الصلة حول استثمارات مواطني ألمانيا الشرقية والغربية في سوق الأسهم إلى أن الذين عاشوا في ظل الشيوعية تتضاءل احتمالات ثقتهم في البورصة واستثمارهم في الأسهم، حتى بعد مرور سنوات وعقود على اتحاد ألمانيا. ويبدو أن سنوات من التعرض للدعايات العاطفية حول البورصة باعتبارها قمة الرأسمالية، التي لم ينتفع منها سوى القليلين، قد فرضت بصمتها.
وللمشاعر، التي تؤثر على تصوراتنا، دور أيضا. فمواطنو ألمانيا الشرقية الذين أُتيحت لهم ظروف معيشية جيدة في ظل الشيوعية – حتى ولو كان بناء على مقاييس غير مالية، مثل العيش في إحدى المدن الشيوعية الشهيرة – هم الأكثر تشددا في آرائهم حول أضرار البورصة والرأسمالية. أما الذين عانوا في ظل النظام الشيوعي – بسبب شدة تلوث الهواء في ألمانيا الشرقية أو الاضطهاد الديني على سبيل المثال – فقد كانوا أكثر ميلا إلى اعتناق مفاهيم اقتصاد السوق فيما بعد عصر الشيوعية.
ويبدو أن مفاهيم آثار الخبرة السابقة تنطبق على كافة مناحي الحياة. فخبرات البطالة تخلف آثارا عميقة وتخلق لدى المستهلكين شعورا بالحذر حتى بعد مرور سنوات طويلة عندما تصبح لهم وظائف مستقرة عالية الأجر. والبنوك التي انهارت نسبها الرأسمالية في السابق تستجيب بزيادة رسملتها عن نظرائها. والخبرات الحياتية مع عوائد أسواق السندات تؤثر على الاستثمار في السندات. والأفراد الأفضل وضعا اجتماعيا واقتصاديا عادة ما تكون نظرتهم الاقتصادية أكثر تفاؤلا.
والتضخم من المتغيرات الاقتصادية الكلية الأخرى التي كثيرا ما يراقبها صناع السياسات. وخبرات التضخم، كما خمن القارئ على الأرجح، تبدو وأن لها دورا كبيرا في تشكيل معتقدات الفرد وقراراته فيما يتعلق بالتضخم. فحسبما وثقت عدة أبحاث أجريت باستخدام أكثر من 50 عاما من بيانات مسوح توقعات التضخم، فإن متوسط معدلات التضخم التي شهدها الفرد طوال حياته تتنبأ بدقة بتوقعاته الفعلية حول التضخم. وتلك التوقعات القائمة على الخبرات السابقة تؤثر على النتائج المهمة في العالم الحقيقي – كقرار شراء مسكن على سبيل المثال. فقد وجد أن الحماية من التضخم من أهم الدوافع وراء قرارات شراء المساكن (بدلا من الاستئجار). ونتيجة لذلك، فإن الفرد الذي اختبر ارتفاع معدلات التضخم سيفضل على الأرجح امتلاك سكن بدلا من الاستئجار، والحصول على قرض عقاري بسعر فائدة ثابت بدلا من قرض بسعر فائدة متغير، وذلك بدافع التحوط أيضا من معدلات التضخم (وأسعار الفائدة) المتزايدة.
وتمتد آثار الخبرات السابقة إلى ما هو أبعد من ذلك: فإحدى معضلات التضخم التي أثارت حيرة الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، ولوحظت في العديد من البلدان الأخرى، هي ارتفاع التوقعات التضخمية للنساء دائما مقارنة بالرجال. وقد وجد حل هذه المعضلة في آثار الخبرة السابقة التي وثقت فروقا جذرية في الخبرات بين الرجال والنساء: شراء البقالة. فارتفاع التوقعات التضخمية للنساء مقارنة بشركائهن من الرجال لم يلاحظ سوى في الأسر التي تكون فيها النساء هي المسؤول الرئيسي عن شراء البقالة. ونظرا لتزايد تضخم أسعار الغذاء (أو تزايد التقلبات السعرية على الأقل – ومن المعلوم من البحوث السابقة أن المستهلكين يكترثون للاتجاهات الصعودية)، ترتفع التوقعات التضخمية للأفراد الذين يتسوقون المواد الغذائية. وما دامت نسبة النساء اللاتي يتسوقن مواد البقالة أعلى من الرجال حسب الأدوار الجنسانية، ستظل هناك فروق بين خبراتهم الحياتية – ومعتقداتهم بالتالي.
تحيز صناع السياسات
حتى خبراء صنع السياسات تعكس أفعالهم آثار خبراتهم السابقة. (صناع السياسات هم عقول بشرية في النهاية.) فعادة ما تكون التنبؤات التضخمية لمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي متحيزة تجاه مستويات التضخم التي اختبروها على مدار حياتهم وبعيدة عن تنبؤات خبراء التحليل. وهذا التحيز يجعل تنبؤات محافظي الاحتياطي الفيدرالي أقل دقة.
ومن الأمثلة المتطرفة هنري واليك الذي نشأ في ألمانيا خلال فترة التضخم المفرط في العشرينات وتولى منصب المحافظ في مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 1974. وخلال فترة ولايته، عارض قرارات المجلس 27 مرة، وهو رقم قياسي، حيث اعتقد أن الاحتياطي الفيدرالي عليه أن يكون أكثر حذرا في التعامل مع التضخم.
كلما كانت خبرات الفرد صادمة خلال الأزمات، لاحقته التداعيات طويلا – لسنوات عديدة حتى بعد انتهاء الأزمة.
وتشترك آثار الخبرة السابقة التي تؤثر على صناع السياسات والأفراد العاديين على السواء في أربعة سمات أساسية:
الآثار طويلة الأمد للخبرات السابقة
إيلاء أهمية أكبر لأحداث الماضي القريب
خصوصية المجال
المعرفة عن طريق التعلم ليس لها سوى تأثير ضئيل مقارنة بالمعتقدات القائمة على الخبرة السابقة، حتى وإن كانت معتقدات مشوهة.
وهكذا، يُسترشد بآثار الخبرات السابقة في صياغة الأبعاد المهمة للتدخلات والبرامج الهادفة إلى معالجة الأزمات. أولا، عادة ما يضطر صناع السياسات إلى المفاضلة بين سرعة حل الأزمات وتكلفة هذا الحل. وتتضح من التداعيات طويلة الأمد لآثار الخبرات السابقة منافع الحلول السريعة للأزمات. فعلى سبيل المثال، من شأن تداعيات الفترة التضخمية الأخيرة على المعتقدات أن تؤثر طويلا على استجابة الفرد لتقلبات الأسعار. وكلما كانت هذه الفترة أقصر وأكثر اعتدالا، تضاءلت آثارها طويلة الأمد. والعكس صحيح. فكلما كانت خبرات الفرد صادمة خلال الأزمات، لاحقته التداعيات طويلا – لسنوات عديدة حتى بعد انتهاء الأزمة – كما رأينا في تجربة الكساد الكبير.
وثانيا، فإن الشواهد حول آثار الخبرة السابقة تعني أن صناع السياسات عليهم مراعاة الخبرات المختلفة لمختلف المجموعات السكانية المستهدفة. فإجراء تدخلي واحد قد يسفر عن استجابات شديدة الاختلاف حسب طبيعة الأحداث السابقة التي شكلت سلوكيات الأفراد وتوقعاتهم. وفي الوضع المثالي، ينبغي للسياسات أن تعدل مسارها حسب المجموعات القطرية والعمرية والجنسانية المستهدفة أو أن تراعي على الأقل خبراتها الحياتية المختلفة.
وأخيرا، يساهم التعلم بالتجربة في تشكيل التأييد الذي تحصده السياسات، وهو بديل قوي للمناهج القائمة على المعلومات. فالتجارب العملية المباشرة، من خلال التدابير التدخلية التجريبية على سبيل المثال، يمكن أن يكون لها تأثير أكبر على التفضيلات مقارنة بالتفسيرات النظرية. ويعد "قانون الرعاية الصحية الميسرة" في الولايات المتحدة مثالا على ذلك. فالمواطنون المدرجون في نظام التأمين الصحي الحكومي الذين انتفعوا مباشرة منه كان من المرجح أن يؤيدوا القانون أكثر من غيرهم. وكان من المرجح أن يتحول الجمهوريون المتشككون في البداية إلى مؤيدين، مما يشير إلى أن الفرد يمكن أن يغلب خبراته السابقة على انتماءته الحزبية. وتتيح البرامج التجريبية لصناع السياسات مسارا لاختبار السياسات الجديدة وقياس تأثيرها على مشاعر الجمهور. ومن شأن الخبرات الشخصية الإيجابية بين المشاركين في هذه التجارب أن يعزز من التأييد الجماهيري ويضمن استمراره.