ارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول يضغط على المزيد من المقترضين
صندوق النقد الدولي
2023-10-12 06:37
توبياس أدريان
ارتفاع التضخم قد يضطر البنوك المركزية إلى الاستمرار في تطبيق أسعار فائدة أساسية مرتفعة، مما يفرض ضغوطا على قدرة المقترضين على سداد ديونهم.
أطلقت بنوك العالم المركزية العنان لسلسلة من زيادات أسعار الفائدة هي الأعلى منذ عقود في إطار سعيها لكبح التضخم خلال العامين الماضيين - وربما لم تنته مهمتها بعد. فقد رفع صناع السياسات أسعار الفائدة بحوالي 400 نقطة أساس في المتوسط في الاقتصادات المتقدمة منذ أواخر 2021، ونحو 650 نقطة أساس في اقتصادات الأسواق الصاعدة.
وتستوعب معظم الاقتصادات هذا التشديد النقدي العنيف، حيث أثبتت صلابتها على مدار السنة الماضية، ولكن معدلات التضخم الأساسي لا تزال مرتفعة في عدد منها، ولا سيما الولايات المتحدة وبعض أنحاء أوروبا. وبالتالي فقد يتعين على البنوك المركزية الرئيسية الاستمرار في تطبيق أسعار فائدة أعلى لفترة أطول.
وفي هذه البيئة، لا يزال ميزان المخاطر المحيطة بالاقتصاد العالمي يميل إلى جانب التطورات السلبية، وفقا لما نعرضه بالتفصيل في تقرير الاستقرار المالي العالمي. وبالرغم من أن تقييمنا لمكامن الخطر في أحدث عدد من التقرير مشابه لما أعلناه في شهر إبريل، فإن ما شهدناه من ضغوط حادة في بعض النظم المصرفية قد انحسر منذ ذلك الحين. ومع ذلك، نلحظ حاليا مؤشرات على وجود اضطرابات في مجالات أخرى.
وإحدى هذه الإشارات التحذيرية هي اضمحلال قدرة المقترضين من الأفراد والشركات على خدمة ديونهم، وهو ما يعرف كذلك بمخاطر الائتمان. وزيادة تكلفة الدين هي إحدى التبعات المقصودة لتشديد السياسة النقدية في سبيل احتواء التضخم. غير أن الخطر يتمثل في أن المراكز المالية للمقترضين ربما تكون هشة بالفعل، بحيث يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تفاقم مواطن الهشاشة وتصاعد حالات العجز عن السداد.
تآكل هوامش الأمان
شهد عالم الأعمال نهاية شركات عديدة أثناء الجائحة، بينما نجت غيرها بفضل هوامش الأمان النقدية القوية التي تُعزى جزئيا إلى الدعم الذي أتاحته المالية العامة في كثير من البلدان. كذلك استطاعت الشركات الحفاظ على هوامش أرباحها بالرغم من ارتفاع معدلات التضخم. غير أنه في عالم اليوم الذي يشهد ارتفاعا لفترة أطول في أسعار الفائدة، أوشكت شركات كثيرة على استنفاد هوامش الأمان النقدية في ظل تراجع الأرباح وارتفاع تكاليف خدمة الدين.
ويشير "تقرير الاستقرار المالي العالمي" بالفعل إلى تزايد نسبة الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة على السواء، التي لا يكاد يتوفر لديها النقد الكافي لسداد مصروفات الفائدة. وتتزايد حالات العجز عن السداد في أسواق القروض التمويلية التي تقترض منها الشركات ذات المراكز المالية الضعيفة. ومن المرجح أن تتفاقم هذه المشكلات على مدار العام القادم حيث يحل أجل استحقاق أكثر من 5,5 تريليون دولار من ديون الشركات.
كذلك أوشكت الاحتياطيات الوقائية للأسر على النفاد. فقد سجل فائض المدخرات في الاقتصادات المتقدمة تراجعا مطردا من مستويات الذروة المسجلة في أوائل العام الماضي والتي تراوحت بين 4% و8% من إجمالي الناتج المحلي. وهناك بوادر أيضا على تزايد حالات التعثر في سداد مدفوعات بطاقات الائتمان وقروض السيارات.
ويتعرض القطاع العقاري بدوره لعوامل معاكسة. فقروض العقارات السكنية، التي عادة ما تمثل الشريحة الأكبر من قروض الأسر، محمّلة في الوقت الراهن بأسعار فائدة أعلى بكثير مما كانت منذ عام واحد فقط، مما يؤدي إلى تآكل المدخرات، كما تنشأ عنه آثار سلبية على أسواق الإسكان. وبوجه عام، شهدت البلدان التي تطبق أسعار فائدة معوَّمة على الجزء الأكبر من قروضها العقارية تراجعا كبيرا في أسعار المساكن نظرا لأن ارتفاع أسعار الفائدة سرعان ما يؤدي إلى صعوبات في أداء مدفوعات القروض العقارية. وتواجه أسواق العقارات التجارية ضغوطا مماثلة، حيث أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى نضوب موارد التمويل، وتباطؤ المعاملات، وتزايد حالات العجز عن السداد.
ويفرض ارتفاع أسعار الفائدة تحديات أمام الحكومات أيضا. فالبلدان الواعدة ومنخفضة الدخل تواجه مشقة أكبر في الاقتراض بالعملة الصعبة كاليورو والين والدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني بسبب العائد الأعلى الذي يطلبه المستثمرون الأجانب. وخلال العام الجاري، صدرت سندات العملة الصعبة بقسائم - أو أسعار فائدة – أعلى بالفعل. غير أن المخاوف بشأن الدين السيادي ليست حاضرة في البلدان منخفضة الدخل فحسب، كما اتضح من الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الأطول أجلا في الاقتصادات المتقدمة.
وفي المقابل، لا يواجه عدد كبير من الاقتصادات الصاعدة الكبرى هذا المأزق بفضل قوة أساسياتها الاقتصادية وسلامتها المالية، وذلك بالرغم من تباطؤ تدفقات استثمارات الحافظة الأجنبية إلى تلك البلدان أيضا. ففي الشهور الأخيرة، شهدت الصين خروج تدفقات ضخمة من الاستثمارات الأجنبية نتيجة الاضطرابات المتزايدة في القطاع العقاري التي أدت إلى تراجع ثقة المستثمرين.
آثار التداعيات
يبدو أن معظم المستثمرين لم يكترثوا بالأدلة المتزايدة على الصعوبات التي يواجهها المقترضون في السداد. فإلى جانب سلامة أوضاع أسواق الأسهم والسندات عموما، تحسنت الأوضاع المالية في ظل توقعات المستثمرين على ما يبدو بحدوث هبوط عالمي هادئ، أي احتواء التضخم بفضل ارتفاع أسعار فائدة البنوك المركزية دون التسبب في الركود.
ولكن هذا التفاؤل يخلق مشكلتين: فالتيسير النسبي في الأوضاع المالية قد يؤدي إلى استمرار إذكاء التضخم، كما يمكن أن تزداد حدة تشديد أسعار الفائدة حال وقوع صدمات معاكسة - مثل تصعيد الحرب في أوكرانيا أو تفاقم الضغوط في سوق العقارات في الصين.
ومن شأن التشديد الحاد للأوضاع المالية أن يفرض ضغوطا على البنوك الضعيفة التي تعاني بالفعل من مخاطر ائتمانية مرتفعة. وتشير مسوح من عدة بلدان بالفعل إلى تباطؤ الإقراض المصرفي، وهو ما تُعزيه هذه المسوح أساسا إلى تزايد مخاطر المقترضين. ووفقا لأحد فصول "تقرير الاستقرار المالي العالمي" الذي يصدر قريبا، ستخسر العديد من البنوك نسبة ضخمة من رؤوس الأموال المساهمة في إطار سيناريو يتوقع استمرار ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة وركود الاقتصاد العالمي. وسيبدأ المستثمرون والمودعون في مراقبة أوضاع البنوك عن كثب حال تراجع رأسمالها في أسواق الأسهم دون قيمته في الميزانية العمومية، مما يخلق مشكلات تمويلية بالنسبة للبنوك الضعيفة. وخارج الجهاز المصرفي، تتضح أوجه الهشاشة في مؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية أيضا، مثل صناديق التحوط وصناديق التقاعد، التي تطرح قروضها في الأسواق الخاصة.
ومن دواعي الاطمئنان أن صناع السياسات بإمكانهم الحيلولة دون أي تطورات سلبية. وينبغي أن تظل البنوك المركزية عازمة على إعادة التضخم إلى المستوى المستهدف - فاستدامة النمو الاقتصادي والاستقرار المالي مرهونة باستقرار الأسعار. ومتى أصبح الاستقرار المالي مهددا، ينبغي أن يسارع صناع السياسات إلى استخدام أدوات دعم السيولة وغيرها للتخفيف من الضغوط الحادة واستعادة ثقة الأسواق. وختاما، نظرا لأهمية سلامة البنوك بالنسبة للاقتصاد العالمي، يتعين مواصلة العمل على تعزيز آليات التنظيم والرقابة في القطاع المالي.