حقبة جديدة للنقود
صندوق النقد الدولي
2022-10-06 08:55
بقلم: إسوار براساد
مع إحلال وحدات البايت الإلكترونية محل الدولار واليورو واليوان، فإن بعض التغييرات - دون سواها - ستكون محل ترحيب.
النقود أحدثت تحولات جذرية في المجتمع الإنساني، إذ فتحت المجال أمام التجارة وكافة الأنشطة التجارية حتى فيما بين المواقع الجغرافية المتباعدة كل البعد. فهي تتيح انتقال الثروات والموارد عبر مختلف المناطق والأزمنة. ولكنها ظلت طوال الجانب الأكبر من تاريخ البشرية مثار الجشع والسلب.
وباتت النقود في وقتنا الراهن على شفا تحول يمكنه إعادة تشكيل الأنشطة المصرفية والمالية وربما بنيان المجتمع كذلك. والأهم من ذلك، أن حقبة العملة المادية، أو النقد، تقترب من نهايتها، حتى في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل؛ وبدأ عصر العملات الرقمية. وتلوح في الأفق كذلك جولة جديدة من المنافسة بين العملات الرسمية والخاصة في المحافل المحلية والدولية على السواء. فانتشار التكنولوجيا الرقمية التي تعطي هذا التحول قوته الدافعة يمكنها أن تشجع خلق الابتكارات النافعة وتوسع فرص الحصول على الخدمات المالية الأساسية. ولكن هناك احتمالا أن تتسبب التطورات التكنولوجية في تكثيف تركز القوة الاقتصادية وتسمح للشركات الكبيرة والحكومات بالتدخل أكثر في حياتنا المالية والخاصة.
وتواجه المؤسسات المالية التقليدية، لا سيما البنوك التجارية، تحديات بشأن نماذج عملها في ظل ما ينشأ عن التطورات التكنولوجية من ظهور البنوك الإلكترونية التي يمكنها الوصول إلى عدد أكبر من العملاء وظهور المنصات الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت، مثل بنك "بروسبر" Prosper، التي يمكنها إيصال المدخرين بالمقترضين مباشرة. وتعمل هذه المؤسسات والمنصات الإلكترونية الجديدة على زيادة التنافس، وتشجيع الابتكار، وتخفيض التكاليف. وسوف تتاح للمدخرين فرصة للنفاذ إلى مجموعة أكبر من منتجات الادخار والائتمان والتأمين، بينما يتمكن صغار رواد الأعمال من تأمين احتياجاتهم التمويلية من مصادر أخرى بخلاف البنوك التي غالبا ما تكون لديها شروط صارمة لضمان القروض وللضمانات الإضافية. وتصبح المدفوعات المحلية والدولية أرخص وأسرع، مما يعود بالنفع على المستهلكين ومشروعات الأعمال.
شواغل الاستقرار
كان ظهور العملات المشفرة مثل البيتكوين ينطوي في بادئ الأمر على احتمالات إحداث ثورة في المدفوعات. فالعملات المشفرة لا تعتمد في إجراء المعاملات على أموال البنوك المركزية أو جهات الوساطة الموثوقة كالبنوك التجارية وشركات بطاقات الائتمان، وهو ما يحد من أوجه عدم الكفاءة والتكاليف المضافة المتضمنة في هذه الجهات الوسيطة. غير أن أسعار العملات المشفرة المتقلبة، والقيود على أحجام معاملاتها، والوقت الذي تستغرقه المعاملات، جعلتها غير فعالة كوسائط للتبادل. وهناك أشكال جديدة من العملات الرقمية تعرف باسم العملات الرقمية المستقرة (stablecoins) اكتسبت فعالية أكبر كوسيلة دفع، وإن كان من المفارقات العجيبة أن معظمها يحصل على قيمته المستقرة من كونه مدعوما بكميات كبيرة من أموال البنوك المركزية والسندات الحكومية. وتقوم تقنية "بلوك تشين" التي ترتكز عليها هذه العملات بتحفيز تغييرات بعيدة المدى في النقود والتمويل من شأنها التأثير بقوة على الأسر، والشركات، والمستثمرين، والبنوك المركزية، والحكومات. ومن شأن هذه التقنية، من خلال إتاحتها الملكية الآمنة لأشياء رقمية بحتة، أن تشجع ظهور أصول رقمية جديدة، مثل الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).
وفي الوقت نفسه، ينتاب البنوك المركزية القلق إزاء الانعكاسات على الاستقرار المالي والاقتصادي إذا ما حلت نظم الدفع اللامركزية (تفريعات البيتكوين) أو العملات المستقرة الخاصة محل النقد ونظم الدفع التقليدية التي تديرها مؤسسات مالية خاضعة للتنظيم. فالبنية التحتية لنظام دفع خاضع تماما للقطاع الخاص ربما تكون فعالة ومنخفضة التكلفة، ولكن قد تتوقف بعض أجزائها عن العمل في حالة فقدان الثقة أثناء فترات الاضطرابات المالية. وبدون نظام دفع يعمل بكفاءة سينتهي الأمر بأي اقتصاد متطور إلى التوقف المفاجئ.
واستجابة لمثل هذه الشواغل، تنظر البنوك المركزية حاليا في إصدار أشكال رقمية من نقود البنوك المركزية لاستخدامها في مدفوعات التجزئة - أي عملات البنوك المركزية الرقمية (CBDCs). وتتراوح دوافع البنوك المركزية في ذلك بين توسيع الشمول المالي (بإتاحة الفرصة حتى لأولئك الذين ليست لديهم حسابات مصرفية للاستفادة من نظام دفع رقمي مجاني) ورفع كفاءة نظم الدفع وتعزيز استقرارها عن طريق خلق خيار دفع عام كوسيلة مساندة (وهو الدور الذي يقوم به النقد في الوقت الحالي).
ولكن عملة البنك المركزي الرقمية لها مزايا محتملة أخرى. فهي ستعوق الأنشطة غير المشروعة مثل صفقات المخدرات، وعمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تعتمد على معاملات النقد مجهولة الهوية. وسوف تشجع مزيدا من الأنشطة الاقتصادية على الخروج من اقتصاد الظل والدخول في الاقتصاد الرسمي، مما يزيد من صعوبة التهرب الضريبي. وسوف تفيد مشروعات الأعمال الصغيرة من انخفاض تكاليف المعاملات وتتجنب متاعب ومخاطر التعامل بالنقد.
مخاطر موجات السحب الجماعي
ولكن عملة البنوك المركزية الرقمية لها أيضا مساوئها. ومنها أنها تشكل مخاطر على النظام المصرفي. فالبنوك التجارية تقوم بدور حيوي في إنشاء وتوزيع الائتمان الذي يكفل استمرار عمل الاقتصادات بسلاسة. ولكن ماذا سيحدث لو قامت الأسر بنقل أموالها من الحسابات المصرفية المعتادة إلى المحافظ الرقمية لدى البنوك المركزية، اعتقادا بأنها أكثر أمانا حتى وإن كانت لا تدفع أي فائدة؟ فإذا حُرمت البنوك التجارية من الودائع، قد يجد البنك المركزي نفسه في وضع لا رغبة له فيه يجعله مضطرا للاضطلاع بأعمال توزيع الائتمان، فيقرر أي القطاعات والشركات التي تستحق القروض. وبالإضافة إلى ذلك، من شأن تولي البنك المركزي تشغيل نظام لمدفوعات التجزئة أن يقضي على ابتكارات القطاع الخاص التي تهدف إلى جعل المدفوعات الرقمية أرخص وأسرع.
ومن الشواغل الأخرى التي تتسم بنفس القدر من الأهمية احتمال فقدان الخصوصية. فحتى مع وسائل الحماية الموضوعة لضمان السرية، سوف يرغب أي بنك مركزي في الاحتفاظ بسجل للمعاملات يمكن التحقق من صحة فحواه لضمان استخدام عملته الرقمية في الأغراض المشروعة فقط. ومن ثم تفرض عملة البنك المركزي الرقمية مخاطر القضاء في آخر المطاف على بقايا سمات حجب الهوية والخصوصية في المعاملات التجارية. غير أنه من شأن عملة البنك المركزي الرقمية المصممة بعناية، مستفيدة من الابتكارات التقنية سريعة التطور، التخفيف من حدة الكثير من تلك المخاطر. ورغم ذلك، ومع كل ما تتمتع به مزايا، لا ينبغي التهاون في التعامل مع توقعات إحلال عملة البنك المركزي الرقمية محل النقد في نهاية المطاف.
ومن شأن التكنولوجيات الجديدة أن تزيد من صعوبة اضطلاع البنك المركزي بمهامه الرئيسية - أي الحفاظ على معدلات البطالة والتضخم منخفضة عن طريق التحكم في أسعار الفائدة. فعندما يقوم بنك مركزي مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتغيير سعر الفائدة الرئيسي، فإنه يؤثر على أسعار الفائدة على ودائع وقروض البنوك التجارية على نحو مفهوم بالقدر المعقول. ولكن إذا أدى انتشار منصات الإقراض الرقمي إلى تقليص دور البنوك التجارية في الوساطة بين المدخرين والمقترضين، لا ندري إن كان بوسع هذه الآلية لنقل آثار السياسة النقدية الاستمرار في العمل أو كيفية حدوث ذلك.
تنافس العملات
أصبحت الوظائف الأساسية للنقود التي تصدرها البنوك المركزية على أعتاب تغيير وشيك. فمنذ فترة قريبة لا تتجاوز قرن من الزمن، دخلت العملات الخاصة في منافسة مع بعضها البعض ومع العملات التي تصدرها الحكومات، المعروفة أيضا باسم نقود الثقة. وكان ظهور البنوك المركزية قد حول كفة الميزان بقوة لصالح عملة الإبراء القانوني أو نقود الثقة، التي تعمل كوحدة حساب وواسطة للتبادل ومستودع للقيمة. ومع ظهور الأشكال المختلفة من العملات الرقمية، والتكنولوجيا التي ترتكز عليها، أصبح في الإمكان الفصل بين وظائف النقود ونشأت منافسة مباشرة مع عملات الإبراء القانوني في بعض الجوانب.
ومن المرجح احتفاظ عملات البنوك المركزية بأهميتها كمستودعات للقيمة، بالنسبة للبلدان التي تصدرها في صيغة رقمية، وكذلك كوسائط للتبادل. ومع ذلك، من المرجح أن تزداد أهمية نظم الدفع ذات الوساطة الخاصة، مما يكثف المنافسة بين مختلف أشكال النقود الخاصة ونقود البنوك المركزية فيما يتعلق بدورها كوسائط للتبادل. إذا تركنا قوى السوق لتعمل من تلقاء نفسها، فمن الممكن أن تهيمن على الساحة بعض جهات إصدار النقود وجهات توفير تكنولوجيات الدفع. وقد تؤثر بعض هذه التغييرات في طبيعة النقود بحد ذاتها - كيفية تكوينها، وأشكالها، ودورها في الاقتصاد.
،، إذا تركنا قوى السوق لتعمل من تلقاء نفسها، فمن الممكن أن تهيمن على الساحة بعض جهات إصدار النقود وجهات توفير تكنولوجيات الدفع ،،
تدفقات الأموال الدولية
سوف تسهم أشكال النقود المبتكرة والقنوات الجديدة لنقل الأموال بين الاقتصادات وداخل كل منها في إعادة تشكيل تدفقات رؤوس الأموال الدولية، وأسعار الصرف، وهيكل النظام النقدي الدولي. وبعض هذه التغييرات سيكون لها منافع كبيرة، بينما سيفرض غيرها تحديات جديدة.
فالمعاملات المالية الدولية سوف تصبح أسرع وأرخص وسوف تتسم بدرجة أعلى من الشفافية. وسوف تكون هذه التغييرات نعمة للمستثمرين الذين يسعون لتنويع محافظ استثماراتهم، والشركات التي تسعى إلى تعبئة الأموال في أسواق رأس المال العالمية، والمهاجرين الاقتصاديين الذين يرسلون المال إلى موطنهم الأصلي. وسوف تسهم المدفوعات الأسرع والأرخص عبر الحدود في تعزيز التجارة أيضا، مما سيعود بالنفع بوجه خاص على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تعتمد على إيرادات الصادرات في جانب كبير من إجمالي ناتجها المحلي.
غير أن ظهور كيانات جديدة لمعاملات تدفقات الأموال عبر الحدود لن تيسر التجارة الدولية فحسب بل ستيسر التدفقات غير المشروعة أيضا، مما يخلق تحديات جديدة أمام الأجهزة التنظيمية والحكومات. وسوف تزيد من الصعوبات التي تواجه الحكومات في السيطرة على تدفقات رؤوس أموال الاستثمارات المشروعة عبر الحدود. وهذا يفرض تحديات بعينها على اقتصادات الأسواق الصاعدة، التي عانت من أزمات اقتصادية دورية نتيجة خروج تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية فجأة وبكميات كبيرة. وسوف تكون هذه الاقتصادات أكثر عرضة لمخاطر الإجراءات على مستوى السياسة النقدية التي تتخذها كبرى البنوك المركزية في العالم، والتي يمكن أن تؤدي لتلك التدفقات الرأسمالية الخارجة.
،، قوة نقود البنوك المركزية الرقمية ومصداقيتها ليستا إلا بقدر قوة المؤسسة التي تصدرها ودرجة مصداقيتها ،،
ولن يكون ظهور عملات البنوك المركزية الرقمية ولا تخفيض الحواجز أمام التدفقات المالية الدولية قادرين وحدهما على تحقيق تقدم كبير نحو إعادة ترتيب النظام النقدي الدولي أو توازن القوى بين العملات الرئيسية. فتكلفة المعاملات المباشرة بين أي زوجين من عملات الأسواق الصاعدة تتناقص، مما يقلل من الحاجة إلى "عملات وسيطة" كالدولار واليورو. ولكن عملات الاحتياطي الرئيسية، وخاصة الدولار، سوف تحتفظ على الأرجح بهيمنتها كمستودعات للقيمة لأن هذه الهيمنة لا ترتكز فقط على الحجم الاقتصادي للبلد القائم بإصدارها وعمق سوقه المالية، بل ترتكز كذلك على قوة الأساس المؤسسي الضروري للحفاظ على ثقة المستثمرين. ولا يمكن أن تكون التكنولوجيا بديلا للبنك المركزي المستقل وسيادة القانون.
وعلى غرار ذلك، لن تتمكن عملات البنوك المركزية الرقمية من إيجاد حل لمواطن الضعف الأساسية في مصداقية البنك المركزي أو غير ذلك من المشكلات، مثل سياسات المالية العامة غير المنضبطة التي تنتهجها الحكومة، وتؤثر على قيمة العملة الوطنية. وعندما تعاني الحكومة من عجز كبير في الموازنة، فإن فرضية تلقي البنك المركزي توجيهات بإصدار المزيد من النقود لتمويل هذا العجز تؤدي غالبا إلى ارتفاع التضخم وتخفيض القوة الشرائية لنقود البنك المركزي، سواء كانت مادية أو رقمية. وبعبارة أخرى، فإن قوة نقود البنوك المركزية الرقمية ومصداقيتها ليستا إلا بقدر قوة المؤسسة التي تصدرها ودرجة مصداقيتها.
دور الحكومة
تواجه البنوك المركزية والحكومات حول العالم في السنوات المقبلة تحدي اتخاذ قرارات مهمة بشأن ما إذا كان عليها مقاومة التكنولوجيا المالية الجديدة، أو القبول السلبي بالابتكارات التي يقودها القطاع الخاص، أو الرضا بمكاسب الكفاءة المحتملة التي تطرحها التكنولوجيا الجديدة. فمع ظهور العملات المشفرة والتوقعات المتعلقة بعملات البنوك المركزية الرقمية، نشأت تساؤلات مهمة حول الدور الذي ينبغي أن تقوم به الحكومة في الأسواق المالية، أي ما إذا كانت تقحم نفسها في المجالات التي يفضل تركها للقطاع الخاص، وما إذا كان بوسعها التعويض عن إخفاقات الأسواق، لا سيما العدد الكبير من الأسر التي لا تتعامل بالقدر الكافي مع النظام المصرفي أو لا تتعامل معه مطلقا في الاقتصادات النامية وحتى في الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة.
وكما يتضح من دورات الانتعاش والركود الأخيرة في العملات المشفرة، فإن تنظيم هذا القطاع سيكون ضروريا للمحافظة على سلامة نظم الدفع والأسواق المالية، وضمان توافر الحماية الكافية للمستثمرين، وتشجيع الاستقرار المالي. ومع ذلك، نظرا للطلب الكبير على خدمات الدفع ذات الكفاءة العالية على مستويات التجزئة والجملة وعبر الحدود، فإن الابتكارات المالية بقيادة القطاع الخاص قد تحقق منافع كبيرة للأسر والشركات. وفي هذا الصدد، فإن التحدي الرئيسي أمام البنوك المركزية والأجهزة التنظيمية المالية يتمثل في تحقيق التوازن بين الابتكار المالي والحاجة إلى تخفيف حدة المخاطر على المستثمرين غير المطلعين وعلى الاستقرار المالي الكلي.
والتكنولوجيا المالية الجديدة تبشر بتيسير فرص الحصول على مجموعة متنوعة من المنتجات والخدمات المالية حتى بالنسبة للأسر المعوزة، ومن ثم تحقيق ديمقراطية التمويل. غير أن الابتكارات التكنولوجية في التمويل، حتى الابتكارات التي قد تفسح المجال أمام الوساطة المالية عالية الكفاءة، قد تكون لها انعكاسات متعارضة الأثر على عدم المساواة في الدخل والثروة.
فقد يستفيد الأثرياء إلى حد كبير من مزايا الابتكارات في التكنولوجيا المالية، حيث سيكون بوسعهم استخدامها لزيادة العائدات المالية وتنويع المخاطر، كما أن المؤسسات المالية القائمة قد تتبنى هذه التغييرات لمصلحتها الذاتية. وبالإضافة إلى ذلك، نظرا لأن المهمشين اقتصاديا لديهم قدرة محدودة على المشاركة في المجتمع الرقمي ويفتقرون للوعي المالي، فإن بعض التغييرات قد تجذبهم للدخول في فرص استثمارية لا يدركون تماما طبيعة مخاطرها وليست لديهم القدرة على تحملها. وبالتالي، يتعذر فهم الانعكاسات على عدم المساواة في الدخل والثروة - التي ازدادت بدرجة كبيرة في كثير من البلدان وتتسبب في إثارة التوترات السياسية والاجتماعية.
ومن التغييرات الرئيسية الأخرى ازدياد التقسيم الطبقي على المستويين الوطني والدولي. فالاقتصادات الأصغر والاقتصادات ذات المؤسسات الضعيفة قد تشهد نهاية بنوكها المركزية وعملاتها المحلية، فيزداد تركز القوة الاقتصادية والمالية في أيدي الاقتصادات الكبرى. وفي الوقت نفسه، فإن الشركات الكبرى، مثل أمازون وميتا، يمكن أن تكتسب قوة أكبر بالسيطرة على التجارة والتمويل على حد سواء.
وحتى في عالم تهيمن عليه أنشطة التمويل اللامركزية القائمة على تقنية بلوك تشين الابتكارية المستخدمة في عملة البيتكوين (التي يرجح أن تكون الميراث الحقيقي لهذه التقنية) فإن الحكومات لديها أدوار مهمة تقوم بها في مجالات إنفاذ الحقوق التعاقدية وحقوق الملكية، وحماية المستثمرين، وتأمين الاستقرار المالي. وفي نهاية المطاف، يبدو أن العملات المشفرة والمنتجات المالية المبتكرة كذلك تعمل بكفاءة أكبر عندما تقوم على أساس من الثقة المستمدة من الإشراف والرقابة الحكوميين. فالحكومات لديها مسؤولية التأكد من أن قوانينها وإجراءاتها تعملان على تشجيع المنافسة العادلة وليس تفضيل المؤسسات القائمة ذات المراكز القوية ولا السماح للأطراف الكبيرة بخنق منافسيها الأصغر.
منهج مركزي أم مجزأ
الابتكارات المالية ستخلق مخاطر جديدة ومجهولة حتى الآن، لا سيما إذا وضع المشاركون في السوق والجهات التنظيمية ثقة أكبر من اللازم في التكنولوجيا. فاللامركزية ونتيجتها المباشرة، أي التجزؤ، هما سلاح ذو حدين. فبإمكانهما زيادة الاستقرار المالي بتخفيض نقاط الفشل المركزية وزيادة الصلابة من خلال تكثيف مستوى التكرار. ومن جهة أخرى، بينما يمكن أن تعمل النظم المجزأة بكفاءة في أوقات اليسر، فقد تصبح الثقة فيها هشة في أوقات العسر. فإذا كان النظام المالي تهيمن عليه آليات لامركزية غير مدعومة مباشرة (على غرار البنوك) من بنك مركزي أو جهة حكومية أخرى، فمن الممكن بكل سهولة أن تتلاشى الثقة. وبالتالي، فإن اللامركزية قد تحقق الكفاءة في أوقات اليسر وتؤدي إلى زعزعة الاستقرار سريعا في أوقات معاناة الاقتصادات.
ومن المحتمل كذلك أن تكون هناك تغييرات كبيرة وشيكة في البنيان المجتمعي. فمن شأن إحلال نظم الدفع الرقمية محل النقد أن يقضي على أي بقايا من الخصوصية في المعاملات التجارية. لقد كان الغرض من البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى هو تأمين سمات حجب الهوية والخصوصية وإلغاء الاعتماد على الحكومات وكبرى المؤسسات المالية في المعاملات التجارية، غير أنها تحفز تغييرات قد ينتهي بها الأمر إلى إضعاف الخصوصية. وسوف تكافح المجتمعات من أجل كبح قوة الحكومات في الوقت الذي تتعرض فيه حريات الأفراد لمخاطر أكبر.