العصر الصناعي الجديد
يجب أن تصبح أميركا قوة صناعية عظمى مرة أخرى
اندبندنت عربية
2023-02-22 05:07
بقلم: رو خانا
يميل ميزان القوى في الصناعات التقليدية لمصلحة الصين خلال الوقت الحاضر
لقد تقلص الحلم الأميركي بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين الأميركيين. وفي العقود الأخيرة، لم تعد الولايات المتحدة مصنع العالم [القوة الصناعية الأكبر في العالم] وصارت تعتمد بشكل متزايد على استيراد البضائع من الخارج. منذ عام 1998، أدى العجز التجاري الأميركي الآخذ في التزايد إلى خسارة البلاد 5 ملايين وظيفة صناعية تتمتع برواتب جيدة، وتسبب في إغلاق ما يقرب من 70 ألف مصنع. وشهدت المدن الصغيرة هجرة سكانها ودمار مجتمعاتها. كذلك، ازدادت التفاوتات الاجتماعية، إذ تركزت الثروة في المدن الساحلية الرئيسة فيما جرى التخلي عن المناطق الصناعية السابقة. ونظراً إلى أن الوصول للطبقة الوسطى أصبح أصعب على الأميركيين ممن لم يحصلوا تعليمهم الجامعي، أثار تلاشي الارتقاء الاجتماعي غضباً واستياء وانعدام ثقة. إذاً، ألحقت الخسارة في مجال الصناعة ضرراً بالاقتصاد، بل الديمقراطية الأميركية أيضاً.
وأدت الصين دوراً مهماً في تراجع التصنيع في الولايات المتحدة. وفي الواقع، حدثت الزيادة الهائلة في فقدان الوظائف بعد أن وافق الكونغرس الأميركي على منح العلاقات التجارية مع بكين صفة "العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة" عام 2000، قبيل انضمام الصين إلى "منظمة التجارة العالمية". بين عامي 1985 و2000، نما العجز التجاري الأميركي مع الصين بشكل مطرد من 6 مليارات دولار إلى 83 مليار دولار. ثم تضخم هذا العجز بشكل أكثر حدة بعد انضمام الصين إلى "منظمة التجارة العالمية" عام 2001. وارتفع بشكل ملحوظ في الوقت الراهن ليسجل 309 مليارات دولار.
بمجرد انضمامها إلى "منظمة التجارة العالمية"، قوضت الصين بشكل غير عادل التصنع في الولايات المتحدة من خلال استخدام العمالة المستغلة وتقديم إعانات حكومية كبيرة للشركات الصينية. وأدى تحرير التجارة مع الصين إلى دمار على مستوى المصانع والمدن الريفية، لا سيما في الغرب الأوسط والجنوب، أكبر من ذلك الذي خلفته معاهدة "نافتا" NAFTA، وهي اتفاق للتجارة الحرة أتاح عام 1994 انتقال عدد من الوظائف الصناعية والزراعية الأميركية إلى المكسيك. [يحمل اتفاق "نافتا" الاسم المكون من الأحرف الأولى لعبارة "اتفاق التجارة الحرة في أميركا الشمالية". ووقعته أميركا وكندا والمكسيك. وانتهى في 2020].
والجدير بالذكر أن هذا الدمار غذى تصاعد رهاب الأجانب الذي يستهدف المهاجرين، والكراهية ضد الآسيويين، والقومية اليمينية التي هددت الديمقراطية في الداخل من خلال التطرف والعنف في السياسة الأميركية.
واستطراداً، أصبح من المعتاد في أوساط السياسة الخارجية الأميركية الندم على سذاجة الاعتقاد بأن بكين وواشنطن ستستفيدان بالتساوي من إدخال الصين في نظام التجارة العالمية. في المقابل، لم يكن هذا الاعتراف مصحوباً دائماً بالوضوح والطموح المطلوبين في صنع السياسة الأميركية. لقد اتخذت إدارة بايدن خطوات مهمة في تشجيع عودة الوظائف من الخارج، ودعم الشركات المصنعة الأميركية، والسعي إلى حرمان الصين من الوصول إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات الأميركية المتطورة. بيد أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تعزيز هذه الأجندة من خلال انتهاج استراتيجيات محددة تختلف بحسب المكان، من أجل إعادة تنشيط الأجزاء المتعثرة في البلاد وتقوية الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
في الواقع، يجب على الأميركيين تبني روح وطنية اقتصادية جديدة تدعو إلى زيادة الإنتاج المحلي، وإعادة الوظائف من الخارج، وتعزيز الصادرات. بطريقة موازية، سيكون من شأن أجندة تركز على إعادة التنشيط المناطقي أن تعطي الأمل إلى الأماكن التي عانت عقوداً من التراجع فيما كان صانعو السياسات يراقبون بإحباط ولا يقدمون أكثر من حلول سطحية للأشخاص الذين خسروا وظائفهم نتيجة الأتمتة والاستعانة بمصادر خارجية.
وكذلك تجدر الإشارة إلى أن التزام إعادة بناء القاعدة الصناعية الأميركية لا يعني أن على الدولة أن تدير ظهرها للعالم وتتبنى نوعاً من القومية الاقتصادية المنعزلة على غرار تلك التي دعمت التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 في المملكة المتحدة. بدلاً من ذلك، يمكن للولايات المتحدة إعادة إحياء الصناعات المهمة مع الحفاظ على العلاقات التجارية الرئيسة، والترحيب بالمهاجرين، وتشجيع الديناميكية والابتكار لدى شعبها.
واستكمالاً، ينبغي أن تقود الضرورات الاقتصادية سياسة الولايات المتحدة الخارجية تجاه الصين، وذلك من أجل الأمن المحلي والعالمي، وخدمة للازدهار على الصعيد الوطني. وسيؤدي الحد من اختلال التوازن التجاري [مع الصين] إلى تقليل التوترات والتخفيف من أخطار الغضب الشعبوي أو أزمات الإمدادات التي تؤجج الصراعات بين الخصمين الجيوسياسيين. في كل محادثة مع بكين، يجب على واشنطن التركيز على إعادة توازن الإنتاج. وينبغي على صانعي السياسة الأميركيين تحديد أهداف سنوية في تقليل العجز التجاري مع الصين. ويمكنهم تحقيق تلك الأهداف من خلال مفاوضات حازمة، كتلك المتعلقة مثلاً بقيمة العملة الصينية المخفضة بشكل متعمد، ومن خلال تعديلات السياسة من جانب واحد، على غرار دعم الشركات المصنعة في الولايات المتحدة وفي البلدان الصديقة. في الحقيقة، ستساعد إجراءات من هذا النوع في معالجة فقدان الوظائف، وتراجع التصنيع، مع ما ترتب على ذلك من أزمات المواد الأفيونية التي زعزعت استقرار المجتمع الأميركي. ومن خلال تحقيق هذه الرؤية، لن تعمل الولايات المتحدة على تحسين العلاقات مع الصين فحسب، بل ستعزز بناء ديمقراطية مزدهرة ومتعددة الأعراق تكون مثالاً يحتذي به العالم.
"ما زلنا نصنع الأشياء"
يعتبر العجز التجاري مؤشراً مهماً في تراجع القاعدة الصناعية الأميركية. في العقد الأول من هذا القرن، وفق ما بيّنه أستاذ الاقتصاد في "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا" ديفيد أوتور، خسرت الولايات المتحدة 2.4 مليون وظيفة لأن الصناعات التي تحتاج إلى عمالة كثيفة انتقلت إلى الصين. وأسهمت الصفة التجارية الجديدة لبكين والأجور المنخفضة، إلى جانب عملتها المقومة بأقل من قيمتها، في تحفيز الشركات الأميركية على نقل منشآت التصنيع إلى الصين. بعد عقدين من الزمان، وصل عدد الوظائف المفقودة إلى 3.7 مليون، بسبب العجز التجاري المتزايد مع الصين. ويعبر ذلك العجز عن التراجع في الصناعة المحلية، إذ استحوذ التصنيع على 71 في المئة من التجارة العالمية عام 2020، وشكلت نسبة السلع المصنعة حوالى 73 في المئة من واردات الولايات المتحدة من بكين عام 2019. بصريح العبارة، من خلال تسجيل عجز تجاري مع بكين، تعمل واشنطن على توليد وظائف في الصين بدلاً من الولايات المتحدة.
وهناك اقتصاديون وأصحاب أعمال كثيرون لا يندمون على خسارة التصنيع في الولايات المتحدة، بحجة أن اقتصاد البلاد أصبح أكثر توجهاً نحو قطاع الخدمات وإنتاج المعرفة والابتكار. لكن الابتكار يرتبط ارتباطاً جوهرياً بالإنتاج. وأكثر من نصف الإنفاق المحلي الأميركي على البحث والتطوير مخصص لشركات التصنيع. وقبل عقد من الزمان، جادل أندرو غروف رئيس شركة "إنتل" Intel [من كبار صناع الرقاقات الإلكترونية] بأن الجزء الرئيس من الابتكار يتمثل في "التوسيع" [نقل الإنتاج إلى أحجام أعلى] الذي يحدث مع انتقال التقنيات الجديدة من النموذج الأولي إلى الإنتاج الضخم. ويتراجع هذا التوسيع شيئاً فشيئاً في الولايات المتحدة لأن جزءاً كبيراً من التصنيع تحول إلى الخارج. وفي هذا الإطار، أعرب غروف عن أسفه مشيراً إلى أنه "من دون التوسيع، لا نفقد الوظائف فحسب، بل نفقد سيطرتنا على التقنيات الجديدة. في النهاية، سيؤدي فقدان القدرة على التوسيع إلى الإضرار بقدرتنا على الابتكار".
من المرجح أيضاً أن ينتسب عمال التصنيع إلى النقابات، ويتلقون الحماية التي تضمن انتماءهم إلى الطبقة الوسطى الأميركية. وبالاسترجاع، أدت القاعدة الصناعية المتينة والمشاركة النقابية القوية إلى توسيع الطبقة الوسطى بسرعة فائقة في الفترة الممتدة بين أربعينيات القرن الـ20 وسبعينياته. في الحقيقة، إن استبدال وظائف التصنيع في الولايات المتحدة بوظائف في قطاع الخدمات، يعتبر بمثابة إزالة للوظائف الثابتة والمستقرة المتميزة بالأجر المرتفع، لمصلحة الوظائف غير المستقرة والمنخفضة الأجر.
الاتفاقات التجارية ليست اتفاقات انتحارية
يجادل بعضهم بأن اللوم يقع على الأتمتة أكثر منه على انتقال الصناعة إلى الصين. لا شك في أن الأتمتة والتحولات في طريقة الإنتاج مسؤولة عن بعض هذه الخسائر. لكن لدى إجراء مقارنة مع ألمانيا، حيث أثرت الأتمتة أيضاً في القوى العاملة، يبدو أمراً مفيداً وملهماً. وبين عامي 2000 و2010، خسرت الولايات المتحدة حوالى 33 في المئة من وظائفها الصناعية، في حين خسرت ألمانيا 11 في المئة. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنها حافظت على فائض تجاري. حينما كان كلاهما لا يزال في منصبه، طلب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل شرح سر نجاح ألمانيا. فأجابت، "يا سيد بلير، نحن ما زلنا نصنع الأشياء". ففي ألمانيا، وفق ملاحظة من الخبير الاقتصادي غوردون هانسون، كان العمال الذين طردوا من وظائفهم في صناعة المنسوجات والأثاث قادرين على الانتقال إلى وظائف تصنيع الآلات لأن ألمانيا وسعت صادراتها من قطع غيار الآلات. ويعمل حوالى 20 في المئة من القوى العاملة الألمانية في وظائف التصنيع. في المقابل، إن القوة العاملة في الولايات المتحدة التي تفعل ذلك لا تتخطى نسبتها الـ8 في المئة.
واستطراداً، تمكنت ألمانيا من تخفيف الضربة الناجمة عن نمو الصناعة الصينية من خلال توسيع نطاق التصنيع المتسم بالتوجه التصديري. ومن ناحية أخرى، ترك العمال الأميركيون لشأنهم كي يبحثوا بأنفسهم على عمل في قطاع الخدمات مع أجور منخفضة، مما وجه ضربة قاسية للطبقة المتوسطة في البلاد. كذلك، استثمرت ألمانيا أيضاً بشكل كبير في برامج التدريب المهني وتدريب القوى العاملة لديها من أجل مستقبل عالي التقنية. في المقابل، أحجمت الولايات المتحدة عن فعل ذلك.
بالتالي، أصبح العجز التجاري الهائل مع الصين يشكل نقطة توتر في السياسة الأميركية. خلال الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، انخفض العجز مع الصين بنحو 100 مليار دولار بين عامي 2018 و2020. وعلى رغم أن ضرائبه [ترمب] الجمركية بدأت بمعالجة بعض الثغرات في قطاع التصنيع الأميركي الذي يغرق، إلا أن ترمب افتقر إلى أجندة شاملة تدفع الولايات المتحدة نحو صنع الأشياء من جديد. لقد خفض [ترمب] ضرائب الشركات عوضاً عن الاستثمار في الجيل المقبل من عمليات التصنيع. وعمدت الشركات الكبرى إلى ضخ مكاسبها من التخفيضات الضريبية باتجاه المضاربة في الأسواق المالية الثانوية وأسواق المشتقات المالية من الفئة الثالثة. [يقصد بذلك أنها أدوات مالية لا ترتبط بالأشياء المادية مباشرة، كالمنازل مثلاً، بل تشتق قيمتها من الأسهم المرتبطة بالأرباح التي قد تحدث من بيع المنازل].
وارتفع العجز مرة أخرى عام 2021 خلال جائحة كورونا، إذ لازم الأميركيون منازلهم أكثر من السابق وزادوا مشترياتهم من الأدوات المنزلية والإلكترونيات المصنوعة في الصين. عام 2021، استوردت الولايات المتحدة ما قيمته 135 مليار دولار من المعدات الإلكترونية الصينية الصنع، على غرار أشباه الموصلات والهواتف المحمولة، إضافة إلى أجهزة تلفزيون وكاميرات وهواتف لاسلكية بقيمة 60 مليار دولار. كذلك استوردت أميركا 116 مليار دولار من الآلات الصينية و40 مليار دولار من الدمى والألعاب والمعدات الرياضية. وحلت الصين محل الولايات المتحدة في صناعة قطع غيار السيارات، وصارت تنتج 30 في المئة من سلسلة التوريد العالمية للسيارات. في الواقع، تعبر هذه الديناميكيات عما هو أكثر من مجرد عادات لدى المستهلكين والمنتجين في الولايات المتحدة، إذ إنها تظهر أيضاً في المصانع المغلقة والمدن المقفرة والمجتمعات التي تواجه صعوبات في جميع أنحاء البلاد.
بطبيعة الحال، فإن تقييمات التكنوقراطيين الذين يناقشون إلى أي مدى تضر التجارة والأتمتة بالعاملين في الولايات المتحدة، تعتبر أقل أهمية من تقييمات الشعب الأميركي. في بلد ديمقراطي، تكون الخبرات الحية التي يعيشها المواطنون مهمة. وسيشهد أي شخص قضى وقتاً كافياً في ولاية نورث كارولاينا أو أوهايو أو بنسلفانيا، على أن كثيراً من الأميركيين هناك يعتقدون بأن فقدان الوظائف في مجتمعاتهم مرتبط ارتباطاً مباشراً بنقل الأعمال للخارج إلى الصين والمكسيك، وآسيا على نطاق أوسع. وقد توصلوا إلى هذا الاستنتاج بعد تفكير عميق وانطلاقاً من تجاربهم الخاصة. لذا، يحتاج صانعو السياسة في قلب العاصمة إلى قضاء بعض الوقت في زيارة البلدات المصنعة والاستماع إلى ما يقوله الناس هناك.
الظلال المديدة لحروب الأفيون
حينما تحاول تصدير المنتجات، تواجه كل صناعة أميركية عقبة كبيرة تتمثل في قوة الدولار الأميركي، إذ إن هذه العملة أكثر جاذبية واستقراراً من اليورو أو الروبية أو الين أو الرينمينبي [الاسم الرسمي للعملة الصينية]. والمفارقة العميقة لامتلاك عملة الاحتياط العالمي تتمثل في أن الولايات المتحدة تدعم بشكل فاعل بقية صادرات العالم بينما تجعل المنتجات والخدمات الأميركية باهظة الثمن إلى درجة تمنعها من المنافسة بقوة في الأسواق العالمية. في الوقت نفسه، تواصل الصين، أكبر مصدر في العالم، الحفاظ على قيمة عملتها منخفضة بشكل مصطنع، مما يعزز صادراتها. إذاً، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل بسرعة على مواجهة هذه الاختلالات في السوق.
أولاً، يمكنها التوصل إلى اتفاق مع الصين في شأن العملة والسلع، تماماً مثلما فعل الرئيس الأميركي رونالد ريغان في اتفاق "بلازا" Plaza Accord عام 1985 مع ألمانيا واليابان، حينما اتفق مع البلدين كليهما على الحد من إغراق الولايات المتحدة بسلعهما المصنعة، مع قبولهما بتخفيض قيمة الدولار من أجل تعزيز الطلب العالمي على الصادرات الأميركية المتعثرة. ووافق البنك المركزي التابع للحكومات الثلاث على تنسيق شراء عملات بعضهما بعضاً من أجل منع الدولار من الارتفاع بشكل كبير. كذلك، وافقت ألمانيا واليابان على فرض قيود على صادراتهما إلى السوق الأميركية. على رغم أن التفاوض على هذه الاتفاقات جاء بصورة طوعية، إلا أن ألمانيا واليابان أطلعتا على البديل [عن الاتفاقات] بعبارات لا لبس فيها. وأوضح لهما أنه في حال عدم وجود اتفاق، لن يكون أمام الولايات المتحدة خيار سوى العمل بشكل منفرد من أجل الحد من الواردات الألمانية واليابانية وخفض قيمة الدولار الذي كان آنذاك مبالغاً فيه.
ينبغي على المسؤولين الأميركيين استخدام نهج مماثل مع الصين. ومن غير المرجح أن تتعاون بكين ما لم تهدد واشنطن بفرض تعريفات جمركية تستهدف الصين، على غرار ما فعلت في الثمانينيات مع ألمانيا واليابان.
في الواقع، يجب على واشنطن أن توضح لبكين الصناعات التي تراها حيوية على وجه التحديد، وتشرح التعريفات والحصص المستهدفة التي ستفرضها إذا أجبرت على التصرف على نحو انفرادي، ثم تشرح الإجراءات الطوعية التي يمكن أن تتخذها الصين من أجل تجنب تلك العواقب. في نهاية المطاف، فإن أكبر المستفيدين من الاختلالات التجارية غير المتوازنة سيتحولون إلى كبار الخاسرين إذا أنهيت تلك العلاقات التجارية. إن الاتفاقات التجارية ليست اتفاقات انتحارية، ويجب على الولايات المتحدة أن توضح للصين أن التراجع البطيء في التصنيع الذي شهدته العقود الماضية سينتهي، مع التعاون الصيني أو من دونه.
على الولايات المتحدة أيضاً تنشيط "بنك التصدير والاستيراد الأميركي" EXIM والاستثمار فيه. ويمثل ذلك البنك وكالة ائتمان للصادرات الرسمية الحكومية، ويساعد الشركات الأميركية على بيع سلعها في الخارج. لفترة طويلة، رفضت واشنطن دعم صادراتها، ولكن لم يعد بإمكانها الاستمرار في ذلك. من خلال مساعدة الشركات الأميركية في تسويق منتجاتها في الخارج، يزيل "بنك التصدير والاستيراد" الأخطار التي تثبط الاستثمار في الصناعة الأميركية، على غرار خطر الخسارة أمام الشركات المنافسة في الخارج التي تدعمها حكوماتها بشكل كبير. وعلى رغم أن الولايات المتحدة يجب أن تحرص على عدم استخدام "بنك التصدير والاستيراد" من أجل عرقلة إنشاء الصناعات في البلدان المنخفضة الدخل، إلا أنه يتوجب على واشنطن أيضاً التركيز على دعم صادرات تكنولوجيا الطاقة النظيفة في جميع أنحاء العالم بغية التنافس مع صادرات الصين من الطاقة النظيفة المدعومة كالبطاريات، والألواح الشمسية. إذاً، يتوجب على الولايات المتحدة زيادة صادراتها، على غرار ما يفعل منافسوها بالضبط.
لقد قدمتُ عدداً من هذه الحجج إلى تشين جانغ، السفير الصيني لدى الولايات المتحدة، في وقت سابق من هذا العام. فأخبرني أنه مستعد للحديث عن اختلال التوازن التجاري. وكذلك رغب السفير في أن تؤكد الولايات المتحدة بحزم أكبر التزامها سياسة "الصين الواحدة" التي تعترف بجمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للبلاد، وفي المقابل، لا تعترف بجمهورية الصين، ومقرها تايوان، ككيان مستقل ذات سيادة.
وبعد أن أقر بأخطار العجز التجاري، أشار السفير إلى أن حروب الأفيون بين الصين والمملكة المتحدة في القرن الـ9 نشأت من اختلال التوازن التجاري بين البلدين. ففي أوائل القرن الـ19، ظهر في المملكة المتحدة والغرب طلب قوي على السلع الصينية كالشاي والخزف والحرير. وفي المقابل، لم تهتم الصين بالسلع البريطانية، على غرار الصوف. وبالاسترجاع، دفع البريطانيون ثمن البضائع الصينية بالفضة، مما أدى إلى تدفق ملايين الجنيهات من الفضة إلى الخارج، وأضعف بالتالي الجنيه الاسترليني. ومن أجل إعادة التوازن إلى العجز التجاري، باع التجار البريطانيون الأفيون للصينيين. فارتفعت أرباح الأفيون البريطاني بشكل كبير إذ أصبح ملايين الناس مدمنين، مما تسبب في تفكك المجتمع الصيني. وفي النهاية، اضطر الإمبراطور الصيني إلى حظر وتدمير المخدرات المستوردة من بريطانيا. ونتيجة هذا التصرف اندلعت حرب الأفيون الأولى عام 1839. صحيح أن الصراع حدث في سياق حقبة من التوسع الإمبريالي الأوروبي العدواني، لكن السفير أشار إلى أن هذه الواقعة تشكل مثلاً قوياً على أن العجز التجاري قد يثير نزاعاً بين البلدان.
حاضراً، من المؤكد أن المنافسة بين القوى العظمى والتجاوزات الصينية الكامنة تؤجج التوترات بين الصين والولايات المتحدة. في المقابل، يغذي العجز التجاري العداء ويؤدي إلى تفاقم مخاوف عدد من الأميركيين الذين يسعون ببساطة وراء الأمن الاقتصادي. في الواقع، ستخفف إعادة التوازن التجاري الاستياء الأميركي من الصين المتصل بفقدان الوظائف، وتراجع التصنيع، والأضرار التي سببتها تلك التطورات الاقتصادية في النسيج الاجتماعي في البلاد، بما في ذلك أزمة المواد الأفيونية (التي تفاقمت نتيجة استيراد الفنتانيل المصنوع في الصين).
في مقلب مغاير، لن تلبي الصين الأهداف الاقتصادية الأميركية بسهولة. وسيتردد الرئيس الصيني شي جينبينغ في إعادة التوازن التجاري، بدافع القلق على أصحاب المصانع الذين لا يريدون خسارة أعمالهم. ولدى قادة "الحزب الشيوعي الصيني" المحليين أيضاً مصلحة راسخة في عدم خسارة التصنيع وحماية المصانع الكبيرة بصفتها رموزاً واضحة لاقتصاد مزدهر. ولكن على المدى الطويل، يدرك شي، أن فائض الإنتاج ليس صحياً لظهور طبقة وسطى والحفاظ عليها. إذاً، ما يدور في الصين هو صراع بين المصالح الضيقة القصيرة المدى الخاصة بأعضاء الحزب وأصحاب المصانع، ونمو الطبقة الوسطى على نحو مستدام وطويل الأجل. لطالما اعتقد شي بأن الصين يجب أن تتخلص ببطء من الاعتماد على الصادرات وتطور اقتصاداً يكون مستنداً إلى المستهلكين فيضحي محركه هو القوة الشرائية المتزايدة للطبقة الوسطى الصينية. لذا، يجب على الولايات المتحدة أن تلح بشكل علني وسري على أن إعادة التوازن التجاري ستؤدي في نهاية المطاف إلى ظهور طبقة وسطى مستقرة ومستدامة في الصين.
صنع في أميركا
بهدف أن تغدو الولايات المتحدة مصدراً أكثر التزاماً، فإنها تحتاج إلى صنع مزيد من الأشياء في الداخل. إذاً، يمكن للإدارة الأميركية أن تطلق العنان للتصنيع والإنتاج بمستوى لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية. أولاً، يجدر بها أن تنشئ "مجلس تنمية اقتصادية" جديداً، يكون خاضعاً للرئيس، من أجل الاستثمار في الصناعة وبناء شراكات معها. ستكون لذلك المجلس سلطة دراسة العجز التجاري وطلب المعلومات من الحكومة الفيدرالية والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص. يجب أن يدعو هذا المجلس الوكالات المهمة، بما في ذلك وزارات التجارة والدفاع والطاقة والداخلية والخارجية والخزانة و"مكتب الممثل التجاري الأميركي"، وممثلي القطاع الخاص، إلى تحديد الاستثمار الرأسمالي الضروري المطلوب لجعل الولايات المتحدة القوة التصنيعية المتفوقة في العالم مجدداً. ولدى صياغة استراتيجيات من أجل إعادة تنشيط أجزاء البلاد التي تشهد تراجعاً في التصنيع، يجب أن يستفيد المجلس نفسه، مثلاً، من البيانات المتراكمة التي يجمعها هانسون حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الاقتصادية المتعثرة، إذ يتطلب تنفيذ جدول أعمال واسع لإعادة التصنيع، وجود هيئة تنسيق تضمن عمل جميع الوكالات بشكل متزامن.
واستكمالاً، ينبغي على "مجلس التنمية الاقتصادية" استخدام اتفاقات التمويل والشراء الفيدرالية من أجل مساعدة الشركات في الوصول إلى رأس المال اللازم لإعادة بناء قاعدة التصنيع في البلاد. ويجب على الحكومة أن تجعل تدخلاتها المالية هادفة ودقيقة وثابتة، مع التركيز بشكل خاص على المجتمعات المتضررة من تراجع التصنيع في الغرب الأوسط والجنوب. بطريقة موازية، يتعين على الحكومة ألا تدعم الشركات برأس مال حكومي إلى أجل غير مسمى، بل أن تساعد في تسهيل توسيع نطاق [تطوير] تلك المشاريع التي اجتذبت بالفعل تمويلاً من القطاع الخاص.
وثمة دور يتوجب على الكونغرس أيضاً أن يؤديه. يجب أن يمرر حسماً ضريبياً لإقناع الشركات بإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة. وفي المقابل، يتوجب فرض ضريبة بـ10 في المئة على الشركات الأميركية التي تغلق منشآت في الولايات المتحدة وتنقل وظائف التصنيع إلى الخارج. يجب على الكونغرس أيضاً زيادة التمويل لبرنامج "شراكة التمدد الصناعي" Manufacturing Extension Partnership، وهي شراكة بين القطاعين العام والخاص توفر أشكالاً مختلفة من المساعدة الفنية للمصنعين. والجدير بالذكر أن الموازنة التي اقترحها الرئيس جو بايدن هذا العام تدعو إلى تزويد تلك الشراكة بـ125 مليون دولار إضافية، بيد أنه ينبغي توفير 10 أضعاف هذا المبلغ بغية دعم الشركات المصنعة الصغيرة والمتوسطة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وفي سياق متصل، يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى تنشيط الإنتاج في بعض الصناعات الرئيسة. عام 1970، شكل الفولاذ الأميركي 20 في المئة من الإنتاج العالمي. وحاضراً، انخفض هذا الرقم إلى أربعة في المئة فحسب. وتحتل الولايات المتحدة الآن المرتبة الـ20 بين أكبر الدول المصدرة للفولاذ في العالم، لكنها ثاني أكبر مستورد له. على النقيض من ذلك، تشكل الصين 57 في المئة من سوق الفولاذ العالمية. منذ عام 1990، انخفض عدد الأشخاص العاملين في مصانع الفولاذ الأميركية من حوالى 257 ألف عامل إلى حوالى 131 ألفاً. في الواقع، يمكن للحكومة الفيدرالية تكثيف إنتاج الفولاذ في الولايات المتحدة من خلال التمويل وكذلك عن طريق مطالبة بناة البنية التحتية الفيدرالية بشراء الفولاذ الأميركي الصنع. لا تحتاج صادرات الفولاذ الأميركية إلى الهيمنة على السوق العالمية، لكن يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في الابتكارات، على غرار صنع الجيل المقبل من الفولاذ الخفيف الوزن والفائق الصلابة الذي سيسمح للسيارات الكهربائية بالانتقال إلى مسافة أبعد بشحنة واحدة. وسبق أن بدأت المرافق الأميركية الجديدة تتخذ هذا الاتجاه بالفعل. ومثلاً، سيوفر مصنع "نوكور" Nucor لتصنيع الصفائح الفولاذية، وهو قيد الإنشاء في كنتاكي، الفولاذ السميك العالي الدقة اللازم لتصنيع الآلات المطلوبة كتوربينات الرياح.
العولمة غير المقيدة تضر بالديمقراطيات
يشكل الألمنيوم صناعة أخرى فقدت فيها الولايات المتحدة أفضليتها بشكل كبير لمصلحة الصين. ففي عام 1980، مثلت الولايات المتحدة أكبر منتج للألمنيوم في العالم، لكنها تراجعت العام الماضي إلى المرتبة التاسعة في إنتاج الألمنيوم العالمي. في المقابل، تمثل الصين 57 في المئة من إنتاج الألمنيوم العالمي. عام 2001، حازت الولايات المتحدة أكثر من 90 ألف عامل ألمنيوم، ولكن هذا العدد أصبح اليوم 56 ألفاً تقريباً. ويعتمد صهر الألمنيوم الرخيص والفاعل من حيث الكلفة على مصادر الطاقة المنخفضة الكلفة، ولهذا السبب تستخدم الصين مصانع الفحم في إنتاج الألمنيوم. يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم طاقة خضراء أنظف [من الفحم] من أجل إنتاج الألمنيوم، فتأخذ زمام المبادرة في صناعة مستقبلية أخرى، ومن خلال ذلك، إعادة عشرات آلاف الوظائف.
وتجدر الإشارة إلى أن "قانون خفض التضخم" Inflation Reduction Act و"قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم" CHIPS and Science Act اللذين أقرتهما إدارة بايدن، أعادا إحياء الصناعة من خلال استثمار مئات مليارات الدولارات في التقنيات المستقبلية الرئيسة. نتيجة لذلك، سيؤدي مجمع "إنتل" الصناعي الجديد لأشباه الموصلات الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار في أوهايو، إلى إيجاد أكثر من 10 آلاف وظيفة في الولاية. وستستثمر شركة صنع أدوات تخزين الذاكرة والبيانات "مايكرون" Micron، وهي شركة أميركية لها أيضاً ثلاثة مواقع في تايوان، 100 مليار دولار وتخلق 50 ألف وظيفة جديدة في شمال ولاية نيويورك. وكذلك ستغدو ولاية كنتاكي موطناً محتملاً لمنشأة صنع بطاريات من نوع ليثيوم أيون بقيمة 1 مليار دولار تعود لشركة "أسيند إليمنتس" Ascend Elements. صحيح أن عودة هذه الشركات إلى الولايات المتحدة باتت ممكنة جزئياً عن طريق الأتمتة، بيد أنها ستواصل إيجاد عدد من الوظائف بأجور أفضل مما هو متاح حالياً. وقد حثت الولايات المتحدة خطاها بالفعل في استعادة 350 ألف وظيفة من الخارج عام 2022. إذاً، إعادة توطين التصنيع في الولايات المتحدة أمر ممكن.
قد يجادل بعضهم بأن الاستثمارات الحكومية في الصناعة ستشجع الشركات التي تفقد الإنتاجية والقدرة التنافسية على الاعتماد على التمويل الفيدرالي كي تبقى صامدة. في المقابل، يقدم التاريخ أمثلة كثيرة مخالفة لذلك. إن شركات مثل "كرايسلر" Chrysler و"جنرال موتورز" General Motors و"لوكهيد مارتن"Lockheed Martin تلقت تمويلاً فيدرالياً كبيراً خلال الحرب العالمية الثانية وسباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكنها ظلت منتجة وحافظت على نجاحها. وعلى نحو مماثل، بيّنت الشركات المدعومة من الصناديق الفيدرالية أنها أكثر قدرة أيضاً على جلب رأس المال الخاص. ومثلاً، يبلغ الاستثمار الأولي لشركة "إنتل" في أوهايو 20 مليار دولار، لكن هذا الاستثمار يمكن أن يزيد إلى 100 مليار دولار. وسيقدم "قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم" مجرد جزء بسيط من هذا التمويل. في الواقع، سوف يعمل رأس المال الخاص على إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، يجب على الحكومة ألا تدعم سوى الشركات التي شاركت في عمليات المناقصات المفتوحة والتنافسية. وكذلك يتوجب على الحكومة أن تتأكد من أن الشركات التي تتلقى تمويلاً حكومياً نجت من مستوى معين من ضراوة السوق من أجل تجنب مواقف على غرار ما حصل في حالة "سوليندرا" Solyndra، شركة الطاقة الشمسية الناشئة الفاشلة التي حصلت على دعم الحكومة خلال إدارة أوباما. وعلى رغم أن "سوليندرا" لا تزال نقطة نقاش للجمهوريين، إلا أن إدارة أوباما تستحق مزيداً من التقدير لدعمها بنجاح شركات أخرى كشركة تصنيع المركبات الكهربائية "تيسلا" Tesla وشركة تصنيع المركبات الفضائية "سبيس أكس" Space X. وطوال الوقت، يواصل الحزب الجمهوري الدعوة إلى استثمار حكومي في الشركات عبر سياسات الحوافز الضريبية والإعانات على مستوى الدولة.
يجب ألا تكتفي الحكومة بدعم التصنيع المتقدم فحسب، بل أيضاً الجيل المقبل من وظائف الرعاية. ومثلما جادل الخبير الاقتصادي داني رودريك، يمكن للتقنيات الرقمية أن تساعد على وجه التحديد في زيادة إنتاجية الموظفين في مجال الرعاية الذي يتنامى باستمرار أخيراً. كذلك، يجب على الحكومة تقديم المنح التقنية والحوافز لتحسين رعاية الأطفال والمسنين، وفي خضم ذلك، جعل هذه الوظائف تحظى برواتب أفضل.
وقد تتمثل الوطنية الاقتصادية الجديدة في رفض صريح لرأسمالية الدولة على الطريقة الصينية. خلافاً للولايات المتحدة، لدى الصين شركات وبنوك مملوكة للدولة، وتكافئ الدولة الصينية الشركات على أساس الضرورات السياسية المحلية والمحسوبية. ولكن، لا تستطيع السوق تحديد الشركات المنتجة والناجحة حقاً، مما يضعف الشركات الصينية على المدى الطويل. إضافة إلى ذلك، لا توجد في الصين عمليات تدقيق فيدرالية أو حكومية أو محلية أو انتخابية، تطاول عمليات الهدر في الإنفاق الحكومي. ويضاف إلى ذلك بالطبع رقابة الصحافة الحرة التي تحمي النظام الأميركي. لقد سخرت هيئة تحرير صحيفة "وول ستريت جورنال" من "قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم" أسبوعاً تلو الآخر. لكن مثل هذه الانتقادات في مجتمع مفتوح تساعد في تقليل أخطار رأسمالية المحسوبية. ويمكن للقادة في الحكومة والأعمال والتعليم العمل معاً من أجل تطوير رأس المال البشري، ودعم الوظائف العالية الأجر في المجتمعات التي ستولد نمواً ديناميكياً، مما يسهم في بناء رأسمالية تقدمية في القرن الـ21.
العناصر الأرضية النادرة
بينما تعيد الولايات المتحدة إحياء الصناعات التقليدية، فإنها تحتاج أيضاً إلى التركيز على الحصول على المواد والمكونات الضرورية لصناعات المستقبل. تستحوذ الصين حاضراً على 76 في المئة من قدرة إنتاج بطاريات الليثيوم في العالم و60 في المئة من المعادن الأرضية النادرة اللازمة لبناء السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والطاقة الشمسية. في المقابل، تستأثر الولايات المتحدة بـ8 في المئة من إنتاج بطاريات الليثيوم في العالم و15.5 في المئة من المعادن الأرضية النادرة.
في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، أدركت إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت، مدى تلك الضرورة. ووفق ما أشار إليه الخبير الاقتصادي في جامعة كورنيل روبرت هوكيت، فمن أجل تجنب الاعتماد على الخصوم للحصول على المنتجات الرئيسة، اشترت إدارة روزفلت بشكل استباقي المنتجات والموارد الطبيعية الأميركية، ووظفت استثمارات كبيرة في الطاقة الإنتاجية المحلية، قبل بدء الصراع [الحرب العالمية الثانية]. في الواقع، إن نجاح جهود الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، اعتمد جزئياً على هذا النهج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تفوق البلاد صناعياً خلال العقود التي تلت ذلك.
تحتاج الولايات المتحدة اليوم إلى خطة للحصول على مواد الليثيوم والكوبالت والغرافيت اللازمة لبناء مستقبل الطاقة الخضراء في الوطن. وفي ذلك الإطار، تعمل شركة البطاريات "نوفونيكس" Novonix، المستفيدة من قانون الحد من التضخم، على رسم مسار جديد عبر فتح مصنع في تشاتانوغا ينتج الغرافيت الاصطناعي. وبالاستعانة بالعمليات والأساليب الجديدة، من الممكن أن تكون معالجة هذا الغرافيت أقل تلويثاً من الغرافيت الطبيعي. لذا، يجب على الحكومة أن تتحرك بسرعة لدعم جهود مماثلة.
يمكن للحكومة أيضاً استخدام "مخزون الدفاع الوطني" National Defense Stockpile الذي يخزن العناصر الأرضية النادرة في حال تعطل سلاسل التوريد الأميركية. على مدى الأعوام الـ70 الماضية، انخفضت قيمة هذا المخزون من 42 مليار دولار (وهي قيمة معدلة بحسب التضخم) عام 1952 إلى 888 مليون دولار عام 2021. يتعين على الكونغرس في الأقل مضاعفة قيمة المخزون وشراء العناصر الأرضية النادرة المحلية.
واستطراداً، يتمثل الأمر الأكثر إلحاحاً في أنه على المسؤولين الأميركيين تحديد أنظمة الدفاع التي تعتمد على المنتجات الصينية الصنع، إذ تعتمد الولايات المتحدة على الصين في مجموعة متنوعة من المواد الأساسية، بما في ذلك مادة "أنتيموني" المستخدمة في نظارات الرؤية الليلية والأسلحة النووية. إذاً، يجب أن يطلب الكونغرس من وزارة الدفاع تحديد بلد المنشأ في محتويات جميع المعدات الدفاعية، والعثور على مصادر بديلة في حال وقوع مشكلات واضطرابات في المستقبل.
وربما يعتبر المنتج المطور في الخارج الأكثر أهمية للحياة الحديثة هو الهاتف الذكي. تسلط سلسلة توريد الهواتف المحمولة الضوء على الصعوبات المتضمنة في ضرورة جعل الولايات المتحدة أقل اعتماداً على الصين التي يجري فيها تجميع معظم الهواتف الذكية وتركيبها. ومثلاً، وفق أحدث البيانات المتاحة، فإن 25 في المئة من سلسلة قيمة هاتف "أبل آيفون" Apple iPhone تمر عبر الصين. وتحتوي أكثر من 80 في المئة من الهواتف المحمولة التي تستوردها الولايات المتحدة، على مكون صناعي ينتج في الصين.
لذا، يجب على واشنطن أن تشجع الشركات على نقل إنتاج المكونات القيمة، على غرار شاشات العرض ورقاقات أشباه الموصلات والبطاريات وأجهزة الاستشعار وألواح الدوائر الكهربائية، إلى الولايات المتحدة أو إلى الدول الحليفة. كذلك تحتاج أيضاً إلى دفع الدول الصديقة كأستراليا والهند واليابان إلى زيادة إنتاجها من المكونات الإلكترونية الخاصة بالهواتف. ومع المزيج الصحيح من الإجراءات في الولايات المتحدة وتلك البلدان الصديقة، فإن نسبة الهواتف المجمعة في الصين التي تستوردها الولايات المتحدة قد تنخفض إلى النصف في غضون خمس سنوات.
وتجدر الإشارة إلى أن عودة الولايات المتحدة إلى التصنيع ينبغي ألا تحدث على حساب بقية العالم. بالتالي، يجب على الولايات المتحدة و"مجموعة الدول السبع" أن تقدم بديلاً ينافس "مبادرة الحزام والطريق" Belt and Road Initiative الصينية الضخمة التي تمول البنية التحتية خارج الصين. ومن أجل النهوض بذلك، يتعين على واشنطن معرفة ما تحتاج الدول النامية إليه وما الذي تريده، واحترام حقها في تقرير المصير، ورسم خريطة المستقبل الإنمائية التي تخدم شعوب هذه البلدان على أفضل وجه، عوضاً عن إنشاء دول مثقلة بالديون مثلما فعلت السياسات الصينية. كذلك، يجب على واشنطن أن تشارك المعرفة التكنولوجية مع البلدان الصديقة المنخفضة الدخل، كي تتمكن الأخيرة من تطوير صناعاتها الحديثة الخاصة. في الواقع، لا يمكن أن تعود جميع أجزاء سلاسل التوريد إلى الولايات المتحدة، لذلك لا بد من أن يساعد الأميركيون شركاءهم في الوصول إلى المواد اللازمة وتطوير القدرة على الإنتاج من أجل بناء السلع التي لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إلى استيرادها.
عولمة متجذرة
ستكون تداعيات إعادة إحياء الصناعة الأميركية هائلة. لقد فشلت العولمة غير المقيدة في مساعدة الديمقراطيات في الازدهار، بل إنها في الواقع عززت انحدارها. وفي الأعوام الـ20 الماضية، في ظل تنامي العولمة، شهدت الديمقراطيات تراجعاً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. في أوروبا والولايات المتحدة، ازداد الاستقطاب والقومية اليمينية المتطرفة، وأثار عدد من الشخصيات السياسية مخاوف من المهاجرين في أعقاب فقدان الوظائف في مجال الصناعة. في جميع أنحاء العالم، أعطت البلدان ذات الدخل المرتفع الأولوية لأرباح الشركات المتعددة الجنسيات عوضاً عن الصحة المدنية المجتمعية وحياة مواطنيها.
عام 1996، حينما انتشرت قوى تحرير الأسواق إلى حد كبير في جميع أنحاء العالم من دون عوائق، رسم الباحث القانوني ريتشارد فولك حدود العولمة، وحذر من تبني "الكوزموبوليتانية بديلاً عن الوطنية القومية من دون معالجة التحدي المدمر المتمثل في الأممية التي تحركها اعتبارات السوق". بعد 20 عاماً، أخفقت الصين لفترة طويلة في الوفاء بوعودها في "منظمة التجارة العالمية". ووصل ترمب الذي وصف اتفاق "نافتا" بأنه "أسوأ صفقة تجارية في التاريخ"، إلى سدة الرئاسة. في المملكة المتحدة، انخفضت نسبة العمال الصناعيين من نصف القوة العاملة تقريباً عام 1957 إلى 15 في المئة عام 2016. وسمح هذا التوجه لليمين المتطرف في المملكة المتحدة باستغلال الخوف من المهاجرين واستخدامه كسلاح، وإحداث شرخ ثقافي بين الشمال الذي تراجعت فيه الصناعة، وجنوب إنجلترا الأكثر ازدهاراً، والفوز في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بطريقة موازية، صارت قدرة الإنتاج المحلي لفرنسا المجاورة أقل بنسبة 20 في المئة عما كانته قبل 20 عاماً. ولا تنفصل تلك المعطيات عن صعود نجم مارين لوبن، الزعيمة اليمينية المتطرفة التي تذم المهاجرين والمسلمين الفرنسيين وتناشد عدداً كبيراً من ناخبي الطبقة العاملة المحبطين بقولها، "لم يعد بإمكاننا قبول هذا التراجع الهائل في التصنيع".
وعلى نحو مشابه، شهدت الولايات المتحدة نصيبها من ردود الفعل المعادية للأجانب. في المقابل، استمر تنوعها الغني في تقديم نموذج إلى العالم، خصوصاً بالمقارنة مع الصين، التي تسعى إلى قمع تنوعها السياسي والثقافي والعرقي والديني. وفي ذلك السياق، وفق ما يصر عليه الباحث ريتشارد فولك، ليس جيداً أن نشيد بالتنوع بينما نسمح بتدمير المجتمعات على يد قوى رأس المال العالمي. يجب على قادة الولايات المتحدة تنشيط المجتمعات في جميع أنحاء البلاد من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وإعادة التوازن التجاري. والجدير بالذكر أن الرخاء المشترك سيسمح لكل أميركي بالإسهام في ثقافة وطنية شاملة مبنية على مزيج انتقائي من التقاليد. واستكمالاً، ينبغي ألا تنحرف هذه الوطنية عن مسارها وتصبح قومية متأججة وعدائية. ففي حين أن الوطنية تعكس الفخر بالمجتمع والمكان، تعمل القومية على تحويل الكبرياء إلى شوفينية وتسعى إلى جعل المجتمع منعزلاً وحصرياً.
حتى لو أعادت الولايات المتحدة توازن تجارتها، فستظل الصين منافسة لها. وستحتاج واشنطن إلى استراتيجية أمنية وطنية شاملة من أجل ردع غزو تايوان. لكن ينبغي ألا تلجأ الولايات المتحدة إلى "مكارثية الحرب الباردة" ضد الصين أو أي شعب أو دولة أخرى، بل يجب حتى أن تعمل مع الصين من أجل منع تفاقم المنافسة وتحولها إلى حرب. بالتالي، يتعين على البلدين التعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل تغير المناخ والأمن الغذائي العالمي والحد من التسلح.
استكمالاً، تدعو الوطنية الاقتصادية الجديدة إلى عولمة متجذرة في مصالح الأميركيين العاديين، وليس النسخة غير المقيدة التي مزقت النسيج الاقتصادي والاجتماعي الأميركي على مدى العقود الأربعة الماضية، إذ ستساعد [العولمة المتجذرة محلياً] في إعادة التوازن التجاري عبر الإنتاج المحلي، مما سيعمل على تخفيف التوترات مع الصين، وتحقيق الوعد بديمقراطية مزدهرة في الداخل، وضمان أن العولمة تنفع جميع الأميركيين، وليس حفنة منهم دون سواهم.