أين يهبط الاقتصاد العالمي في عام 2024؟

بروجيكت سنديكيت

2024-01-10 07:19

بقلم: نورييل روبيني

نيويورك ــ في مثل هذا الوقت قبل عام تقريبا، توقع نحو 85% من خبراء الاقتصاد ومحللي السوق ــ وأنا منهم ــ أن يعاني الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي من الركود. وقد أشار انخفاض التضخم، وإن كان لا يزال عنيدا، إلى أن السياسة النقدية ستصبح أكثر إحكاما قبل أن تتجه سريعا نحو التساهل بمجرد حلول الركود؛ وسوف تنهار أسواق الأسهم، وتظل عائدات السندات مرتفعة.

بدلا من ذلك، حدث العكس في الأغلب. فقد انخفض التضخم بدرجة أكبر من المتوقع، وجرى تَـجَـنُـب الركود، وارتفعت أسواق الأسهم، وانخفضت عائدات السندات بعد ارتفاع. لذا، يتعين علينا أن نتعامل مع أي توقعات لعام 2024 بتواضع. ومع ذلك، تظل المهمة الأساسية هي ذاتها: البدء بخط أساس، وسيناريو الجانب الإيجابي والجانب السلبي، ثم تعيين احتمالات متغيرة زمنيا لكل من السيناريوين.

يرى كثير من الاقتصاديين والمحللين، ولكن ليس كلهم، أن خط الأساس الحالي يشكل هبوطا ناعما: فالاقتصادات المتقدمة ــ بدءا بالولايات المتحدة ــ تتجنب الركود، لكن النمو أقل من إمكاناته ويستمر التضخم في الانخفاض نحو المستوى المستهدف 2% بحلول عام 2025، في حين قد تبدأ البنوك المركزية خفض أسعار الفائدة في الربع الأول أو الثاني من هذا العام. هذا السيناريو سيكون الأفضل لأسواق الأسهم والسندات، التي بدأت بالفعل في الارتفاع توقعا له.

السيناريو الإيجابي هو ذلك الذي لا يشهد "أي هبوط": إذ يظل النمو ــ على الأقل في الولايات المتحدة ــ أعلى من إمكاناته المحتملة، وينخفض التضخم إلى مستوى أقل من توقعات الأسواق وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وقد يحدث خفض أسعار الفائدة في وقت لاحق وبوتيرة أبطأ من توقعات بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية الأخرى والأسواق حاليا.

من عجيب المفارقات هنا أن سيناريو عدم الهبوط قد يكون سيئاً بالنسبة لأسواق الأسهم والسندات على الرغم من النمو الأقوى بدرجة مدهشة، لأنه يعني ضمنا أن أسعار الفائدة سوف تظل أعلى بعض الشيء لفترة أطول. أما السيناريو السلبي المتواضع فيتمثل في هبوط وعر يصاحبه ركود قصير ضحل يدفع التضخم إلى مزيد من الانخفاض، وبسرعة أكبر من توقعات البنوك المركزية. وسوف يأتي خفض أسعار الفائدة في وقت أقرب، وبدلا من التخفيضات الثلاثة بمقدار 25 نقطة أساس التي أشار إليها الاحتياطي الفيدرالي، فقد تأتي التخفيضات الستة التي تعمل الأسواق على تسعيرها حاليا.

بطبيعة الحال، قد نشهد أيضا ركودا أكثر حدة، والذي قد يُـفضي إلى أزمة ائتمان وأزمة ديون. ولكن في حين بدا هذا السيناريو محتملا إلى حد كبير في العام الماضي ــ نظرا لارتفاع أسعار السلع الأساسية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا وإفلاس بعض البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا ــ فإنه يبدو غير مرجح اليوم، نظرا لضعف الطلب الكلي. لن يصبح الأمر مصدر قلق إلا إذا حدثت صدمة ركود تضخمي كبرى جديدة، مثل ارتفاع أسعار الطاقة الناجم عن الصراع في غزة، وخاصة إذا تصاعد إلى حرب إقليمية أوسع تشمل حزب الله وإيران وتتسبب في تعطيل إنتاج النفط وصادراته من منطقة الخليج.

من المحتمل أن تكون صدمات جيوسياسية أخرى، مثل التوترات الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، أقل تسببا في الركود التضخمي (انخفاض النمو وارتفاع التضخم)، من كونها سببا للانكماش (انخفاض النمو وانخفاض التضخم)، ما لم تتعطل التجارة بشكل كبير، أو يضعف إنتاج الرقائق الإلكترونية والصادرات التايوانية. وقد تأتي صدمة كبرى أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني مع الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن هذا سيؤثر بشكل أكبر على آفاق عام 2025، ما لم تحدث حالة كبرى من عدم الاستقرار الداخلي قبل التصويت.

ولكن مرة أخرى، من شأن الاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة أن تساهم في الركود وليس الركود التضخمي. عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد العالمي، فإن سيناريو عدم الهبوط وسيناريو الهبوط الحاد يبدوان حاليا أشبه بمخاطر منخفضة الاحتمال، حتى ولو كانت احتمالات عدم الهبوط أعلى بالنسبة للولايات المتحدة مقارنة باقتصادات متقدمة أخرى. وحدوث هبوط ناعم أو وعر آنذاك يتوقف على البلد أو المنطقة.

على سبيل المثال، يبدو أن الولايات المتحدة وبعض الاقتصادات المتقدمة الأخرى قد تتمكن من إنجاز هبوط ناعم. فعلى الرغم من إحكام السياسة النقدية، كان النمو في عام 2023 أعلى من المتوقع، ولا يزال التضخم في انخفاض مع انحسار صدمات العرض الكلي السلبية من عصر الجائحة. على النقيض من ذلك، شهدت منطقة اليورو والمملكة المتحدة نموا أقل من المحتمل يقترب من الصفر أو سلبيا خلال الأرباع القليلة الأخيرة مع انخفاض التضخم وقد يفوتهما أداء أقوى في عام 2024 إذا ظلت العوامل المساهمة في ضعف النمو قائمة.

يتوقف تحديد ما إذا كانت أغلب الاقتصادات المتقدمة لتشهد هبوطا ناعما أو وعرا على عدة عوامل. بادئ ذي بدء، قد يخلف إحكام السياسة النقدية، الذي يعمل بفارق زمني، تأثيرا أعظم في عام 2024 مقارنة بما حدث في عام 2023. علاوة على ذلك، قد تتسبب إعادة تمويل الديون في تكبيل عدد كبير من الشركات والأسر بتكاليف خدمة ديون أعلى كثيرا هذا العام والذي يليه. وإذا أشعلت صدمة جيوسياسية ما شرارة نوبة أخرى من التضخم، فسوف تضطر البنوك المركزية إلى تأجيل تخفيضات أسعار الفائدة.

لن يتطلب الأمر قدرا كبيرا من تصعيد الصراع في الشرق الأوسط لدفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع وإرغام البنوك المركزية على إعادة النظر في توقعاتها الحالية. وقد تتسبب تهديدات ضخمة مرتبطة بالركود التضخمي في أفق الأمد المتوسط في دفع النمو إلى مزيد من الانخفاض والتضخم إلى مزيد من الارتفاع. ثم هناك الصين، التي تشهد بالفعل هبوطا وعرا. في غياب الإصلاحات البنيوية (التي لا يبدو أنها وشيكة)، سوف ينخفض نمو الصين المحتمل إلى أقل من 4% في السنوات الثلاث المقبلة، ثم يهبط إلى ما يقرب من 3% بحلول عام 2030. قد ترى السلطات الصينية أنه من غير المقبول أن يكون النمو الفعلي أقل من 4% هذا العام. لكن تحقيق معدل النمو بنسبة 5% ببساطة ليس في حكم الممكن من دون تحفيز كلي ضخم، وهذا ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع نسب الاستدانة المرتفعة بالفعل إلى مستويات خطيرة. وسوف تطرح الصين في الأرجح حافزا معتدلا كافيا لرفع النمو إلى مستوى أعلى قليلا من 4% في عام 2024.

من ناحية أخرى، سوف تستمر الضغوط البنيوية على النمو ــ الشيخوخة المجتمعية، واستفحال الديون وفائض العقارات، وتدخل الدولة في الاقتصاد، وغياب شبكة أمان اجتماعي قوية. في نهاية المطاف، قد تتجنب الصين الهبوط الحاد الشامل مع اندلاع أزمة ديون وأزمة مالية حادة؛ ولكن يبدو الأمر في الأرجح وكأن هبوطا وعرا يلوح في المستقبل، في ظل نمو مخيب للآمال.

يتمثل أفضل سيناريو لأسعار الأصول والأسهم والسندات في الهبوط الناعم، وإن كان هذا الاحتمال يجري الآن تقدير أثره جزئيا. الواقع أن سيناريو عدم الهبوط مفيد للاقتصاد الحقيقي لكنه ضار بأسواق الأسهم والسندات، لأنه سيمنع البنوك المركزية من متابعة تخفيضات أسعار الفائدة إلى النهاية. سوف يكون الهبوط الوعر ضارا بالأسهم ــ على الأقل إلى أن يبدو الركود القصير الضحل وكأنه بلغ أدنى مستوياته ــ ومفيدا لأسعار السندات، لأنه يعني ضمنا خفض أسعار الفائدة في وقت أقرب وبسرعة أكبر.

أخيرا، من الواضح أن سيناريو الركود التضخمي الأكثر حدة هو الأسوأ لكل من الأسهم وعائدات السندات. في الوقت الحاضر، يبدو أن أسوأ السيناريوهات هو الأقل احتمالا. لكن أي عدد من العوامل، وخاصة التطورات الجيوسياسية، قد يكون السبب في إفساد التوقعات في عامنا هذا.

* نورييل روبيني، أستاذ فخري للاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، وهو كبير الاقتصاديين في فريق أطلس كابيتال ومؤلف كتاب "التهديدات الضخمة: عشرة اتجاهات خطرة تهدد مستقبلنا، وكيفية النجاة منها"
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي