هل انتهينا من قضية تفكيك العولمة؟
بروجيكت سنديكيت
2022-12-05 06:04
بقلم: مايكل سبنس
هونج كونج ــ كان نوفمبر/تشرين الثاني شهرا غير عادي. فقد اجتمع قادة العالم في أربعة ملتقيات كبرى: اجتماع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في كمبوديا، وقمة مجموعة العشرين في إندونيسيا، ومنتدى التعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في تايلاند، ومؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (مؤتمر الأطراف 27) في مِـصر. اللافت للنظر لم يكن توقيت الاجتماعات، بل الدليل الذي قدمته على أن الـمَـد ربما يتحول الآن بعيدا عن المواجهة ونحو تعاون متجدد على الساحة الدولية.
في السنوات الأخيرة، بدا الاقتصاد العالمي وكأنه ينجرف بعيدا عن المشاركة التعددية والتعاون، ونحو المنافسة التي تتغذى على النزعة القومي. حاولت بعض الاقتصادات ــ وخاصة الاقتصادات الناشئة ــ مقاومة هذا الاتجاه، من خلال رفض دعم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على سبيل المثال. لكن مثل هذه الجهود بدت وكأنها ضئيلة التأثير.
كما لاحظ العديد من المراقبين، سيكون من المستحيل عمليا عكس مسار العولمة. وفقا لبحث أجراه معهد ماكينزي العالمي، لا توجد منطقة واحدة، ناهيك عن دولة منفردة، قريبة من تحقيق الاكتفاء الذاتي. لكن هذا لم يمنع بعض البلدان والقادة ــ وخاصة الولايات المتحدة ــ من السعي وراء هذه الغاية. وحتى تفكيك العولمة الجزئي الذي أحدثوه سيكون له عواقب بعيدة المدى، بعضها ــ مثل زيادة التضخم وارتفاع مخاطر الديون ــ بات واضحا بالفعل.
في الآونة الأخيرة، أدى الضرر المتنامي الناجم عن التحول نحو تفكيك العولمة إلى تضخيم مقاومة التفتت الاقتصادي والاستقطاب. وتُـعَـد أوروبا مثالا على ذلك. لقد أفضى غزو روسيا لأوكرانيا إلى تعزيز التحالف عبر الأطلسي، وخاصة بسبب التقارب الأميركي الأوروبي بشأن العقوبات ضد روسيا. لكن قادة أوروبا بدأوا يعربون عن عدم ارتياحهم إزاء النهج الأميركي في التعامل مع الصين، والذي كما أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهدد بتقسيم العالم إلى كتل متنافسة.
تنبع المخاوف في المقام الأول من الجهود الحثيثة لعرقلة التطور التكنولوجي الصيني. بينما يعترض قليلون على الاستثمار الأميركي المتزايد في تكنولوجيات رئيسية أو السعي إلى إعادة التصنيع إلى الداخل بعض الشيء، يخشى كثيرين أن تمثل القيود الجديدة الشاملة على الصادرات من التكنولوجيا المتقدمة، والبرمجيات، والمعدات إلى الصين تحولا من منافسة استراتيجية بـنّـاءة في عموم الأمر إلى نهج محصلته صِـفر.
بدافع من هذه المخاوف، أوضح ماكرون الحاجة إلى موقف أوروبي واضح يختلف عن موقف الولايات المتحدة. كما يسعى رئيس الوزراء الهولندي مارك روت ــ الذي تُـعَـد بلده موطنا للغة برمجة آلات الحالة المجردة (ASML)، الـمُـصَـنِّع الوحيد لآلات الطباعة الحجرية فوق البنفسجية اللازمة لصناعة أشباه الموصلات الأكثر تقدما ــ إلى التأكيد على الاستقلال عن الولايات المتحدة في هذا المجال. أما المستشار الألماني أولاف شولتز فقد قام بزيارة إلى الصين هذا الشهر سعيا وراء إيجاد مسار وسط.
من جانبها، دافعت الاقتصادات الناشئة بقوة عن الترابط العالمي المتبادل في الاجتماعات الدولية الكبرى التي شهدها هذا الشهر. فهي تدرك أن الاقتصاد العالمي المنقسم الذي تشكل في الأساس بفعل المنافسة بين القوى العظمى ضار للغاية بمصالحها، خاصة وأنه سيجعل تحول الطاقة العالمي المطلوب بشدة أبعد منالا. وكما شرح راغورام راجان من جامعة شيكاغو مؤخرا، فإن حالة التفتت الاقتصادي والشكوك المتبادلة كفيلة بعرقلة التعاون المناخي الفَـعّـال بشدة.
والاقتصادات الناشئة ليست وحدها. إذ تشير منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية إلى أن الحفاظ على الانفتاح في التجارة، والتمويل، والتدفقات التكنولوجية يشكل ضرورة أساسية لدعم التعافي الاقتصادي العالمي. بالفعل، يواجه هذا التعافي رياحا معاكسة قوية بسبب التضخم، والصدمات المرتبطة بالحرب، وتغير المناخ، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، والشيخوخة السكانية، والمشكلات المرتبطة بالمعروض من العمالة، وتراجع الإنتاجية، وارتفاع نسب الديون، وجيوب عدم الاستقرار المالي.
سوف يؤدي التفتت المتزايد إلى تفاقم التحديات التي تنتظرنا في المستقبل، من خلال إعاقة عمليات اللاعبين الرئيسيين مثل الشركات المتعددة الجنسيات، على سبيل المثال، والتي ستناضل في التعامل مع القواعد والمعايير غير المتسقة أو المتضاربة، بل وحتى الالتزامات القانونية المتزايدة الشدة، عبر الاقتصادات. وسوف يُـفضي التعقيد المتزايد وارتفاع تكاليف العمليات إلى إضعاف الحافز الذي يدفع الشركات إلى الاستثمار. ولأن الشركات المتعددة الجنسيات تضطلع بدور حاسم في نشر التكنولوجيا، فمن الممكن توقع التأثيرات الضارة التي سيخلفها ذلك على الإنتاجية العالمية والنمو.
إن الإدراك المتزايد لهذه المخاطر أمر بالغ الأهمية. بيد أن محركي الاقتصاد العالمي الرئيسيين ــ الولايات المتحدة والصين ــ هما اللذان سيحددان ما إذا كان المسار الحالي ليتغير. ما يدعو إلى التفاؤل أن هناك سببا للأمل هنا أيضا.
الواقع أن الرئيس الصيني شي جين بينج ــ الذي يدرك تمام الإدراك أن "المعجزة الاقتصادية" التي حققها بلده ما كانت لتتحقق بدون العولمة ــ دعا مرارا وتكرارا إلى الانفتاح والشمولية. ولكن يتعين عليه أن يدرك أن هذه الدعوات تفتقر إلى المصداقية عندما تقترن بإظهار التضامن مع دول مثل روسيا، التي تحرض أفعالها وخطابها على الفُـرقة والانقسام.
أما عن الولايات المتحدة، فيبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن تدرك على نحو متزايد أن التعاون مع الجميع تقريبا باستثناء الصين ليس خيارا واردا. برغم أن التراجع عن القيود التجارية بشكل كامل ليس احتمالا مرجحا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالسلع التكنولوجية الحساسة التي تنطوي على عواقب تتعلق بالأمن الوطني أو عواقب اقتصادية استراتيجية، فقد أوحى الاجتماع الأخير بين بايدن وشي بأن الجانبين على استعداد للانخراط في حوار أكثر إيجابية بشأن القضايا الحرجة. كما كرر بايدن دعمه لسياسة "الصين الواحدة"، مشيرا إلى استمرار القبول الضمني لما يسمى "الخط الأحمر" الدبلوماسي الصيني في ما يتعلق بتايوان.
ذات يوم، من المحتمل أن نتذكر نوفمبر/تشرين الثاني 2022 على أنه نقطة تحول في ملحمة تفكيك العولمة. لكن العوائق التي تحول دون المشاركة الدولية البَـنّـاءة تظل مُـرهِـقة. بادئ ذي بدء، من غير الممكن أن يعوض الإعراب عن الدعم لتحقيق توازن أفضل بين التعاون والمنافسة عن الافتقار إلى الثقة. وما لم تتمكن الولايات المتحدة والصين من إيجاد الطرق لبناء الثقة وحسن النوايا، فسوف تظل الترتيبات التعاونية قائمة على أسس متزعزعة.
ثانيا، يظل القادة ملتزمين ببناء المرونة الاقتصادية من خلال تنويع سلاسل التوريد التي تفضل الشركاء التجاريين من أصحاب الفِـكر المتماثل الذين يمكن التعويل عليهم، والسماح لاعتبارات الأمن الوطني بتشكيل السياسة الاقتصادية. إن هذا الواقع الاقتصادي الجديد يتطلب تطوير وسيلة لتكرار جديد أكثر تعقيدا للتعددية.
أخيرا، لكي تنجح هذه التعددية الجديدة، يتعين على المنظمات الدولية أن تكون أكثر قوة، من خلال إصلاحات الحوكمة وزيادة رأس المال. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن البلدان سيكون من الواجب عليها الالتزام باحترام سلطة هذه المنظمات ــ وليس فقط عندما يكون ذلك مناسبا.
لقد فتحت آفاق الاقتصاد العالمي المخيفة والمتدهورة، جنبا إلى جنب مع حجم التحدي المناخي، أعين القادة على المخاطر التي يفرضها تفكيك العولمة. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كان هذا الإدراك ليتبعه اتخاذ التدابير اللازمة لتغيير المسار.