أزمة ديون الركود التضخمي الوشيكة
بروجيكت سنديكيت
2021-07-07 04:35
بقلم: نورييل روبيني
نيويورك ــ في شهر إبريل/نيسان، حذرت من أن السياسات النقدية والمالية المفرطة التساهل اليوم، قد تُـفضي إلى ركود تضخمي (تضخم مرتفع مصحوب بركود) على طريقة سبعينيات القرن العشرين، عندما تقترن بعدد من صدمات العرض السلبية. الواقع أن الخطر اليوم أكبر حتى مما كان عليه في ذلك الحين.
رغم كل شيء، كانت نسب الديون في الاقتصادات المتقدمة وأغلب الأسواق الناشئة أقل كثيرا في السبعينيات، ولهذا السبب لم يرتبط الركود التضخمي بأزمات الديون تاريخيا. على أية حال، تسبب التضخم غير المتوقع في السبعينيات في محو القيمة الحقيقية للديون الاسمية بمعدلات ثابتة، وبالتالي تقليص أعباء الدين العام في العديد من الاقتصادات المتقدمة.
على النقيض من ذلك، أثناء أزمة 2007-2008 المالية، تسببت نسب الديون المرتفعة (الخاصة والعامة) في إحداث أزمة ديون حادة ــ مع انفجار فقاعة الإسكان ــ لكن الركود الذي أعقب ذلك أدى إلى التضخم المنخفض، إن لم يكن الانكماش الصريح. ونظرا لضائقة الائتمان، شهد الطلب الكلي صدمة كلية، في حين تكمن المخاطر اليوم على جانب العرض.
وبهذا تُـرِكـنا مع أسوأ ما خلفه ركود السبعينيات التضخمي وفترة 2007-2010. الواقع أن نسب الدين أعلى كثيرا مما كانت عليه في السبعينيات، ويهدد خليط من السياسات الاقتصادية المتساهلة وصدمات العرض السلبية بتغذية التضخم وليس الانكماش، مما يمهد الساحة لأم أزمات ديون الركود التضخمي على مدار السنوات القليلة المقبلة.
في الوقت الحالي، ستستمر السياسات النقدية والمالية المتساهلة في تغذية فقاعات الأصول والائتمان، على النحو الذي يقودنا إلى الكارثة بالحركة البطيئة. وعلامات التحذير بادية للعيان بالفعل في ارتفاع نسب الأسعار إلى الأرباح اليوم، وانخفاض علاوات مخاطر الأسهم، وتضخم أصول الإسكان والتكنولوجيا، والوفرة غير المنطقية المحيطة بشركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص، وقطاع العملات الرقمية المشفرة، وديون الشركات ذات العائد المرتفع، والتزامات القروض المضمونة، وحقوق الملكية الخاصة، والأسهم السريعة الانتشار، وتجارة التجزئة النهارية الجامحة. وعند مرحلة ما، ستبلغ هذه الطفرة ذروتها في لحظة مينسكي (فقدان مفاجئ للثقة)، وسوف تؤدي السياسات النقدية الأكثر إحكاما إلى السقوط ثم الانهيار.
لكن في غضون ذلك، ستستمر ذات السياسات المتساهلة التي تغذي فقاعات الأصول في دفع تضخم أسعار المستهلك، مما يخلق ظروف الركود التضخمي كلما أتت صدمات العرض السلبية التالية. وقد تنجم مثل هذه الصدمات عن سياسات الحماية المتجددة؛ أو الشيخوخة الديموغرافية في الاقتصادات المتقدمة والناشئة؛ أو القيود المفروضة على الهجرة في الاقتصادات المتقدمة؛ أو إعادة التصنيع إلى مناطق عالية التكلفة؛ أو تفتت سلاسل التوريد العالمية.
في عموم الأمر، يهدد الانفصال الصيني الأميركي بتفتيت الاقتصاد العالمي في وقت حيث يدفع تغير المناخ وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الحكومات الوطنية نحو الاعتماد على الذات بشكل أكثر عمقا. أضف إلى هذا التأثير على الإنتاج بفعل الهجمات السيبرانية المتزايدة على البنية الأساسية الحيوية وردود الفعل الاجتماعية والسياسية العنيفة ضد التفاوت بين الناس، فتكتمل وصفة ارتباك الاقتصاد الكلي.
ما يزيد الطين بلة أن البنوك المركزية خسرت فعليا استقلاليتها، لأنها لم تجد أي اختيار سوى تحويل العجز المالي الهائل إلى نقود لاستباق أزمة الديون. ومع ارتفاع الديون العامة والخاصة إلى عنان السماء، انزلقت إلى فخ الديون. مع ارتفاع التضخم خلال السنوات القليلة المقبلة، ستواجه البنوك المركزية معضلة. وإذا بدأت تتخلص تدريجيا من السياسات غير التقليدية وترفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، فإنها بذلك تخاطر بإشعال شرارة أزمة ديون هائلة وركود حاد؛ ولكن إذا أبقت على سياسة نقدية متساهلة، فإنها تخاطر ببلوغ معدل التضخم خانة العشرات ــ والركود التضخمي العميق عندما تنشأ صدمات العرض السلبية التالية.
ولكن حتى في السيناريو الثاني، لن يتمكن صناع السياسيات من منع أزمة الديون. وفي حين أن الديون الحكومية الاسمية ذات السعر الثابت في الاقتصادات المتقدمة يمكن محوها جزئيا بفعل تضخم غير متوقع (كما حدث في السبعينيات)، فإن هذه ليست حال ديون الأسواق الناشئة المقومة بالعملة الأجنبية. وسوف تضطر العديد من هذه الحكومات إلى التخلف عن السداد وإعادة هيكلة ديونها.
في الوقت ذاته، ستصبح الديون الخاصة في الاقتصادات المتقدمة غير مستدامة (كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية)، وسترتفع فوارقها مقارنة بالسندات الحكومية الأكثر أمانا، مما يؤدي إلى إشعال شرارة سلسلة متوالية من حالات التخلف عن سداد الديون. وسوف تكون الشركات العالية المديونية وبنوك الظل المتهورة التي أقرضتها أول من يسقط، وسرعان ما تتبعها الأسر المثقلة بالديون والبنوك التي مولتها.
من المؤكد أن تكاليف الاقتراض الطويل الأجل ربما تنخفض في البداية إذا ارتفع التضخم بشكل غير متوقع في حين لا تزال البنوك المركزية متأخرة عن المنحنى. ولكن بمرور الوقت، سَـيُـدفَـع بهذه التكاليف إلى الارتفاع بفعل ثلاثة عوامل. فأولا، سيؤدي ارتفاع الديون العامة والخاصة إلى توسيع الفوارق بين أسعار الفائدة على الديون السيادية والخاصة. وثانيا، سيؤدي ارتفاع التضخم واشتداد حالة عدم اليقين إلى دفع علاوة مخاطر التضخم إلى الارتفاع. وثالثا، سيطالب مؤشر البؤس المتزايد الارتفاع ــ مجموع معدل التضخم ومعدل البطالة ــ في نهاية المطاف بـ"لحظة فولكر".
عندما رفع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق بول فولكر أسعار الفائدة في التصدي للتضخم خلال الفترة 1980-1982، كانت النتيجة ركودا حاد مزدوجا في الولايات المتحدة وأزمة ديون وعقد ضائع في أميركا اللاتينية. ولكن الآن وقد أصبحت نسب الديون العالمية أعلى بنحو ثلاث مرات من نظيراتها في أوائل السبعينيات، فإن أي سياسة لمكافحة التضخم من شأنها أن تؤدي إلى الكساد، وليس الركود الحاد.
في ظل هذه الظروف، ستكون البنوك المركزية ملعونة إذا تحركت وملعونة إذا لم تتحرك، وستكون العديد من الحكومات شبه مُـعسِـرة وبالتالي غير قادرة على إنقاذ البنوك، والشركات، والأسر. وسوف تتكرر حلقة الهلاك التي التهمت الهيئات السيادية والبنوك في منطقة اليورو بعد الأزمة المالية العالمية في مختلف أنحاء العالم، ولن تسلم منها الأسر، والشركات، وبنوك الظل.
في ظل الوضع الحالي، تبدو الكارثة التي تتقدم نحونا بالحركة البطيئة حتمية لا مفر منها. ولا يغير تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي من موقف شديد المسالمة إلى موقف مسالم في المجمل أي شيء. كان الاحتياطي الفيدرالي واقعا في فخ الديون على الأقل منذ ديسمبر/كانون الأول 2018، عندما أجبره انهيار البورصة وسوق الائتمان على عكس اتجاهه إلى تشديد سياسته قبل عام كامل من اندلاع جائحة كوفيد-19. ومع ارتفاع التضخم، وفي ظل صدمات الركود التضخمي التي تلوح في الأفق، أصبح الفخ أكثر إحكاما.
هذه أيضا حال البنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان، وبنك إنجلترا. وقريبا سيلتقي ركود السبعينيات التضخمي بأزمة الديون من فترة ما بعد 2008. والسؤال الآن ليس ما إذا كان ذلك ليحدث، بل متى سيحدث.