التجربة السنغافورية في معالجة عجز الموازنة المالية

د. علي عبد الرحيم العبودي

2024-02-19 06:10

تمثل الموازنة المالية إحدى أكبر الدعامات الرئيسة لتنمية وتطوير اقتصاد الدولة، كونها تهتم وتركز على إدارة واستغلال الموارد المتاحة بغية اشباع الحاجات المتزايدة للدولة، وعليه نجد لكل دولة موازنة خاصة بها تجمع فيها مختلف الايرادات والنفقات العامة لها، ومن ثم، يتم إعادة توزيعها وبما يحقق التنمية الاقتصادية للدولة والحياة الكريمة للمجتمع.

وعلى وفق ذلك، إدارة مختلف الدول سياساتها الاقتصادية، واجتهدت في وضع حلول للتوفيق بين محدودية الموارد وتعدد الحاجات، ومن هذه الدول (جمهورية سنغافورة)، التي انتقلت من دولة فقيرة تعاني من عجز في تلبية مصروفاتها إلى دولة ذات وفرة مالية، وذلك بعد اتخاذها مجموعة من الإجراءات الاستراتيجية الاساسية، لكن قبل التطرق إلى هذه الاجراءات علينا التطرق إلى أهم مصادر الإيرادات في الموازنة العامة.

إيرادات الموازنة العامة

يكاد يكون العجز السمة البارزة في موازنات معظم الدول في القرن الحادي والعشرين، حتى تلك الدول التي يكون ميزانها التجاري لصالحها، عدا عدد قليل من الدول التي استطاعت وعبر الإدارة السياسية الرشيدة ان تتجاوز العجز وتقفز باقتصادها إلى الفائض، ومن هذه الدول وأبرزها (جمهورية سنغافورة)، لكن قبل الولوج في التجربة السنغافورية عليها تحديد أهم الايرادات المكونة للموازنة.

1- الإيرادات الضريبية: وتتألف من الضرائب المباشرة (الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات على سبيل المثال) وغير المباشرة، من مثل (الضريبة على القيمة المضافة نموذجا) وباقي الرسوم التي تفرضها الدولة مثل الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات والصادرات ورسوم تسجيل العقود والغرامات (1).

2- الإيرادات غير الضريبية: وتتمثل في الأرباح التي تحققها الشركات الحكومية، وعائدات الأسهم التي تملكها الدولة في شركات القطاع الخاص. هذا فضلا عن ايرادات الرسوم والرخص التي تؤديها الحكومة بصفة دورية، من مثل (رخص الصيد، حقوق استغلال المناجم، حقوق زراعة أراضٍ مملوكة للدولة) (2).

3- الصادرات: من أهم ايرادات الدولة هي الاموال المتأتية عن تصدير سلعة أو خدمة ما إلى الخارج، خاصة في الدول التي تشكل الصادرات فيها القسم الأكبر من انتاجها القومي (كسنغافورة)، والدول النفطية التي تعتمد على تصدير النفط في ايراداتها القومية (3).

4- الاقتراض، وعوائد الاستثمارات: الاقتراض هي اموال داخلة للحكومة عن طريق الدين من الخارج او الداخل. أما عوائد الاستثمارات هي الارباح المحققة من مشاركة الدولة في استثمارات داخلية او خارجية (4).

5- السياحة: تأتي قسم من ايرادات الدولة من قطاع السياحة، وتختلف مساهمة هذا القطاع في ايرادات الدولة حسب موقع الدولة وثقافتها وتاريخها، فضلا عن درجة اهتمامها بهذا القطاع (5).

6- الاعانات والهبات: وتمثل مجموع المساعدات النقدية والعينة التي تتلقاها الحكومة من قبل دولة أخرى أو المجتمع الدولي، من مثل (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) (6).

هذه أهم الايرادات التي تستحصل عليها الدولة بغية تغطي واجباتها ونفقاتها العامة، إذ تُعرف النفقات العامة للدولة على أنها: (مجموع المبالغ التي تنفقها الدولة لتغطيت واجباتها، من مثل، رواتب الموظفين، انشاء بنى تحتية، التامين الصحي، دعم الاستثمارات، سد مديونية الدولة، الاستيراد من الخارج، تقديم اعانات وهبات، الانفاق على التطوير والبحث العلمي).

وعلى وفق الإيرادات والنفقات الانفة الذكر يحدد العجز والفائض في الموازنة المالية للدولة، فعندما تكون ايرادات الدولة اعلى من نفقاتها في سنة معينة، يكون فائض في الموازنة، أما إذا كانت الايرادات العامة لا تغطي النفقات العامة، تكون الموازنة في حالة عجز يستوجب العلاج، وفي حال تساوي الايرادات العامة مع النفقات العامة تكون الموازنة متوازنة.

استراتيجية الحكومة السنغافورية في علاج عجز الموازنة المالي

بعد أن كانت سنغافورة من الدول الفقيرة والتي تعاني من عجز مزمن في موازنتها العامة، استطاعت الحكومة في سنغافورة ووفقا لسياساتها المالية والاقتصادية أن تجعل العجز المالي حالة طارئة في موازنتها وتحقيق فائض في معظم السنوات، وذلك يعزى إلى الاستراتيجيات التي اتخذتها الحكومة في تنمية وتطوير ايراداتها بشكل عام منذ انفصالها عن ماليزيا وتولي (لي كوان يو) الحكم عام 1965 (7). وكما هو موضح في المخطط (1).

مخطط (1) الحلقة الاستراتيجية الإصلاحية لجمهورية سنغافورة

{img_1}

ويمكن اجمال استراتيجيات الحكومة السنغافورية في علاج العجز المالي بالآتي:-

1- تطوير قطاع السياحة: إن البداية كانت مع قطاع السياحة في مطلع الستينات، حيث كان هو الخيار الأول أمام صناع القرار في سنغافورة لمعالجة العجز المالي ولإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل، إذ وفرت السياحة فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية لابتلاع حجم البطالة المرتفع وقتذاك، خاصة مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظّف ما بين (40 - 50) ألف عامل محلي (8).

2- رأس المال البشري: عملت الإدارة السياسية في سنغافورة وبسبب عدم توفر موارد طبيعية، على تطوير وتأهيل اليد العاملة ودعم الكفاءات عبر اعطاء المجال التعليمي والبحث العلمي قدر كبير من الاهتمام في سبيل خلق طاقات بشرية محلية قادرة على المضي قدماً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد (9)، وكنتيجة لهذه السياسية انخفضت معدلات البطالة في سنغافورة حتى وصلت إلى أدنى مستوياتها، حيث تراوح معدل البطالة السنوي في سنغافورة بين (4-2%) في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (10).

3- قطاع الصناعة: إذ عمدت الحكومة إلى إنشاء المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية في بداية الأمر، وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهرو-حرارية يصل إنتاجها إلى نحو (25) مليار كيلو وات، وقد أقنع لي كوان (رئيس وزراء سنغافورة من 1965-1990) البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني، واستثمارها (11).

4- تأميم الشركات ذات رأس المال – الكفاءة المنخفضة: ضاعفت الحكومة من جهودها في سبيل توفير بيئة عمل صالحة وآمنة، حيث أممت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقص في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة وخطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لاسيما بعد ظهور أسواق تجارية ذات تكلفة أقل لدول نامية مجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة هو دخول شركات كبيرة وذات كفاءة عالية مع مطلع السبعينيات لتصنيع الترانزستور؛ العنصر الاساس في صناعة الاجهزة الالكترونية (12).

5- محاربة الفساد الاداري والمالي وتعزيز الشفافية: شرعت الحكومة جملة من القوانين الصارمة لمحاربة الفساد المالي والإداري (اولهما- قانون من اين لك هذا، والثاني-رفع الحصانة عن اي مسؤول امام القضاء، والثالث- الحكم بالسجن الشديد لكل من ثبتت عليه تهم فساد)، وقد أسس لهذا مكتب خاص سمية بــــ(مكتب التحقيق في الممارسات الفاسدة) الذي اوكل إليه عملية التحقيق في اعمال الفساد في القطاعين العام والخاص (13)، وكنتيجة لهذا العمل الدؤوب حققت سنغافورة المركز الخامس كأفضل دولة خالية من الفساد وذلك بحسب التقرير الاخير لمنظمة الشفافية العالمية لعام 2022 (14).

6- جذب الاستثمارات: بعد ما عملت الحكومة على انشاء بنى تحتية ملائمة والحد من الفساد الاداري والمالي في مؤسسات الدولة، وإدراكها لأهمية الشركات الاستثمارية في نقل التقنية والتكنولوجيا والخبرات، توجهت سنغافورة نحو جذب شركات الاستثمار متعددة الجنسيات، وبالفعل، تمكّنت الدولة من إقناع الأميركيين واليابانيين والأوروبيين من تأسيس قاعدة للأعمال بالبلاد في منتصف الثمانينات، فتحولت سنغافورة إلى واحدة من أكبر مصدري الإلكترونيات في العالم، خاصة مع إصرارها على دخول القرن الجديد بصناعات تكنولوجية متطورة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسة شديدةً من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبياً كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا، إذ عمدت الحكومة على رفع الاجور في صناعات القيمة المضافة العالية التكنولوجيا، لإجبار العمال على الانتقال من الصناعات المنخفضة التكنولوجيا إلى الصناعات ذات التكنولوجيا العالية، لذا تعدّ سنغافورة اليوم إحدى كبار مصدري التكنولوجيا في العالم، من مثل (أجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها) (15).

7- انشاء قاعدة عريضة في قطاع الخدمات المالية: أما الخطوة الأهم في إرساء هذه الجهود التنموية وإكمال الاصلاحات والاندماج مع العالم الخارجي والانتقال بالبلاد من حالة العجز المالي إلى الفائض فكانت عبر دعم القطاع الخدمي، متمثلاً في إنشاء قطاع مالي قوي يستوعب كافة التطورات الداخلية، وحجم التعاملات البنكية والمصرفية لتلك الاستثمارات الأجنبية الجديدة (16)، لذا ارتفعت نسبة مساهمة القطاع المالي ليصل إلى (27%) من دخلها القومي، وأصبح بها أكثر من (123) مصرفاً تجارياً، فضلا عن مئات المؤسسة المالية الاجنبية التي تتخذ سنغافورة مقراً لها، وبورصة مزدهرة لتبادل العملات الآسيوية وبفوائد تشجيعية، ما أسهم في ديناميكية الصناعة المالية في سنغافورة وتكوين فائض متراكم في الموازنة العمومية (17).

8- صناديق الثروة السيادية: بعد تحرك عجلة الاقتصاد، أنشئت سنغافورة صندوقين سياديين مابين عامي 1974 – 1981، وهما صندوق الاستثمارات الحكومي (تيماسيك)، وصندوق إدارة الفائض التجاري والمالي (GIC)، هذين الصندوقين كان لهما عظيم الاثر في علاج العجز المالي للحكومة دون اثقال كاهل المواطن بالضرائب والأعباء الاقتصادية، ويتكون رأس مال هذين الصندوقين من (الاصول الثابتة، والفوائض في الميزانية، والفوائض في ميزان المدفوعات، وارباح الشركات، والفوائد العائدة من الاستثمارات)، وبلغ إجمالي الاصول المالية هذين الصندوقين نحو (1.2) ترليون دولار عام 2022، أي بنسبة نحو (9%) من إجمالي أصول وثروات الصناديق السيادية العالمية (18)، ويحق للحكومة سحب ما يعادل (50%) من رأس مال الصناديق لمواجهة الازمات المالية الطارئة وسد العجز.

ختاماً يمكن القول: إن التجربة السنغافورية جديرة بالمحاكاة، حيث يمكن للعراق أن يستفيد من الاستراتيجيات الإصلاحية التي اتبعتها الإدارة السياسية في سنغافورة، مع الاخذ بالحسبان اختلاف البيئة والخصوصية الثقافية، إذ بفضل الاستراتيجيات التي قامت بها الإدارة السياسية، حققت سنغافورة مستويات مذهلة في أدائها الاقتصادي، وقد تجاوز متوسط دخل الفرد (80) الف دولار سنويا في مطلع الالفية الثالثة، بعد ان كان (512) دولار عام 1965، وهي دولة صغيرة جدا ولا تملك موارد اقتصادية كالتي يمتلكها العراق.

* جامعة النهرين- كلية العلوم السياسية

....................................
(1) خديجة الاعسر، اقتصاديات المالية العامة، (القاهرة: دار الكتب المصرية، 2016)، ص135.
(2) المصدر نفسه، ص133.
(3) مايكل روس، نقمة النفط، تعريب: محمد هيثم نشواتي، (قطر: منتدى العلاقات العربية الدولية، 2014)، ص37-38.
(4) يحيى عبد الغني ابو الفتوح، الجوانب الاقتصادية والمالية في الميزانية العامة للدولة، (المملكة العربية السعودية: مركز البحوث، 2014)، ص137.
(5) عزت قناوي، المبادئ التحليلية في الموارد الاقتصادية، (الكويت: دار العلم للنشر والتوزيع، 2005)، ص298.
(6) فاطمة السويسي، المالية العامة، (لبنان: المؤسسة الحديثة للكتاب، 2005)، ص59.
(7) ابتسام محمد العامري، التجربة التنموية في سنغافورة، (مصر: مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، مجلة بحوث الشرق الأوسط، العدد 45، 2018)، ص 276.
(8) يحيى دايخ، نماذج تنموية مغاصرة: سنغافورة انموذجا، (بيروت: مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2018). متوفر على الرابط:
https://www.bahethcenter.net/essaydetails.php?eid=37773&cid=86
(9) ابتسام محمد العامري، مصدر سابق، ص299 وما بعدها.
(10) البنك الدولي، قاعدة البيانات المفتوحة. ينظر الرابط:
https://data.albankaldawli.org/country/SG
(11) يحيى دايخ، مصدر سابق. ينظر البرابط:
https://www.bahethcenter.net/essaydetails.php?eid=37773&cid=86)
(12) المصدر نفسه.
(13) كوثر طه ياسين، ومصطفى احمد عبد، العوامل السياسية والمؤسسية واثرها في مكافة الفساد في سنغافورة، (العراق: مجلة دراسات دواية، العدد87، 2021)، 443، وما بعدها.
(14) more: Transparency International, Corruption Perception Indicators 2022, (Berlin, Germany, January 2023).
(15) للمزيد ينظر: ابتسام محمد العامري، التجربة التنموية في سنغافورة، مصدر سابق.
(16) more: Ngiam Kee Jin, Singapore's Financial Services Sector: The Road Ahead, (February 2003). look at the link: https://www.nomurafoundation.or.jp/en/wordpress/wp-content/uploads/2014/09/20030220-21_Kee-Jin_Ngiam.pdf
(17) more: GuideMe Singapore, Guides to Managing Singapore Business. look at the link: https://www.guidemesingapore.com/business-guides/managing-business
(18) International Institute of SWFs database for 2022. look at the link: https://www.swfinstitute.org/fund-rankings/sovereign-wealth-fund

ذات صلة

أزمة البرود الجنسي: أسبابها وحلولهاالخطاب السياسي الإسلامي في العراق.. اضاءات في طريق التجديددفاع عن المثقفكيف أصبحت جامعة كولومبيا بؤرة للاحتجاجات في الجامعات العالمية؟الدولة من الريع الاستهلاكي الى الاستثمار الانتاجي