أزمة الرأسمالية الثلاثية
بروجيكت سنديكيت
2020-04-05 04:25
بقلم: ماريانا مازوكاتو
لندن- إن الرأسمالية تواجه ثلاث أزمات كبرى على الأقل. إذ سرعان ما أدت الأزمة الصحية الناجمة عن الوباء، إلى أزمة اقتصادية تُجهل انعكاساتها على الاستقرار المالي حتى الآن، وكل هذا يحدث إزاء خلفية أزمة مناخية لا يمكن معالجتها عن طريق "العمل كالمعتاد". وحتى شهرين مضيا، كانت وسائل الإعلام مليئة بالصور المخيفة لرجال إطفاء منهكين، ولم تكن لمقدمي الرعاية الصحية.
لقد كشفت هذه الأزمة الثلاثية عن عدة مشاكل تتعلق بكيفية صنعنا للرأسمالية، والتي يجب حلها جميعًا في نفس الوقت الذي نتعامل فيه مع الطوارئ الصحية العاجلة. وإلا، سنقوم، ببساطة، بحل مشاكل في مكان واحد، مع خلق أخرى جديدة في مكان آخر. وهذا ما حدث مع الأزمة المالية لعام 2008. إذ غمر صناع السياسات العالم بالسيولة، دون توجيهه نحو فرص استثمارية جيدة. ونتيجة لذلك، عاد المال مرة أخرى إلى قطاع مالي كان (ولا يزال) غير صالح للغرض.
ولا تزال أزمة كوفيد-19 تكشف عن المزيد من العيوب في هياكلنا الاقتصادية، خاصة زيادة شح فرص العمل، بسبب صعود اقتصاد العربة، وتدهور قوة المساومة العمالية لعقود طويلة. إن العمل عن بعد ليس خيارًا متاحًا لمعظم العمال، وعلى الرغم من أن الحكومات تقدم بعض المساعدة للعاملين بعقود منتظمة، فإن العاملين لحسابهم الخاص قد يجدون أنفسهم بلا حَول ولا قوة.
والأسوأ من ذلك، أن الحكومات تقدم الآن قروضاً للشركات في وقت ترتفع فيه الديون الخاصة، إلى أعلى مستويات في تاريخها. إذ في الولايات المتحدة، بلغ إجمالي ديون الأسر قبل الأزمة الحالية 14.15 تريليون دولار، وهو أعلى بنسبة 1.5 تريليون دولار مما كان عليه في عام 2008 (بالقيمة الاسمية). وكي لا ننسى، كان الدين الخاص المرتفع هو السبب في اندلاع الأزمة المالية العالمية.
ولسوء الحظ، على مدى العقد الماضي، اتبعت العديد من البلدان سياسة التقشف، كما لو كان الدين العام هو المشكلة. وكانت النتيجة تآكل مؤسسات القطاع العام، التي نحتاجها للتغلب على الأزمات مثل جائحة فيروس كورونا. ومنذ عام 2015، خفضت المملكة المتحدة ميزانيات الصحة العامة بمقدار مليار جنيه إسترليني (1.2 مليار دولار)، مما زاد من العبء على الأطباء المتدربين (غادر العديد منهم الخدمة الصحية الوطنية تمامًا)، وأدى إلى تراجع الاستثمارات طويلة الأجل اللازمة للتأكد من أن المرضى يعالجون في مرافق آمنة، وحديثة، ومجهزة بالكامل. وفي الولايات المتحدة- التي لم يكن لديها نظام صحة عامة ممول تمويلا صحيحا- تحاول إدارة ترامب، باستمرار، خفض التمويل المخصص لمراكز السيطرة على الأمراض، والوقاية منها، وكذلك التقليص من قدراتها، وغيرها من المؤسسات الحيوية الأخرى.
وبالإضافة إلى هذه الجروح الذاتية، كان قطاع الأعمال "الذي مُوِّل" بإفراط ينتزع القيمة من الاقتصاد عن طريق مكافأة المساهمين، وذلك من خلال خطط إعادة شراء الأسهم، بدلاً من دعم النمو على المدى الطويل عن طريق الاستثمار في البحث والتطوير، والأجور، وتدريب العمال. ونتيجة لذلك، استُنفذت الوسائد المالية للأسر، مما جعل شراء السلع الأساسية مثل الإسكان، والتعليم أكثر صعوبة.
ومن المؤسف أن أزمة كوفيد-19 تؤدي إلى تفاقم كل هذه المشاكل. ولحسن الحظ، يمكننا استخدام حالة الطوارئ الحالية لبدء بناء اقتصاد أكثر شمولاً واستدامة. وليس الهدف هو تأخير الدعم الحكومي أو عرقلته، بل تنظيمه تنظيما صحيحا. ويجب أن نتجنب أخطاء فترة ما بعد عام 2008، عندما سمحت عمليات الإنقاذ للشركات بجني أرباح أعلى بمجرد انتهاء الأزمة، لكنها أخفقت في وضع الأساس لانتعاش قوي وشامل.
وهذه المرة، يجب أن تُرفَق إجراءات الإنقاذ مع الشروط. الآن وبعد أن عادت الدولة إلى الاضطلاع بدور قيادي، يجب أن يُنظر إليها على أنها بطلة وليس على أنها ساذجة. وهذا يعني تقديم حلول فورية، على أن تكون مصممة تصميماً يخدم المصلحة العامة على المدى الطويل.
فعلى سبيل المثال، يمكن وضع شروط لدعم الحكومة للشركات. ويجب مطالبة الشركات التي تحصل على الدعم في إطار عمليات الإنقاذ بالاحتفاظ بالعمال، والتأكد من أنه بمجرد انتهاء الأزمة، فإنها سوف تستثمر في تدريب العمال، وتحسين ظروف العمل. والأفضل من ذلك، كما هو الحال في الدنمارك، يجب على الحكومة دعم الشركات لمواصلة دفع الأجور حتى عندما لا يعمل العمال- في نفس الوقت مساعدة الأسر على الاحتفاظ بدخولها، ومنع الفيروس من الانتشار، وتسهيل استئناف الأعمال التجارية للشركات بمجرد انتهاء الأزمة.
وفضلا عن ذلك، يجب أن تكون عمليات الإنقاذ مصممة لتوجيه الشركات الكبيرة لمكافأة خلق القيمة، بدلاً من استخراج القيمة، ومنع إعادة شراء الأسهم، وتشجيع الاستثمار في النمو المستدام، والحد من أثر الكربون. إذ بعد أن أعلنت المائدة المستديرة للأعمال التجارية العام الماضي، أنها ستعتمد نموذج قيمة أصحاب المصلحة، هذه هي فرصتها لدعم أقوالها بالأفعال. وإذا كانت الشركات الأمريكية ما زالت تتماطل الآن، فيجب أن نتحداها في ذلك.
وعندما يتعلق الأمر بالأسر، يجب على الحكومات أن تتجاهل القروض حتى تتمكن من تخفيف الديون، خاصة بالنظر إلى المستويات العالية الحالية للديون الخاصة. وعلى الأقل، يجب تجميد مدفوعات الدائنين حتى تحل الأزمة الاقتصادية المباشرة، وتستخدم الحقن المباشرة للسيولة النقدية إلى الأسر التي هي في أشد الحاجة إليها.
ويجب على الولايات المتحدة أن تقدم ضمانات حكومية لدفع 80 إلى 100٪ من فواتير أجور الشركات المتعثرة، كما فعلت المملكة المتحدة، والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وآسيا.
وحان الوقت أيضًا لإعادة التفكير في الشراكات بين القطاعين العام والخاص. إذ في كثير من الأحيان، تكون هذه الترتيبات طفيلية أكثر من كونها تكافلية. ويمكن أن تصبح الجهود المبذولة لتطوير لقاح كوفيد-19 بمثابة علاقة أخرى أحادية الاتجاه، حيث تجني الشركات أرباحًا ضخمة، عن طريق بيعها مرة أخرى للناس منتجًا وُلد من الأبحاث الممولة من دافعي الضرائب. وفي الواقع، على الرغم من الاستثمار العام الكبير لدافعي الضرائب الأمريكيين في تطوير اللقاحات، أقر وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكي، أليكس عازار، مؤخرًا بأن علاجات أو لقاحات كوفيد-19 المطورة حديثًا، قد لا تكون في متناول جميع الأمريكيين.
إننا بحاجة ماسة إلى دول ريادية تستثمر أكثر في الابتكار– بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والصحة العامة، ومصادر الطاقة المتجددة. ولكن هذه الأزمة تذكرنا، بأننا نحتاج أيضًا إلى دول تعرف كيف تتفاوض، حتى تذهب عائدات الاستثمار العام إلى الناس.
إن فيروسا قاتلا كشف عن مواطن ضعف كبيرة داخل الاقتصادات الرأسمالية الغربية. الآن وبعد أن أصبحت الحكومات في حالة حرب، لدينا فرصة لإصلاح النظام. وإذا لم نفعل ذلك، فلن تكون لدينا فرصة ضد الأزمة الكبرى الثالثة –كوكب غير صالح للعيش على نحو متزايد- وجميع الأزمات الأصغر حجما، التي ستصاحبه في السنوات والعقود المقبلة.