زمن الغضب.. ضد الحداثة الغربية وأوهام الليبرالية

شبكة النبأ

2025-12-31 04:12

يقدم المفكر الهندي بانكاج ميشرا في كتابه "زمن الغضب" تحليلاً عميقاً لحالة الغليان والعنف التي يشهدها العالم المعاصر، بدءاً من صعود اليمين الشعبوي في الغرب وصولاً إلى الحركات المتطرفة في الشرق مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). يرفض المؤلف التفسيرات الشائعة التي تعزو هذا العنف إلى "صدام الحضارات" أو إلى تأخر ثقافي وديني، ويطرح بدلاً من ذلك أطروحة جريئة مفادها أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة حتمية لانتشار "الحداثة الغربية" نفسها وعودها التي لم تتحقق.

حيث يعود ميشرا إلى عصر التنوير الأوروبي ليحدد جذور الأزمة الحالية، مستحضراً الصراع الفكري بين فولتير وروسو. يرى ميشرا في فولتير رمزاً لنخبة "الأيوسيا" (النخبة المالية والتجارية) التي بشرت بعالم تحكمه العقلانية والتجارة والمصلحة الذاتية. في المقابل، يمثل جان جاك روسو صوت "الغريب" والمهمش الذي تنبأ بأن المجتمع القائم على المنافسة والمحاكاة سيولد مشاعر الحسد والاستياء. يجادل الكتاب بأن عالمنا اليوم قد تبنى نموذج فولتير الاقتصادي، لكنه يعيش الحالة النفسية والشعورية الغاضبة التي وصفها روسو.

ويرى المؤلف أن العولمة نشرت وعود الحرية والمساواة والرفاهية في كل زاوية من زوايا الأرض، لكنها لم توفر الوسائل لتحقيق هذه الوعود للأغلبية العظمى من البشر. هذا التفاوت بين الطموحات والواقع خلق حالة عالمية من "الاستياء". البشر في كل مكان، من مدن الصفيح في الهند إلى ضواحي باريس، يرغبون في الأشياء نفسها (نزعة استهلاكية، مكانة اجتماعية)، لكنهم يصطدمون بحواجز اقتصادية وسياسية، مما يحول رغبتهم في التشبه بالآخرين (المحاكاة) إلى كراهية لهم.

ويشير ميشرا إلى أن الفوضى الحالية في الشرق الأوسط وآسيا ليست نتاجاً لثقافة "قروسطية"، بل هي تكرار للمخاض العنيف الذي عاشته أوروبا نفسها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. يشبّه المؤلف شباب "داعش" بالفوضويين (الأناركيين) والقوميين المتعصبين الذين ظهروا في أوروبا سابقاً، معتبراً أنهم جميعاً نتاج أزمة الحداثة والبحث عن هوية ومعنى في عالم مادي.

وينتقد الكتاب بشدة "أوهام المنتصرين" التي سادت بعد الحرب الباردة، والتي روجت لفكرة أن الديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة هما الحل النهائي لمشاكل البشرية (نهاية التاريخ). يرى ميشرا أن هذه السردية تجاهلت الجانب المظلم للحداثة: التفكك الاجتماعي، واقتلاع الجذور، والفراغ الروحي الذي يدفع الناس نحو التطرف والبحث عن "أب روحي" أو قائد مستبد يعيد لهم الشعور بالأمان.

ويخلص الكتاب إلى أننا نعيش في "زمن الغضب" حيث أصبح العنف وسيلة لإثبات الوجود وتفريغ شحنات الحسد والمهانة. إن الحركات المتطرفة، سواء كانت إسلامية، أو قومية هندوسية، أو يمنية غربية، هي في جوهرها حركات حداثية تستخدم لغة الهوية والدين للتعبير عن أزمات سياسية واقتصادية حديثة تماماً.

يقدم بانكاج ميشرا في هذا الكتاب قراءة عميقة وجذرية للتحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، محاولاً تفسير موجات العنف، التطرف، والقومية الشعبوية التي تجتاح الشرق والغرب على حد سواء. يرفض المؤلف السرديات السطحية التي تعزو الإرهاب والعنف إلى "صدام الحضارات" أو إلى طبيعة الإسلام، وبدلاً من ذلك، يغوص في التاريخ الأوروبي والفكري ليكشف أن ما نعيشه اليوم هو امتداد لأزمات الحداثة الغربية نفسها، وأن "زمن الغضب" الحالي هو نتيجة حتمية لوعود الحداثة والليبرالية التي لم تتحقق للأغلبية، مما ولد شعوراً عالمياً بـ "الاستياء".

المدخل: وقائع منسية

يفتتح بانكاج ميشرا كتابه بمدخل درامي وكاشف بعنوان "وقائع منسية"، يختار فيه لحظة تاريخية مهملة نسبياً ولكنها محورية لفهم عالمنا المعاصر. لا يبدأ ميشرا أحداث كتابه من هجمات 11 سبتمبر أو سقوط جدار برلين، بل يعود بنا إلى سبتمبر 1919، وإلى مدينة "فيومي" (Fiume) المطلة على البحر الأدرياتيكي (التي تقع في كرواتيا حالياً).

غابرييل دانونزيو: النموذج الأولي للديماغوجي

الشخصية المركزية في هذا المدخل هي الشاعر الإيطالي المغامر، وأحد أبطال الحرب، غابرييل دانونزيو. يصف ميشرا كيف قاد دانونزيو قوة متمردة قوامها ألفان من الجنود الإيطاليين الساخطين للاستيلاء على مدينة فيومي، متحدياً بذلك إرادة القوى العظمى (بريطانيا، فرنسا، وأمريكا) التي كانت تحاول إعادة رسم خريطة أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى.

بالنسبة لميشرا، لم يكن دانونزيو مجرد مغامر عسكري، بل كان "النبي" الأول للسياسة الجماهيرية الحديثة. لقد أسس في فيومي "دولة للفن والحياة"، وحكمها لمدة 15 شهراً عبر مزيج غريب من الطقوس السياسية التي ستصبح لاحقاً علامة مسجلة للفاشية والنازية، وحتى للحركات الجهادية المعاصرة. يعدد ميشرا ابتكارات دانونزيو: القمصان السوداء، التحية الرومانية (الذراع الممدودة)، الأغاني الحماسية، تمجيد الموت والتضحية، والخطب النارية من شرفات القصور لإلهام الجماهير.

يرى المؤلف أن دانونزيو نجح في تحويل السياسة إلى "مسرح"، حيث الحلول العقلانية للمشاكل الاقتصادية لا تهم بقدر ما يهم الشعور بالنشوة الجماعية، البطولة، واستعادة الكرامة الوطنية المهدورة. لقد فهم دانونزيو مبكراً أن الجماهير في عصر الحداثة لا تبحث فقط عن الخبز والأمان، بل عن "المعنى" وعن التسامي فوق رتابة الحياة اليومية المملة للديمقراطية الليبرالية.

جاذبية العنف والشباب الغاضب

يربط ميشرا ببراعة بين أتباع دانونزيو في عام 1919 وبين الشباب الغاضب في القرن الحادي والعشرين، سواء كانوا من المنضمين لتنظيم الدولة (داعش) أو من اليمين المتطرف في الغرب. أتباع دانونزيو كانوا يسمون "الأرديتي" (Arditi)، وهم جنود صدمة سابقون، وشباب محبطون شعروا بأن السلم الذي تلا الحرب قد سرق منهم رجولتهم ومجدهم. كانوا يكرهون البرجوازية "الجبانة" والنظام العالمي الذي يقوده "تجار" (مثل السياسيين الليبراليين).

يستنتج ميشرا أن هؤلاء الشباب كانوا يبحثون عن "تطهير" العالم عبر العنف. هذه الرغبة في التدمير، وفي الوقت نفسه الرغبة في بناء "يوتوبيا" جديدة (مدينة المحرقة كما سماها دانونزيو)، هي نفسها التي تحرك "الذئاب المنفردة" والمتطرفين اليوم. يجادل ميشرا بأن الدافع ليس الفقر المادي فحسب، بل الفقر الروحي والشعور بالملل الوجودي الذي تخلقه المجتمعات الرأسمالية الحديثة، مما يدفع الشباب للبحث عن "قضية" تمنحهم شعوراً بالأهمية، ولو عبر القتل والموت.

سقوط أوهام "نهاية التاريخ"

ينتقل المدخل بعد ذلك لتفكيك السردية الغربية التي سادت بعد عام 1989 (سقوط جدار برلين). يذكرنا ميشرا بأن العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، عاش حالة من السكر الأيديولوجي، معتقداً أن "التاريخ قد انتهى" (كما قال فرانسيس فوكوياما)، وأن النموذج الديمقراطي الليبرالي والرأسمالية الحرة قد انتصرا نهائياً، وأن بقية العالم سيلتحق بهذا الركب تدريجياً ليصبح الجميع "مستهلكين عقلاء وسعداء".

يصف ميشرا هذه الفترة بـ "عصر التفاؤل الإمبراطوري"، حيث بشرت العولمة بعالم مسطح بلا حدود. ولكن، كما يكشف في المدخل، كان هذا الوهم يخفي تحته بركاناً يغلي. فبينما كانت النخب تحتفل في دافوس، كانت الغالبية العظمى من البشر تعيش تجربة مختلفة تماماً: تجربة الاقتلاع من الجذور، فقدان الهوية، والتفاوت الاقتصادي الهائل.

يؤكد ميشرا أن عام 1919 (زمن دانونزيو) يشبه عصرنا أكثر مما يشبه عام 1989. فكما فشل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في 1919 في فرض نظامه الليبرالي العالمي وتسبب في ردود فعل قومية عنيفة، فشلت النخب المعاصرة في فهم أن تصدير الحداثة والرأسمالية يخلق "رابحين" قلة وخاسرين كثر. وهؤلاء الخاسرون، المسلحون الآن بالهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، لن يقبلوا بمصيرهم بصمت.

"الاستياء" كمحرك للتاريخ

يقدم ميشرا في المدخل المفهوم الفلسفي المركزي للكتاب: "الاستياء" (Ressentiment). مستعيناً بأفكار فريدريك نيتشه وماكس شيلر، يشرح ميشرا أن العالم الحديث، بوعوده البراقة بالمساواة والحرية للجميع، قد حكم على نفسه بأن يكون مصنعاً هائلاً للاستياء.

لماذا؟ لأن الحداثة تقول لكل فرد: "أنت حر، ويمكنك أن تكون أي شيء، ويمكنك أن تملك ما يملكه الأغنياء". ولكن الواقع الهيكلي للاقتصاد والسياسة يمنع معظم الناس من تحقيق ذلك. هذه الفجوة بين "ما يُقال لنا أننا نستحقه" وبين "ما نحصل عليه فعلاً" تخلق حقداً دفيناً. هذا الحقد لا يتوجه فقط نحو الأنظمة الحاكمة، بل يتحول إلى كراهية للذات وللآخرين، ويتجلى في رغبة عدمية في تخريب كل شيء.

يرى ميشرا أن دانونزيو كان أول من استثمر هذا "الاستياء" سياسياً، محولاً مشاعر النقص والدونية لدى الإيطاليين (الذين شعروا أنهم أمة "بروليتارية" مظلومة مقارنة ببريطانيا وفرنسا الثريتين) إلى طاقة قومية متفجرة. واليوم، نرى نفس الديناميكية: القوميون الهندوس في الهند، وأنصار ترامب في أمريكا، والجهاديون في الشرق الأوسط، كلهم مدفوعون بهذا "الاستياء" تجاه نخب عالمية يُنظر إليها على أنها متعجرفة وبعيدة عن الواقع.

الحداثة ليست حلاً، بل هي المشكلة

في ختام المدخل، يوجه ميشرا ضربة قاسية للفكرة القائلة بأن الحل لمشاكل العالم يكمن في "مزيد من الحداثة". يجادل بأن ما نراه من عنف ليس ردة فعل "قروسطية" أو عودة للوراء، بل هو منتج أصيل للحداثة نفسها.

الإرهابي الذي يفجر نفسه في باريس أو بغداد ليس شخصاً قادماً من الماضي، بل هو شخص حديث جداً، تشكل وعيه عبر الإنترنت، وألعاب الفيديو، والمقارنة المستمرة بحياة الآخرين. إنه نتاج مجتمع فكك الروابط التقليدية (العائلة، القبيلة، الدين التقليدي) ولم يقدم بديلاً سوى السوق والمنافسة الشرسة.

يستحضر ميشرا مقولة الفيلسوفة حنة أرندت عن "التحالف بين الرعاع والنخبة"، ليشير إلى خطورة اللحظة الراهنة حيث يستغل القادة الشعبويون (النخبة السياسية الانتهازية) غضب الجماهير (الرعاع المحبطين) لتدمير المؤسسات الديمقراطية.

ويضع ميشرا في "وقائع منسية" الأساس لأطروحته الكبرى: نحن نعيش في عالم واحد متصل، ليس فقط بالتجارة والإنترنت، بل بمشاعر الغضب والحسد. إن تجربة دانونزيو في فيومي لم تكن مجرد نزوة إيطالية عابرة، بل كانت "بروفة" للقرن العشرين والحادي والعشرين. من خلال استعادة هذه الواقعة المنسية، يحذرنا ميشرا من أن تجاهل الجذور العاطفية والنفسية للسياسة، والاكتفاء بالتحليلات الاقتصادية الجافة، سيجعلنا عاجزين عن فهم طوفان الغضب الذي يغرق العالم اليوم. إن "تاريخ الحاضر" هو تاريخ الشعور بالمهانة والرغبة في الانتقام، وهو تاريخ بدأ يكتب فصوله الأولى بوضوح في تلك المدينة الساحلية الصغيرة عام 1919.

الفصل الثاني: تطهير المجال (منتصرو التاريخ وأوهامهم)

يبدأ بانكاج ميشرا هذا الفصل بتحدي السردية التي سادت بعد الحرب الباردة (خاصة في التسعينيات)، والتي روجت لها مؤسسات مثل مجلة "الإيكونومست" ومفكرون مثل "فرانسيس فوكوياما". ملخص هذه السردية هو أن "الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة" هما الوجهة النهائية والوحيدة للبشرية، وأن العالم كله سيتطور تدريجياً ليصبح مثل الغرب (عقلانياً، علمانياً، ومزدهراً).

يسمي ميشرا هؤلاء بـ "المتعصبين الضعاف" (مستعيراً تعبير رينهولد نيبور)، الذين اعتقدوا أن المؤسسات الغربية قابلة للتصدير عالمياً بسهولة، متجاهلين أن تاريخ الغرب نفسه كان مليئاً بالعنف والحروب الأهلية للوصول إلى هذه المرحلة.

ويجادل المؤلف بأن الغرب "طهّر" تاريخه الخاص. لقد نسيت النخب الغربية أن الانتقال إلى الحداثة في أوروبا لم يكن سلمياً، بل تم عبر:

* حروب دموية: من الحروب الدينية إلى الثورة الفرنسية والحروب النابليونية.

* اقتلاع اجتماعي: تدمير المجتمعات الريفية والتقليدية لإنشاء مجتمع صناعي.

* الاستعمار: نهب موارد العالم لتمويل هذا "التقدم".

عندما يحاول الغرب فرض هذا النموذج على دول الشرق الأوسط أو آسيا (كما حدث في غزو العراق أو أفغانستان)، فإنه يتوقع تحولاً ديمقراطياً سلسًا، لكنه في الواقع يعيد إنتاج الفوضى والعنف الذي عاشته أوروبا سابقاً.

ويستحضر ميشرا شخصية تيموثي ماكفي (مرتكب تفجير أوكلاهوما 1995) كنموذج مبكر للغضب الحديث. ماكفي لم يكن إسلامياً، بل كان أمريكياً أبيض، من "الداخل"، لكنه شعر بنفس الاغتراب والكره للنظام الفيدرالي الذي يشعر به المتطرفون في العالم الإسلامي. يرى المؤلف أن العنف المعاصر (سواء من داعش أو اليمين المتطرف) ليس نتاجاً لثقافة "متخلفة"، بل هو نتاج للحداثة نفسها:

* إنه عنف الأفراد الذين يشعرون بأنهم "زائدون عن الحاجة" في مجتمع السوق العالمي.

* إنه رد فعل على وعود الحرية والمساواة التي لا تتحقق في الواقع.

وهم "قصر الكريستال"

يستخدم ميشرا استعارة "قصر الكريستال" - وهو المعرض الضخم الذي أقيم في لندن عام 1851 لعرض إنجازات الصناعة والتجارة.

* بالنسبة لليبراليين (والنخب العالمية اليوم)، يمثل القصر قمة الحضارة، والرفاهية، ونهاية التاريخ.

* بالنسبة للمنتقدين (مثل الكاتب الروسي دوستويفسكي الذي زار القصر وكرهه)، يمثل القصر كابوساً مادياً يسحق الروح الإنسانية، ويخلق مجتمعاً قائماً على الأنانية والمنافسة الشرسة.

يرى ميشرا أن العالم اليوم تحول إلى "قصر كريستال" عالمي، حيث الجميع يرغبون في الدخول إليه (الاستهلاك، الثروة)، لكن الأغلبية تُطرد منه أو تبقى على هامشه، مما يولد حقداً هائلاً (الإنسان الصرصار عند دوستويفسكي).

فولتير والأدباء: جذور النخبة المعولمة

يعود الفصل إلى القرن الثامن عشر لتتبع جذور النخبة الحالية. يركز على شخصية فولتير كنموذج للمثقف "التنويري" الذي:

* يتحالف مع السلطة (الملوك المستبدين) من أجل فرض التحديث.

* يحتقر "العامة" والمتدينين ويعتبرهم عائقاً أمام التقدم.

* يروج للتجارة العالمية والربح كبديل للقيم التقليدية.

يرى ميشرا أن "أهل دافوس" اليوم هم ورثة فولتير: نخبة معولمة، علمانية، غنية، ومنفصلة تماماً عن واقع الشعوب التي تعيش "خارج الأسوار".

المحاكاة التملكية

يختتم الفصل بمناقشة كيف أن العالم غير الغربي (آسيا، أفريقيا، روسيا) وقع في فخ "المحاكاة". حاولت هذه الأمم تقليد الغرب (بناء دول قومية، جيوش، اقتصاد صناعي) لتصبح قوية مثله.

* قادة مثل أتاتورك، ماو تسي تونغ، وشاه إيران حاولوا فرض التحديث بالقوة ("تطهير المجال" من التقاليد).

* هذا الفرض القسري أدى إلى اقتلاع الشعوب من جذورها دون أن يمنحها الكرامة أو المساواة الموعودة، مما خلق فراغاً ملأته حركات الأصولية الدينية والقومية المتطرفة التي نراها اليوم.

فصل "تطهير المجال" هو إدانة لمحاولة الغرب (والنخب التابعة له) فرض نموذج واحد للحياة على البشرية، وتجاهلهم للدمار النفسي والاجتماعي الذي يسببه هذا الفرض. إنه يشرح لماذا تحولت وعود العولمة في التسعينيات إلى كوابيس من العنف والفوضى في القرن الحادي والعشرين.

الفصل الثالث: استنارة الاستياء

يستهل بانكاج ميشرا هذا الفصل الجوهري بطرح فرضية جريئة: لفهم جذور العنف، والتطرف، والقلق الذي يعصف بعالمنا اليوم، لا ينبغي لنا النظر إلى "صراع الحضارات" بين الإسلام والغرب، بل يجب النظر إلى "الحرب الأهلية" داخل التنوير الأوروبي ذاته. مسرح هذه الحرب كان الصالونات الباريسية في القرن الثامن عشر، وأبطالها هما قطبان متناقضان جسدا مسارين مختلفين للحداثة: فولتير وجان جاك روسو.

يقدم ميشرا شخصية فولتير ليس فقط كفيلسوف، بل كنموذج أولي لـ "النخبة المعولمة" التي تحكم العالم اليوم. كان فولتير عاشقاً للترف، صديقاً للملوك (مثل فريدريك الأكبر)، ومستثمراً بارعاً في الأسواق المالية وتجارة الساعات.

آمن فولتير بأن "التجارة" هي الحل السحري لمشاكل البشرية. بالنسبة له، التبادل التجاري يروض الأخلاق المتوحشة، ويخلق مجالاً يلتقي فيه المسيحي واليهودي والمسلم بسلام لتبادل البضائع. كان يرى أن التقدم الحضاري يقاس بالازدهار المادي، وحرية التملك، والابتعاد عن الخرافات الدينية.

لكن ميشرا يكشف الوجه الآخر لفولتير: احتقاره للعامة ("الرعاع")، ودعمه للمستبدين المستنيرين ما داموا يضمنون حرية السوق والفكر للنخبة. يرى المؤلف في فولتير الجد الشرعي لـ "أهل دافوس" المعاصرين: الأثرياء الذين يبشرون بالعولمة والانفتاح، ويعيشون في فقاعة مترفة منفصلة تماماً عن واقع الشعوب المطحونة.

روسو: صوت المنبوذين والغاضبين

على النقيض تماماً، يبرز جان جاك روسو. دخيل، فقير، معتل الصحة، وسريع التأثر، جاء من جنيف إلى باريس ليشعر بغربة قاتلة وسط الأضواء والزيف. يرى ميشرا أن روسو كان أول من استشعر "الجانب المظلم" للحداثة الليبرالية قبل أن تتشكل بالكامل.

بينما كان فولتير يحتفي ببريق المجتمع التجاري، كان روسو يرى فيه جحيماً نفسياً. لاحظ روسو أن المجتمع الحديث يجبر الإنسان على العيش "خارج ذاته"، أي أنه يعيش فقط من خلال نظرة الآخرين إليه. في المجتمعات التقليدية، كان الإنسان يعرف مكانه، أما في المجتمع الحديث القائم على المنافسة والحراك الاجتماعي، أصبح الجميع في سباق محموم لا ينتهي من أجل "الظهور" و"المكانة".

سيكولوجية "الاستياء"

هنا يصل ميشرا إلى جوهر الفصل: مفهوم "الاستياء". يشرح كيف حلل روسو تحول "حب الذات" (Amour de soi - وهو غريزة البقاء الطبيعية) إلى "الغرور" أو الكبرياء (Amour-propre).

في العالم الحديث، لا يكفي أن تكون سعيداً، بل يجب أن تكون "أسعد من غيرك" أو "أغنى من جارك". هذه المقارنة الدائمة، التي تغذيها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات، تخلق ألماً نفسياً عميقاً. عندما يعجز الفرد عن تحقيق الصورة المثالية التي يفرضها المجتمع (الثراء، الشهرة، الجمال)، لا يشعر فقط بالحزن، بل يشعر بالمهانة والحسد، وكراهية الذات، والرغبة في تدمير "الآخر" الناجح الذي يذكره بفشله.

هذا المزيج السام من الحسد والعجز هو ما أسماه نيتشه لاحقاً "Ressentiment"، لكن ميشرا يؤكد أن روسو هو مكتشفه الحقيقي. ويجادل الكتاب بأن العالم اليوم غارق في هذا الاستياء؛ فملايين الشباب المتعلمين والعاطلين عن العمل يشعرون بأنهم يستحقون حياة أفضل (كما وعدتهم الحداثة)، لكنهم يصطدمون بواقع مسدود، مما يحولهم إلى قنابل موقوتة.

نقد "النفاق الحضاري"

يهاجم روسو بشراسة المثقفين "المتنوّرين" (أمثال فولتير وديدرو) الذين يتشدقون بحب الإنسانية جمعاء بينما يحتقرون جيرانهم ومواطنيهم البسطاء.

يقتبس ميشرا عبارة روسو اللاذعة عن الفلاسفة الذين "يحبون التتار لكي يعفوا أنفسهم من محبة جيرانهم". يرى المؤلف في هذا النقد صدىً هائلاً في عصرنا: إنه نفس الغضب الذي يشعر به سكان الأرياف والمدن الصغيرة في أمريكا وأوروبا تجاه النخب الليبرالية في نيويورك أو لندن، الذين يهتمون بقضايا اللاجئين أو البيئة العالمية (قضايا مجردة) بينما يتجاهلون معاناة الطبقة العاملة المحلية. هذا الشعور بأن النخبة "غريبة" ولا تنتمي للأمة هو الوقود الذي يحرك الحركات الشعبوية اليمينية اليوم.

العقد الاجتماعي والحلول المستحيلة

يناقش الفصل محاولة روسو إيجاد مخرج من هذا الجحيم عبر كتابه "العقد الاجتماعي". اقترح روسو مجتمعاً يستعيد فيه الإنسان حريته عبر الذوبان في "الإرادة العامة" للأمة. كان يحلم بمجتمع صغير، متقشف، ووطني (يشبه إسبرطة) حيث يختفي التفاوت الطبقي الفادح وتعود "الفضيلة" لتحل محل "التجارة".

يشير ميشرا إلى أن أفكار روسو، رغم نبل نواياها، كانت "سيفاً ذو حدين". فقد ألهمت الثورة الفرنسية (حيث كان روبسبير تلميذاً مخلصاً لروسو)، لكنها أسست أيضاً لفكرة القومية المتطرفة والدولة الشمولية التي تفرض الفضيلة بالقوة وتقطع رؤوس "أعداء الشعب".

التناقض الليبرالي: حرية بلا مساواة

يفكك ميشرا في هذا الفصل الوعد الكاذب لليبرالية كما رآه روسو. وعد التنوير الناس بأنهم أحرار ومتساوون. لكن النظام الاقتصادي الرأسمالي (الذي دافع عنه فولتير وآدم سميث) يؤدي حتماً إلى تفاوت هائل في الثروة.

* النتيجة: الحرية تصبح حكراً للأغنياء، بينما تصبح المساواة مجرد حبر على ورق.

* هذا التناقض يولد غضباً مزمناً: الناس قيل لهم "أنتم متساوون"، لكنهم يرون كل يوم أنهم ليسوا كذلك. هذا الفارق بين "المأمول" و"الواقع" هو المصنع الذي ينتج الثورات والاضطرابات.

روسو والجهادي الحديث

في واحدة من أجرأ مقارباته، يربط ميشرا بين "روح روسو" وبين الجهادي أو المتطرف المعاصر. كلاهما يشترك في:

* رفض الحاضر: كلاهما يرى العالم الحالي فاسداً، منافقاً، ومليئاً بالظلم.

* البحث عن الأصالة: كلاهما يبحث عن "هوية صافية" ونقية، وعن مجتمع فاضل (يوتوبيا) خالٍ من دنس المادية الغربية.

* الاغتراب: كلاهما يشعر بأنه "غريب" ومستبعد من حفلة الاستهلاك العالمية.

الشاب الذي يترك أوروبا ليلتحق بداعش، أو الهندوسي الذي يقتل مسلماً، هو في العمق يعبر عن "رفض روسوي" للنظام العالمي الفولتيري. إنه يصرخ بحثاً عن معنى وكرامة لا يوفرها له السوق الحر.

يختتم ميشرا الفصل باستنتاج متشائم ومثير: لقد انتصر فولتير في تشكيل هياكل عالمنا (الاقتصاد، المؤسسات، التكنولوجيا)، لكن روسو هو الذي انتصر في تشكيل "أرواحنا".

نحن نعيش في "عالم فولتير" (عولمة، تجارة)، لكننا نشعر بمشاعر "عالم روسو" (غضب، حسد، بحث عن هوية). هذا الانفصام هو سر "زمن الغضب". ما لم يتم معالجة الجذور النفسية والروحية لهذا الاستياء - وهي الحاجة إلى الكرامة، والمجتمع، والمساواة الحقيقية - فإن العالم سيظل يحترق بنيران الغضب التي أوقد شرارتها الأولى جان جاك روسو قبل قرنين ونصف.

الفصل الرابع: سياسة الهيجان

في هذا الفصل المحوري، ينتقل ميشرا من التنظير الفلسفي (صراع فولتير وروسو) إلى التطبيق العملي الدموي، راصداً اللحظة التي قرر فيها الساخطون والمهمشون أن الكلمات لم تعد تكفي، وأن العنف هو اللغة الوحيدة التي يسمعها العالم الحديث. يركز الفصل على صعود التيارات "الفوضوية" (Anarchism) و"العدمية" (Nihilism)، وكيف أسست لنمط جديد من الثوار الذين يشبهون إلى حد التطابق "الذئاب المنفردة" في عصرنا الحالي.

ميخائيل باكونين: نبي الهدم الخلاق

الشخصية المركزية التي يستحضرها ميشرا في هذا الفصل هي الثوري الروسي ميخائيل باكونين. يمثل باكونين نقيض كارل ماركس؛ فبينما كان ماركس يؤمن بالتنظيم العلمي، والصبر التاريخي، ودور الطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا) في الثورة، كان باكونين يؤمن بالعفوية، والغريزة، ودور الفلاحين وقطاع الطرق والمهمشين (حثالة البروليتاريا).

شعار باكونين الخالد: "رغبة التدمير هي في الوقت نفسه رغبة مبدعة"، أصبح المبدأ التوجيهي لكل الحركات الراديكالية اللاحقة. يرى باكونين أن النظام القديم (الدولة، الكنيسة، العائلة، الأخلاق البرجوازية) فاسد جداً لدرجة أنه لا يمكن إصلاحه، بل يجب هدمه تماماً لكي تنبثق الحياة الجديدة من تحت الأنقاض. يشرح ميشرا كيف أن هذا الفكر يتردد صداه اليوم لدى تنظيمات مثل داعش، التي تسعى لمحو الحدود والدول القائمة لبناء يوتوبيا الخلافة، أو لدى الفوضويين الذين يحطمون واجهات البنوك في مظاهرات مناهضة العولمة.

"الإنسان الزائد" والعدمية الروسية

يخصص الفصل مساحة واسعة لتحليل الظروف الاجتماعية في روسيا القرن التاسع عشر، والتي أنتجت ما يسمى في الأدب الروسي بـ "الإنسان الزائد" (Superfluous Man). هؤلاء هم شباب متعلمون، غالباً من أصول نبيلة أو برجوازية صغيرة، وجدوا أنفسهم في مجتمع متخلف ومستبد لا مكان فيه لطموحاتهم أو أفكارهم.

شعر هؤلاء الشباب بالاغتراب الشديد عن الدولة القيصرية وعن عامة الشعب (الفلاحين الأميين). هذا الانفصال ولد شعوراً باليأس والملل الوجودي، تحول تدريجياً إلى "عدمية" (Nihilism) – أي رفض الإيمان بأي سلطة أو قيمة تقليدية. يربط ميشرا بين هؤلاء "العدميين الروس" وبين الشباب الغربيين أو المهاجرين الذين ينضمون للجماعات المتطرفة اليوم؛ فكلاهما يعاني من فراغ روحي، وكلاهما يبحث عن "فعل" جذري يمنح حياته التافهة معنىً ومجداً.

الانتقال من "الكلمة" إلى "الفعل" (الدعاية بالعمل)

يناقش ميشرا تطور مفهوم "الدعاية بالعمل". في السابق، كان التغيير السياسي يعتمد على الإقناع والنظريات. لكن الفوضويين في أواخر القرن التاسع عشر قرروا أن العمل العنفي المروع (تفجير، اغتيال) هو الوسيلة الوحيدة لإيقاظ الجماهير من سباتها وتحطيم هيبة الدولة.

يستعرض الكتاب موجة الاغتيالات التي هزت العالم في تلك الفترة: اغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني، ورئيس فرنسا كارنو، والرئيس الأمريكي ماكينلي، وإمبراطورة النمسا إليزابيث. لم تكن هذه الجرائم تهدف بالضرورة إلى تحقيق مكاسب سياسية فورية، بل كانت طقوساً استعراضية للموت، تهدف إلى إثبات قدرة الفرد على تحدي النظام الجبار. يرى ميشرا أن هجمات 11 سبتمبر أو تفجيرات باريس هي استمرار مباشر لهذا التكتيك: استخدام العنف المذهل كرسالة إعلامية عالمية.

وبشكل مفاجئ ومثير للاهتمام، يدرج ميشرا الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر ضمن رواد "سياسة الهيجان" في مرحلة شبابه. قبل أن يصبح رمزاً للقومية الألمانية المحافظة، كان فاغنر ثورياً يشارك باكونين المتاريس في دريسدن عام 1849.

كان حلم فاغنر هو "العمل الفني الشامل" (Gesamtkunstwerk)، حيث تذوب السياسة في الفن، وتتحول الثورة إلى مسرحية أسطورية تعيد إحياء روح الأمة. يشير ميشرا إلى أن السياسة الحديثة أصبحت متأثرة بهذا المنظور "الفاغنري": السياسة كاستعراض، كمهرجان للمشاعر الجياشة، وكدراما بطولية، وهو ما نراه في التجمعات الشعبوية الكبرى والخطب النارية للقادة الديماغوجيين.

كذلك يعتمد ميشرا بشكل كبير على روايات فيودور دوستويفسكي (خاصة رواية "الشياطين" أو "الممسوسون") لفهم النفسية الداخلية لهؤلاء الثوار. كان دوستويفسكي، الذي كان ثورياً سابقاً، يدرك أن دافع هؤلاء الشباب ليس العدالة الاجتماعية فحسب، بل هو "تأليه الإنسان".

شخصيات دوستويفسكي (مثل كيريلوف وستافروغين) لا يقتلون من أجل الفقراء، بل يقتلون (أو ينتحرون) ليثبتوا أنهم أحرار تماماً، وأنهم تجاوزوا حدود الخير والشر، وأصبحوا "آلهة" لأنفسهم. يجادل ميشرا بأن هذا التحليل ينطبق تماماً على الإرهابيين المعاصرين الذين ينصبون أنفسهم قضاة وجلادين للبشرية، مدفوعين بغرور نرجسي هائل مغلف بغطاء ديني أو أيديولوجي.

عولمة الفوضوية

يوضح الفصل كيف انتشرت هذه الأفكار من أوروبا وروسيا إلى بقية العالم (الهند، الصين، اليابان) في أوائل القرن العشرين. المفكرون والنشطاء في العالم المستعمر (مثل الشباب في البنغال أو طوكيو) بدؤوا يرون في الفوضوية والعنف الثوري وسيلة ليس فقط للتحرر من الاستعمار، بل للشفاء من "الضعف" و"الخزي" الذي شعروا به أمام الغرب القوي.

لقد تبنى هؤلاء تكتيكات الاغتيال والتفجير كوسيلة لاستعادة الرجولة والكرامة الوطنية. وهنا يضع ميشرا يده على نقطة جوهرية: العنف هنا علاجي ونفسي بقدر ما هو سياسي. إنه محاولة لغسل العار بالقوة.

ويختتم ميشرا الفصل الرابع بتأكيد أننا لا نزال نعيش في "عصر الهيجان" الذي بدأه باكونين وأقرانه. العالم الحديث، بضغوطه الاقتصادية وتفككه الاجتماعي، يستمر في إنتاج ملايين من "البشر الزائدين عن الحاجة"، المحبطين والغاضبين.

سواء ارتدى هؤلاء قناعاً شيوعياً، أو فاشياً، أو إسلامياً، فإن الديناميكية الأساسية هي نفسها:

* رفض للعالم البرجوازي الممل والمنافق.

* رغبة في التطهر عبر العنف.

* بحث عن مجتمع طوباوي مستحيل التحقق.

* إيمان بأن الهدم هو الطريق الوحيد للبناء.

بهذا المعنى، فإن الإرهابي الذي يفجر نفسه في سوق مزدحم ليس "وحشاً" غير مفهوم قادماً من العصور المظلمة، بل هو الابن الشرعي والمنطقي للحداثة وتناقضاتها، وهو التجسيد المعاصر لـ "سياسة الهيجان" التي هيمنت على المخيلة الثورية منذ قرنين من الزمان.

الفصل الخامس: استرجاع ديني

يفتتح بانكاج ميشرا هذا الفصل بمشهد درامي وذي دلالة رمزية عالية: اغتيال المهاتما غاندي في 30 يناير 1948. لم يغتل غاندي على يد مسلم أو عدو خارجي، بل برصاص ناثورام غودسه، وهو قومي هندوسي متعصب وعضو سابق في حركة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" (RSS). يقدم ميشرا شخصية غودسه ومعلمه الروحي فيناياك دامودار سافاركار (منظر إيديولوجيا "هيندوتفا" أو الهندوسية السياسية) كنموذج أولي لنوع جديد من الثوار: "المحدثون الحاقدون".

يرى ميشرا أن غودسه وسافاركار لم يكونا متدينين تقليديين، بل كانا ملحدين أو غير مهتمين بالطقوس الدينية. كانا معجبين بالغرب الحديث، وتحديداً بنموذج القومية الأوروبية العنيفة (مثل الفاشية والنازية). كان هدفهم ليس الروحانية، بل تحويل الهندوسية إلى "أمة سياسية وعسكرية" قوية قادرة على منافسة الغرب وهزيمة المسلمين.

كان غاندي يمثل بالنسبة لهم عائقاً، لأنه كان يدعو إلى "الضعف" و"الأنوثة" و"التسامح" وهي قيم اعتبروها سبباً في إذلال الهند. يربط ميشرا ببراعة بين هذا الفكر وبين صعود ناريندرا مودي (رئيس وزراء الهند الحالي) وحزب "بهاراتيا جاناتا"، معتبراً أن الهند اليوم تحقق حلم غودسه: دولة عضلية، قومية، وتستخدم الدين كأداة لتعبئة الجماهير وتطهير الأمة من "الدخلاء" (المسلمين والعلمانيين).

سقوط "أصنام" التحديث العلماني

ينتقل الفصل لنقد النخب العلمانية التي حكمت العالم غير الغربي بعد الاستقلال (مثل نهرو في الهند، أتاتورك في تركيا، وشاه إيران). آمن هؤلاء القادة بأن "الحضارة" تعني "الغرب"، وأن طريق التقدم الوحيد هو تقليد أوروبا في كل شيء: من الأزياء إلى القوانين، وصولاً إلى استبعاد الدين من الحياة العامة.

* أتاتورك: يصفه ميشرا بأنه النموذج الأبرز لـ "المستبد المستنير" الذي حاول فرض الحداثة بقرارات فوقية (منع الطربوش، تغيير الحروف)، مما خلق شرخاً هائلاً بين النخبة "المتغربة" وعامة الشعب. يذكر الكتاب إعجاب هتلر بأتاتورك، حيث اعتبره معلماً في كيفية بناء أمة قوية عبر التطهير العرقي والثقافي.

* شاه إيران: يمثل ذروة الغرور التحديثي. حاول الشاه تحويل إيران إلى نسخة من الغرب بالقوة، محتقراً تقاليد شعبه، ومقيماً احتفالات باذخة (مثل احتفال برسبوليس 1971) في وقت كان فيه الشعب يعاني. هذا "التغريب القسري" ولد شعوراً عميقاً بالمهانة والاغتراب لدى الجماهير، مما مهد الطريق للثورة.

إيران واختراع "تسمم بالغرب"

يخصص ميشرا جزءاً كبيراً من الفصل لتحليل الثورة الإيرانية، ليس كحدث ديني غيبي، بل كثورة فكرية حديثة ضد "الاستعمار الثقافي". يركز على ثلاثة شخصيات محورية:

* جلال آل أحمد: الكاتب الذي صاغ مصطلح "غرب زادگي" (Westoxification) أو "التسمم بالغرب". رأى آل أحمد أن الإيراني أصبح "كالغراب الذي يحاول تقليد مشية الحجل"، ففقد هويته ولم يكتسب هوية الغرب. دعا إلى العودة للإسلام ليس كإيمان طقوسي، بل كـ "هوية ثقافية" ومصدر للمناعة ضد الهيمنة الغربية.

* علي شريعتي: المفكر الذي مزج بين الماركسية، والوجودية (متأثراً بسارتر وفرانتس فانون)، وبين التشيع الثوري. حول شريعتي شخصيات دينية مثل الإمام الحسين إلى رموز ثورية عالمية للعدالة ومقاومة الظلم، ملهماً جيلاً كاملاً من الشباب للثورة.

* آية الله الخميني: يصفه ميشرا بأنه "أكبر ثوري في العصر الحديث". نجح الخميني في تحويل الإسلام الشيعي من دين انتظار سلبي إلى أيديولوجيا ثورية نشطة (ولاية الفقيه). يجادل ميشرا بأن الخميني، رغم مظهره التقليدي، كان ثورياً حديثاً استخدم أدوات التعبئة الجماهيرية واللغة السياسية الحديثة لهدم النظام القديم.

الجذور الألمانية للصحوة الدينية

في تحليل عميق، يربط ميشرا بين "الصحوة الدينية" في الشرق وبين الرومانسية الألمانية في القرن التاسع عشر. يرى أن الإسلاميين والقوميين الهندوس يكررون (دون وعي) أفكار الفلاسفة الألمان مثل يوهان غوتفريد هردر وفيخته.

* عندما أحس الألمان بالدونية أمام الحضارة الفرنسية "العالمية" والباردة في القرن الـ 18، اخترعوا فكرة "فولك" (Volk) أو "الشعب" الذي يمتلك "روحاً" خاصة وأصيلة.

* وبالمثل، عندما أحس المسلمون والهندوس بالدونية أمام الغرب المتفوق مادياً، لجأوا إلى "الدين" و"الثقافة المحلية" كحصن أخير للكرامة.

إذن، ما يبدو كعودة للدين هو في الحقيقة استعارة لمفهوم "القومية الثقافية" الأوروبي للدفاع عن الذات ضد العولمة التي تسحق الهويات.

مفارقة "المحاكاة"

يصل ميشرا إلى استنتاج ساخر ومؤلم: هؤلاء الذين يحاربون الغرب (مثل الخميني، أو تنظيم القاعدة، أو القوميين الهندوس) هم في الواقع أكثر الناس تأثراً به.

* إنهم يستخدمون التكنولوجيا الغربية، وأساليب التنظيم الحزبية الغربية، ومفاهيم "الدولة" و"الثورة" الغربية.

* تنظيم الدولة (داعش) مثلاً، لا يمثل عودة للخلافة القديمة، بل هو "محاكاة كاريكاتورية" للدولة الشمولية الحديثة، يستخدم عنفاً استعراضياً (مستلهماً من هوليوود وألعاب الفيديو) لفرض سلطته.

* هذا ما يسميه ميشرا "المحاكاة التملكية": محاولة امتلاك قوة العدو وأدواته لهزيمته، مما يؤدي في النهاية إلى أن يصبح "المقاوم" شبيهاً بـ "المستعمر" الذي يحاربه، حيث تستبدل النخب العلمانية المستبدة بنخب دينية لا تقل استبداداً ودموية.

يخلص الفصل إلى أن "الاسترجاع الديني" هو نتيجة حتمية لفشل وعود الحداثة. عندما فشلت الدول العلمانية في توفير الكرامة والعدالة والعمل لشبابها، وعندما تحولت المدن الكبرى إلى غابات من الإسمنت واللامساواة، عاد الناس إلى "الهوية" (الدين، الطائفة، العرق) كملاذ أخير.

يحذر ميشرا من أن هذا الطريق مسدود؛ فبدلاً من حل مشاكل الفقر والفساد، تقدم هذه الحركات "نشوة" مؤقتة من العزة القومية أو الدينية، وتخلق عالماً من "الهويات القاتلة" حيث يسعى كل طرف لإبادة الآخر لإثبات نقائه وتفوقه. إنه عالم "زمن الغضب" بامتياز، حيث أصبح الدين وقوداً لسياسات الكراهية الحديثة بدلاً من أن يكون مصدراً للسلام الروحي.

الفصل السادس: عصر الغضب

يستهل بانكاج ميشرا هذا الفصل بتأكيد حقيقة صادمة: نحن نعيش الآن في عالم أصبح فيه "الاستياء" (Ressentiment) هو اللغة العالمية المشتركة. لم يعد الغضب حكراً على الشعوب المستعمرة أو الفقيرة، بل انتقل إلى قلب العواصم الغربية. يجادل ميشرا بأن الوعود البراقة التي قدمتها النخب العالمية بعد الحرب الباردة – وعود الرخاء عبر التجارة الحرة، والديمقراطية، والعولمة – قد تحطمت تماماً، مخلفة وراءها ساحة من الحطام النفسي والاجتماعي.

عولمة "حرب الكل ضد الكل"

يستعير ميشرا مفهوم توماس هوبز عن "حرب الكل ضد الكل"، ليصف الحالة الراهنة للمجتمع العالمي. بفضل العولمة والتكنولوجيا الرقمية، أصبح سكان العالم (من قرى الهند إلى ضواحي باريس) متصلين في "سوق واحدة" للرغبات.

الجميع يتعرضون لنفس الصور الدعائية، ويطمحون لنفس نمط الحياة الاستهلاكي، ويقيسون نجاحهم بنفس المعايير المادية والفردية. لكن، لأن الموارد محدودة والنظام الاقتصادي مصمم لخدمة قلة، فإن الأغلبية العظمى تجد نفسها عاجزة عن تحقيق هذه الرغبات.

هذا التزاحم العالمي خلق حالة من "الحسد الوجودي". لم يعد الجار يحسد جاره فقط، بل أصبح الفقير في العالم النامي يحسد الغني في الغرب، والمواطن الأبيض في أمريكا يحسد المهاجر الذي يتخيل أنه "يسرق" وظيفته. يرى ميشرا أن هذا هو تحقق لنبوءة روسو: مجتمع تحركه المنافسة الشرسة والمحاكاة، حيث يتحول الآخرون إلى عقبات في طريق سعادتنا، مما يولد رغبة في إزالتهم أو تدميرهم.

ظاهرة "الذئاب المنفردة" والعدمية الجديدة

يحلل الفصل بعمق ظاهرة العنف العشوائي المعاصر، رافضاً التمييز التقليدي بين "الإرهابي الإسلامي" و"مطلق النار الجماعي" (Mass Shooter) في المدارس الأمريكية. بالنسبة لميشرا، كلاهما وجهان لعملة واحدة: العدمية.

* عمر متين (منفذ هجوم أورلاندو) وأندرس بريفيك (النرويج): كلاهما كان مدفوعاً بمزيج من الكراهية للذات، البحث عن الشهرة، والرغبة في "تطهير" العالم. الأيديولوجيا (سواء كانت داعش أو النازية الجديدة) هي مجرد "قشرة" أو مبرر سطحي لغضب داخلي عميق.

* يرى ميشرا أن هؤلاء الشباب هم النسخة المعاصرة من "الرجال الزائدين عن الحاجة" في روايات دوستويفسكي. إنهم يشعرون بأنهم نكرات في عالم يحتفي بالمشاهير والأثرياء، ولذلك يقررون ارتكاب عمل عنيف مذهل لفرض وجودهم على العالم. شعارهم الضمني هو: "أنا أقتل، إذن أنا موجود".

* يشير الكتاب إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في تحويل الإرهاب إلى "أداء مسرحي". العنف لم يعد وسيلة لتحقيق هدف سياسي، بل أصبح غاية في حد ذاته، وسيلة للظهور على الشاشات واكتساب "خلود" رقمي دموي.

صعود "الرجال الأقوياء" (الديماغوجيون)

ينتقل ميشرا لتفسير الصعود المتزامن للقادة الشعبويين المستبدين حول العالم: دونالد ترامب في أمريكا، ناريندرا مودي في الهند، رجب طيب أردوغان في تركيا، وفلاديمير بوتين في روسيا.

لماذا تنتخب الشعوب هؤلاء القادة رغم أنهم غالباً لا يقدمون حلولاً اقتصادية واقعية؟

* الإجابة تكمن في "سياسة الكرامة". هؤلاء القادة يخاطبون الغضب الكامن في نفوس الجماهير التي تشعر بالمهانة من قبل النخب "المعولمة" والمتعالية.

* ترامب ومودي لا يعدون الناس بالرخاء بقدر ما يعدونهم بـ "الانتقام". الانتقام من الليبراليين، من المهاجرين، من الأقليات، ومن كل من يُنظر إليهم كأعداء للأمة.

* يمثل هؤلاء القادة عودة لمفهوم "الأب الصارم" أو الزعيم القبلي الذي يحمي "القطيع" من الذئاب الخارجية. في زمن عدم اليقين والخوف (زمن الغضب)، يفضل الناس التضحية بالحرية مقابل الشعور بالأمان والانتماء الذي يوفره الزعيم القوي.

ويطرح الفصل نقطة مثيرة للاهتمام حول البعد الجندري للغضب العالمي. يلاحظ ميشرا أن معظم مرتكبي العنف، ومعظم أنصار اليمين المتطرف، هم من الرجال الذين يشعرون بتهديد لذكورتهم.

* الحداثة الاقتصادية وتغير الأدوار الاجتماعية للمرأة جعلت الكثير من الرجال يشعرون بفقدان دورهم التقليدي كمعيلين ومسيطرين.

* الحركات المتطرفة (من داعش إلى القوميين البيض) تقدم لهؤلاء الرجال فرصة لاستعادة "الرجولة المفقودة" عبر العنف وحمل السلاح والسيطرة على النساء. إنها تعدهم بعالم يستعيدون فيه تفوقهم الطبيعي المفترض.

إفلاس النيوليبرالية

يوجه ميشرا نقداً لاذعاً للنظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي ساد منذ الثمانينيات (عهد ريغان وتاتشر). هذا النظام قام على فكرة أن "السوق" هو الحكم الوحيد، وأن المجتمع ليس إلا مجموعة من الأفراد المتنافسين.

* النتيجة كانت تدمير شبكات الأمان الاجتماعي، وتفكيك النقابات، وتحويل المواطن إلى "مستهلك".

* عندما انهار هذا النظام (خاصة بعد الأزمة المالية في 2008)، لم يجد الناس أي مؤسسات تحميهم أو تعطيهم معنى لحياتهم. الدين والقومية عادا لملء هذا الفراغ الروحي والاجتماعي.

* يرى ميشرا أن الغضب الحالي هو "فاتورة" تأخر سدادها لعقود من الزمن؛ فاتورة تهميش القيم الإنسانية والمجتمعية لصالح الأرقام والربح.

التضامن السلبي

في غياب مشاريع سياسية إيجابية (مثل الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية التي كانت تعد بمستقبل أفضل)، تجمع الناس اليوم حول ما يسميه حنة أرندت "التضامن السلبي".

* الناس لا يتحدون "من أجل" شيء، بل "ضد" شيء ما. يتحدون ضد المهاجرين، ضد المسلمين، ضد الغرب، أو ضد النخبة.

* هذا التضامن القائم على الكراهية والخوف هو أسهل أنواع التعبئة السياسية، ولكنه الأخطر لأنه لا يقود إلا إلى مزيد من الانقسام والعنف. لا يوجد مشروع لبناء المستقبل، بل فقط رغبة في هدم الحاضر.

نهاية الاستثناء الغربي

أهم استنتاج في الفصل السادس هو سقوط فكرة أن الغرب "مختلف" أو "محصن". لفترة طويلة، اعتقد الغربيون أن التطرف والعنف السياسي هما مشكلة "العالم الثالث".

* يوضح ميشرا أن "بريكست" (Brexit) وانتخاب ترامب أثبتا أن المجتمعات الغربية تعاني من نفس الأمراض: الانقسام القبلي، عدم الثقة في المؤسسات، واللجوء إلى الحلول السحرية والديماغوجية.

* الغرب والشرق أصبحا مرآة لبعضهما البعض. الهندوس المتطرفون يقلدون القوميين الأوروبيين، واليمين المتطرف الأوروبي يستخدم لغة "الجهاد" (بمعنى الحرب المقدسة) للدفاع عن "الحضارة المسيحية".

يختتم ميشرا الفصل السادس بنبرة تشاؤمية واقعية. نحن عالقون في "زمن الغضب" لأننا لا نملك لغة فكرية جديدة لوصف واقعنا، ناهيك عن تغييره. نحن نستخدم مصطلحات قديمة (ديمقراطية، فاشية، شيوعية) لم تعد تصف بدقة الهجين الوحشي الذي نعيشه.

يشبه ميشرا وضعنا الحالي بوضع أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى: حالة من التوتر الشديد، والملل، والرغبة في "انفجار" ما يكسر الجمود. الفارق الوحيد هو أننا نملك الآن أسلحة نووية وأزمة بيئية، مما يجعل المخاطر وجودية.

إن "عصر الغضب" ليس مجرد مرحلة عابرة، بل هو الحالة الطبيعية الجديدة لعالم دمرت فيه الرأسمالية المتوحشة الروابط الإنسانية، وتركت الأفراد ذرات تائهة تصطدم ببعضها البعض في الظلام، باحثة عن شرارة لإشعال الحريق.

الخاتمة: اكتشاف الواقع

يصل بانكاج ميشرا في ختام كتابه إلى لحظة المكاشفة النهائية. بعد أن طاف بنا عبر قرون من الفلسفة، والثورات، والدماء، يقف الآن أمام حطام العالم المعاصر ليطرح السؤال الأصعب: إذا كانت الحداثة الليبرالية قد فشلت في توفير المعنى، وإذا كان رد الفعل العنيف عليها (التطرف والقومية) يقودنا إلى الهاوية، فأين المفر؟

"اكتشاف الواقع" يحمل دلالة عميقة؛ فهو يدعو القارئ للتوقف عن تصديق "أوهام" التقدم الحتمي، والنظر بشجاعة إلى الواقع كما هو: واقع هش، مأزوم، ويقف على حافة كارثة بيئية وروحية.

شلل النخب وعجز اللغة السياسية

يبدأ ميشرا بتشخيص حالة "الشلل" التي تعاني منها النخب العالمية. السياسيون، الاقتصاديون، والصحفيون في الغرب لا يزالون يتحدثون لغة قديمة. إنهم يحاولون تفسير ظواهر مثل "ترامب" أو "داعش" باستخدام مصطلحات القرن العشرين (فاشية، شيوعية، ديمقراطية)، لكنهم يعجزون عن فهم الطبيعة "العدمية" والجديدة تماماً لهذا الغضب.

يجادل ميشرا بأن الحلول التكنوقراطية (تعديل أسعار الفائدة، اتفاقيات تجارية جديدة، قصف جوي للإرهابيين) لم تعد تجدي نفعاً. المشكلة ليست تقنية، بل هي مشكلة "ميتافيزيقية" وروحية. البشر لا يثورون فقط لأنهم فقراء، بل يثورون لأنهم يشعرون بأن حياتهم تافهة، وبأنهم مجرد تروس في آلة اقتصادية عملاقة لا ترحم.

* الحل قد لا يأتي من "الأيديولوجيات السياسية" (يمين أو يسار)، بل من استعادة "الحس الأخلاقي" والتضامن الإنساني الذي سحقته الفردية المفرطة. إن العالم بحاجة إلى "ثورة روحية" تعيد تعريف معنى "الحياة الطيبة" بعيداً عن تكديس البضائع.

وهم "الفرد المستقل"

يعود ميشرا في الخاتمة ليضرب في الصميم الفكرة المركزية لليبرالية: فكرة الفرد المستقل، العقلاني، الذي يصنع مصيره بيده.

* يقول ميشرا إن هذه الفكرة كانت دائماً "كذبة". لا يوجد فرد مستقل تماماً؛ نحن كائنات اجتماعية، نعتمد على بعضنا البعض، وعلى الطبيعة، وعلى التاريخ.

* محاولة الحداثة لفصل الفرد عن مجتمعه وعن تقاليده (باسم الحرية) لم تخلق أفراداً أحراراً، بل خلقت "ذرات تائهة"، قلقة، وخائفة. وهذا الخوف هو ما يدفع الناس اليوم للركض نحو "القطيع" (القبيلة، الطائفة، القومية) بحثاً عن الدفء والأمان، حتى لو كان ذلك يعني اعتناق الكراهية.

تؤكد الخاتمة على فكرة تكررت في الكتاب، ولكنها تأخذ هنا طابعاً نهائياً: لا يوجد مكان آمن.

كان الغرب يعتقد لفترة طويلة أنه "جزيرة العقل" في محيط من الجنون الشرقي. لكن ميشرا يوضح أن الغضب الذي نراه في شوارع أوروبا وأمريكا اليوم يثبت أن العالم كله أصبح "شرق أوسط" كبير. الأزمات النفسية، والبطالة، وفقدان المعنى هي الآن تجربة عالمية مشتركة. الاعتراف بهذه "المساواة في الألم" هو الخطوة الأولى نحو الحل، بدلاً من التعالي الغربي المعتاد.

ويضيف ميشرا بعداً جديداً في الخاتمة لم يكن بارزاً بقوة في الفصول الأولى: أزمة المناخ.

يرى أن وعود التنمية والرخاء التي قُدمت لمليارات البشر في الصين والهند وأفريقيا هي وعود "مستحيلة التحقق" بيئياً. كوكب الأرض لا يحتمل أن يعيش 7 مليارات إنسان بنمط الحياة الأمريكي المستهلك للطاقة.

* هذا الاصطدام بين "الطموحات اللانهائية" و"الموارد المحدودة" هو المحرك الأكبر للغضب القادم. عندما يدرك الناس في الجنوب العالمي أنهم لن يحصلوا أبداً على "الحلم الأمريكي" لأن الكوكب يحترق، فإن رد فعلهم سيكون مزيداً من العنف والفوضى والحروب على الموارد.

ماذا يجب أن نفعل؟ (التحول الجذري)

لا يقدم ميشرا "خطة عمل" سياسية جاهزة (وهو ما ينتقده البعض)، لكنه يدعو إلى "تحول جذري في الوعي".

* التخلي عن الغرور: يجب أن نتخلى عن غرورنا بأننا قادرون على السيطرة على العالم والطبيعة والتاريخ.

* إعادة الاعتبار للمهمشين: يجب أن نستمع إلى أصوات "الخاسرين" في سباق العولمة، ليس فقط لاحتوائهم أمنياً، بل لفهم معاناتهم الإنسانية.

* قبول الحدود: يجب أن نتعلم كيف نعيش في حدود إمكانياتنا، وأن نجد السعادة في "الكفاية" والعلاقات الإنسانية بدلاً من "المزيد".

تحذير نهائي: بين الفوضى والتحول

يختتم الكتاب بنبرة تحذيرية شديدة. يرى ميشرا أننا نقف في مفترق طرق شبيه بعام 1914 (عشية الحرب العالمية الأولى).

* إما أن نستمر في الإنكار، والتمسك بالوضع الراهن، وتبادل الاتهامات، وهو ما سيقود حتماً إلى حروب أهلية عالمية، وكوارث بيئية، وربما فناء.

* أو أن نبدأ عملية شاقة ومؤلمة لـ "اكتشاف الواقع"، والاعتراف بأن المشروع الحداثي بحاجة إلى إصلاح جذري يعيد الروح والأخلاق إلى قلب السياسة والاقتصاد.

خاتمة "زمن الغضب" ليست نهاية سعيدة، ولا هي وصفة يأس. إنها دعوة لليقظة. يقول ميشرا إن الغضب الذي نراه هو "جرس إنذار" يصرخ بأن الطريقة التي نعيش بها لم تعد صالحة. إنه يترك القارئ مع مسؤولية أخلاقية: التوقف عن لوم "الآخرين" (الإرهابيين، المهاجرين، أو النخب)، والبدء في التفكير في كيفية بناء عالم جديد قائم على التواضع، والرحمة، والاعتراف المتبادل بإنسانيتنا الهشة.

الكتاب: زمن الغضب: تأريخ الحاضر.
الكاتب: بانكاج ميشرا (Pankaj Mishra).
اصدار: سلسلة عالم المعرفة (العدد 505)، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت (أبريل 2023).

ذات صلة

الفصائل المسلحة وحصر السلاح بيد الدولة في العراقالمرأة بين الاسلام والفلسفةإقليم البصرةلماذا يتهرب الشباب من المسؤولية؟التحوّل الزلزالي في اليمن.. السعودية والإمارات على مسار تصادمي