أسلحة الدمار الشامل الاقتصادية

بروجيكت سنديكيت

2022-03-20 04:19

بقلم: راغورام راجان

شيكاغو ــ الحرب حالة مروعة، بصرف النظر عن الطريقة المستخدمة لشنها. مع ذلك، كان لابد من معارضة هجوم روسيا غير المبرر على أوكرانيا، مع ما صاحبه من مشاهد قتل المدنيين أو طردهم من ديارهم. بالإضافة إلى تزويد أوكرانيا بالأسلحة العسكرية، سارعت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى نشر أسلحة اقتصادية ضد روسيا. ورغم أن روسيا، التي تُـعَـد قزما اقتصاديا نسبة إلى قوتها العسكرية، ربما تظل قادرة على مواصلة هجماتها من خلال توسيع نطاق الأسلحة العسكرية التي تستخدمها والأراضي التي تستهدفها، إنها مجازفة يتعين على العالم أن يخوضها.

مقارنة بالقصف الروسي العشوائي، لن تقتل الأسلحة الاقتصادية الناس بذات السرعة، ولن تحدث دمارا مرئيا أو تثير الخوف بذات القدر. ومع ذلك، ستكون الأسلحة الاقتصادية غير المسبوقة المستخدمة ضد روسيا مؤلمة دون أدنى شك. ساهمت القيود المفروضة على البنك المركزي الروسي بالفعل في انهيار الروبل، كما خلفت القيود الجديدة المفروضة على المدفوعات والتمويل عبر الحدود تأثيرا فوريا، مما أضعف الثقة في البنوك الروسية. ورغم أن العقوبات التجارية (تقييد الصادرات من المدخلات الأساسية مثل قطع غيار الطائرات إلى روسيا، وكذا المشتريات من روسيا)، ونزوح الشركات المتعددة الجنسيات جماعيا من روسيا، لن يكون تأثيرها فوريا بذات القدر، فإنها ستعمل على تقليص النمو الاقتصادي وزيادة البطالة بشكل كبير بمرور الوقت.

وإذا ظلت هذه الإجراءات قائمة فسوف تُـتَـرجَـم في النهاية إلى تدني مستويات المعيشة، وتراجع الصحة، والمزيد من الوفيات في روسيا. يعكس وصولنا إلى هذه النقطة انهيارا سياسيا واسع النطاق. الواقع أن العديد من الدول القوية يقودها الآن حكام مستبدون يجعلهم اعتمادهم على النزعة القومية أقل استعدادا للتسوية والتنازل على المستوى الدولي ولا يواجهون من القيود على سلوكهم داخل بلدانهم سوى أقل القليل. إذا مَـر هذا العدوان الذي يشنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن دون عقاب، فسوف يصبح المزيد من مثل هذه الاستفزازات الدولية، مثل حربه في أوكرانيا، حتميا. تتمثل معضلة أخرى في انهيار النظام الدولي. الواقع أن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة عاجز عن التصرف ضد أي من أعضائه الدائمين الذين يتمتعون بحق النقض (الصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة). ويُـتَـرجَـم عجز المنظمة على هذا النحو إلى إفلات الرجال الأقوياء الذين يستهزئون بالمعايير الدولية من العقاب. علاوة على ذلك، حتى لو كان بوسع الأمم المتحدة أن توافق على رد عسكري، فسوف تكون الإرادة لمجابهة قوة نووية عازمة عسكريا غائبة في الأرجح. توفر الأسلحة الاقتصادية، التي أصبح من الممكن استخدامها بفضل التكامل العالمي، طريقة مناسبة لتجاوز نظام الحكم العالمي المشلول. فهي تسمح لقوى أخرى بالاستعانة بطريقة فَـعّـالة (مؤلمة) لكنها متمدينة في الرد على العدوان والوحشية.

لكن لا يجوز لنا أن نستهين بالمخاطر التي قد تخلقها هذه الأسلحة. فعندما يُـطـلَـق لها العنان بشكل كامل، تتحول العقوبات أيضا إلى أسلحة دمار شامل. صحيح أنها قد لا تطيح بالمباني أو تتسبب في انهيار الجسور، لكنها تدمر الشركات، والمؤسسات المالية، وسبل العيش، بل وحتى حياة البشر. إنها كمثل أسلحة الدمار الشامل العسكرية، قادرة على إحداث الألم بطريقة عشوائية، فتضرب المذنبين والأبرياء. وإذا استُـخـدِمَـت على نطاق أوسع مما ينبغي، فقد تتسبب في انقلاب عملية العولمة التي سمحت للعالم الحديث بالازدهار في الاتجاه المعاكس.

كما ينطوي الأمر على العديد من المخاوف ذات الـصِـلة. بادئ ذي بدء، من الممكن أن تُـفـضي طبيعة الأسلحة الاقتصادية غير الدموية ظاهريا، والافتقار إلى أي معايير تحكمها، إلى الإفراط في استخدامها. وهذا ليس مجرد تخمين. فلا تزال الولايات المتحدة تُـبـقي على عقوبات قاسية ضد كوبا حتى على الرغم من وجود أنظمة أسوأ كثيرا في العالم؛ ومؤخرا فرضت الصين عقوبات على الصادرات الأسترالية، في الرد على مطالبة أستراليا بإجراء تحقيق كامل في منشأ مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).

ما يثير القلق بذات القدر هو الضغوط العامة المتنامية على الشركات لحملها على التوقف عن ممارسة الأعمال التجارية في بلدان بعينها. فقد تؤدي مثل هذه المطالب إلى توسيع نطاق العقوبات بما يتجاوز ما قصده صناع السياسات. ليس من المستحيل أن نتخيل دولة تخضع لحرب اقتصادية بسبب موقف حكومتها بشأن الإجهاض أو تغير المناخ، على سبيل المثال. إن الخوف الواسع الانتشار من العقوبات العشوائية من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من السلوك العدواني.

في أعقاب اتخاذ الإجراء العقابي ضد البنك المركزي الروسي، سيساور القلق الصين والهند وبلدان أخرى كثيرة من أن تصبح حيازاتها من النقد الأجنبي (في هيئة ديون الاقتصادات المتقدمة) غير صالحة للاستخدام إذا قررت قِـلة من البلدان تجميد أصولها. وفي ظل وجود قِـلة من الأصول الأخرى التي قد تتمتع بالسيولة التي تتسم بها الاحتياطيات من الدولار أو اليورو، فسوف تبدأ البلدان في الحد من الأنشطة التي تستلزم حيازات احتياطية، مثل اقتراض الشركات عبر الحدود. وقد تبدأ بلدان أخرى أيضا في استكشاف بدائل جماعية لشبكة الرسائل المالية سويفت (SWIFT)، وهو ما قد يؤدي إلى تفتيت نظام المدفوعات العالمي. وربما تصبح الشركات الخاصة أشد حذرا في التوسط في الاستثمار أو التجارة بين البلدان التي لا تشاركها ذات القيم السياسية والاجتماعية.

قد نشهد أيضا سلوكيات استراتيجية محصلتها صِـفر (تنتهي إلى فائز وخاسر)، مع حرص البلدان على تطوير تدابير مضادة للأسلحة الاقتصادية. على سبيل المثال، قد تدعو دولة ما البنوك الأجنبية إلى الدخول إلى سوقها بدافع خفي يتمثل في احتجاز أصولها ورؤوس أموالها رهينة ذات يوم. في المقابل، ربما تحد البلدان من الأماكن المسموح لبنوكها بالعمل فيها، من أجل تقليل تعرضها لمثل هذه التهديدات. وسوف يؤدي هذا حتما إلى تقلص التفاعلات الاقتصادية بين البلدان. بينما ساعدت الأسلحة الاقتصادية العالم على تجاوز نظام الحكم العالمي المشلول في الرد على حرب العدوان الروسية، فإنها تسلط الضوء أيضا على الحاجة إلى ضمانات جديدة في المستقبل.

إذا لم نوفر هذه الضمانات فإننا نجازف بخلق عالَـم مفتت اقتصاديا وأكثر فقرا. بشكل خاص، لأن الأسلحة الاقتصادية أقوى من أن تُـتـرَك في أيدي أي دولة منفردة، فيجب أن يكون استخدامها خاضعا لحد أدنى من الإجماع. بقدر ما تكون العقوبات أكثر فعالية عند مشاركة عدد أكبر من البلدان فيها، فقد تكون هذه الآلية فاعلة فيها بالفعل. بيد أن التهديد بفرض عقوبات ثانوية قد يضطر بلدان أخرى غير راغبة إلى التعاون. لذا، يجب أن يستند هذا الشرط إلى إجماع طوعي ــ وكلما كان السلاح الاقتصادي أشد تدميرا، يجب أن يكون الإجماع المطلوب أوسع.

على نحو مماثل، يجب أن يكون استخدام الأسلحة الاقتصادية متدرجا. يجب أن تحظى التحركات ضد أصول النخب في البلد المعتدي بأولوية قصوى ومتطلبات إجماع أقل. ويتعين على الاقتصادات المتقدمة أن تعمل على تسهيل هذا من خلال الامتناع عن غض الطرف عن توفير الملاذ للعائدات المتحصلة من التهرب الضريبي والفساد والسرقة من أماكن أخرى. على العكس من ذلك، لأن التحركات الرامية إلى خفض قيمة عملة الدولة المعتدية أو تقويض نظامها المالي قد تتسبب في تحويل اللبراليين من أبناء الطبقة المتوسطة والإصلاحيين إلى قوميين غاضبين، فمن الأهمية بمكان أن يكون التعامل معها مستندا إلى قدر أكبر من المداولات وأقصى إجماع ممكن.

من المفهوم أن تكون الاقتصادات المتقدمة عازفة عن فرض قيود على قواها المكتشفة حديثة. ولكن ينبغي لها أن تدرك أن الاقتصاد العالمي المتفكك المفتت من شأنه أن يلحق الأذى بالجميع. علاوة على ذلك، قد يكون إجراء محادثات حول "السيطرة على الأسلحة الاقتصادية" خطوة أولى نحو إصلاح النظام العالمي المعطل. إن التعايش السلمي أفضل دائما من الحرب، أيا كانت الطريقة المستخدمة لشنها.

* راغورام ج. راجان، محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق، وأستاذ المالية في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو، ومؤلف كتاب الركيزة الثالثة: كيف تترك الأسواق والدولة المجتمع وراءهم
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي