كيف يُحدث كوفيد-19 تحولا في التصنيع؟
بروجيكت سنديكيت
2020-04-14 04:25
بقلم: داليا مارين
ميونيخ- مع تصاعد جائحةكوفيد-19، أصبحت المخاطر الكامنة في سلاسل التوريد العالمية تتضح أكثر من أي وقت مضى. وبدلاً من أن تنتظر شركات الاقتصاد المتقدم لتستأنف عملها كالمعتاد، مع تركيز أنشطة التصنيع في البلدان حيث العمالة رخيصة ووفيرة، بدأت تُحول تركيزها نحو العمال الأقل أجورًا على الإطلاق: الروبوتات.
لقد بدأت الشركات في نقل الإنتاج إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة في أوائل التسعينيات، وساعدها على ذلك سقوط الستار الحديدي، والتكامل العالمي للصين وانضمامها أخيراً إلى منظمة التجارة العالمية، وارتفاع مستوى النقل بالحاويات. وقد سميت الفترة ما بين 1990 والأزمة المالية العالمية لعام 2008 بحقبة العولمة المفرطة، شكلت فيها سلاسل القيمة العالمية حوالي 60٪ من التجارة العالمية.
لقد كانت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لعام 2008 بداية نهاية عصر العولمة المفرطة. إذ في عام 2011، توقفت سلاسل القيمة العالمية عن التوسع. ولم تنمو مرة أخرى منذ ذلك الحين.
وكان الدافع وراء هذا الانعكاس هو عدم اليقين. إذ من عام 2008 إلى عام 2011، ارتفع مؤشر عدم اليقين العالمي -الذي أنشأه هايتس أهير، ونيكولاس بلوم، ودافيد فورسيري- بنسبة 200٪. وللمقارنة، خلال تفشي المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس) في الفترة ما بين 2002 و2003، ارتفع مؤشر عدم اليقين العالمي بنسبة 70٪. وبعد تصويت المملكة المتحدة في عام 2016 على مغادرة الاتحاد الأوروبي، ارتفع بنسبة 250٪.
وعندما يرتفع عدم اليقين، تعاني سلاسل القيمة العالمية. واستنادًا إلى البيانات السابقة، يمكن للمرء أن يتنبأ بأن زيادة عدم اليقين بنسبة 300٪ - التي يبدو أنه من المحتمل أن تسببها جائحة كوفيد-19- ستقلل من نشاط سلسلة التوريد العالمية بنسبة 35.4٪. إذ لم تعد الشركات تعتبر أن وفورات تكلفة النقل إلى الخارج تستحق المخاطرة.
وفي الوقت الذي أصبح فيه اعتماد الروبوتات أرخص من أي وقت مضى، أصبح الحافز لاستعادة عملية الإنتاج إلى الداخل أقوى. والحساب بسيط. ستضطر شركة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، إلى دفع أجور للعاملين الأمريكيين أكثر من للعامل الفيتنامي أو البنغلاديشي مثلا. ولكن الروبوت المقيم في الولايات المتحدة لن يطالب بالأجور على الإطلاق، ناهيك عن المزايا الأخرى مثل التأمين الصحي، أو الإجازة المرضية.
إن الاستثمار في الروبوتات ليس بالجديد. إذ تتابع شركات الاقتصاد المتقدم هذا الأمر منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، وتأتي في مقدمتها شركات صناعة السيارات، والتي يمكن أن تمثل 50 إلى 60٪ من مخزون الروبوت في الدولة. وفي ألمانيا -الرائدة عالميا في اعتماد الروبوتات- بلغت الروبوتات لكل 10000 عامل في التصنيع 322 في عام 2017. وفقط كوريا الجنوبية (710 روبوت لكل 10000 عامل)، وسنغافورة (658 لكل 10000) من لديهما نسبة أعلى. ولدى الولايات المتحدة 200 روبوت لكل 10000 عامل.
وفي الواقع، عندما اندلعت أزمة عام 2008، كان لدى بعض البلدان، مثل ألمانيا، ما يكفي من الروبوتات لتقليل أهمية تكاليف العمالة في الإنتاج. وعززت العديد من البلدان الأخرى، بمساعدة الانخفاض الحاد في أسعار الفائدة بعد عام 2008 مقارنة بالأجور، اعتماد الروبوتات، وأعادت حصة أكبر من الإنتاج إلى الداخل.
ومن المرجح أن يحدث نفس الشيء اليوم. واستناداً إلى السياسة النقدية حتى الآن، يمكن توقع انخفاض أسعار الفائدة بنسبة 30٪، حيث تحاول البنوك المركزية تعويض الأضرار الناجمة عن جائحة كوفيد-19. وتشير البيانات السابقة إلى أن هذا يمكن أن يؤدي إلى تسارع وتيرة اعتماد الروبوت بنسبة 75.7٪. (لن يؤدي ذلك إلى ازدهار غير مقيد في اعتماد الروبوت، لأن عدم اليقين المتزايد يعيق الاستثمار أيضًا).
وسوف يتركز هذا الاتجاه في القطاعات الأكثر تعرضًا لسلاسل القيمة العالمية. وفي ألمانيا، هذا يعني السيارات، ومعدات النقل، والإلكترونيات، والمنسوجات- الصناعات التي تستورد حوالي 12٪ من مدخلاتها من الدول ذات الأجور المنخفضة. (بشكل عام، يستورد الاقتصاد الألماني 6.5٪ من المدخلات التي يستخدمها).
وعلى الصعيد العالمي، فإن الصناعات التي تعرف أكبر حصة من عمليات الانتاج إلى الداخل هي المواد الكيميائية، والمنتجات المعدنية، والمنتجات الكهربائية، والإلكترونيات. وتبرز الصناعة الكيميائية في مقدمة القطاعات في ما يتعلق بعمليات الانتاج إلى الداخل في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتحدة.
ويشكل هذا الاتجاه تهديدًا كبيرًا لنماذج النمو في العديد من البلدان النامية، والتي تعتمد على التصنيع المنخفض التكلفة، وتصدير المدخلات الوسيطة. وفي أوروبا الوسطى والشرقية، استجابت بعض البلدان لهذا التحدي عن طريق الاستثمار في الروبوتات نفسها. وتمتلك جمهورية التشيك، وسلوفاكيا،
وسلوفينيا (التي لديها قطاعات كبيرة من السيارات المملوكة للأجانب) الآن، عددًا أكبر من الروبوتات لكل 10000 عامل من الولايات المتحدة، أو فرنسا. ويبدو أن هذه الاستراتيجية نجحت: فهي لا تزال وجهة جذابة للتوريد إلى الخارج بالنسبة للبلدان الغنية.
وقد تمر مراكز التصنيع منخفضة التكلفة في آسيا بأوقات أصعب، خاصة في أعقاب الوباء. وستواجه الصين، التي ضمنت صعودها الاقتصادي عن طريق ترسيخ مركزها في العديد من سلاسل القيمة العالمية، تحديات خطيرة بشكل خاص، على الرغم من خططها للتحول إلى أنشطة ذات قيمة مضافة أعلى، وتعزيز الاستهلاك المحلي.
وبين تزايد الحمائية (خاصة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب) ووباء كوفيد-19، يبدو أن الاقتصادات المتقدمة مهيأة لنهضة تصنيع. ولكن في حين أن هذا قد يقلل من المخاطر على الشركات الكبيرة، إلا أنه ربما لن يفيد الكثير من عمال الاقتصاد المتقدم، ناهيك عن البلدان النامية التي يحول الإنتاج منها. لذلك، ستحتاج الحكومات إلى تنفيذ سياسات تلائم هذا النظام الاقتصادي الجديد.