من أين تأتي الوظائف الجيدة؟
بروجيكت سنديكيت
2019-04-30 09:01
بقلم: دارون أسيم أوغلو
كمبريدج ــ في عيد العمال هذا العام، أصبحت الأجندة في مختلف أنحاء العالم تحتوي الآن على مقترحات سياسية كانت لتبدو شديدة التطرف قبل بضع سنوات. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أصبحت المعدلات الضريبية الهامشية المرتفعة، والضرائب على الثروة، ونظام الرعاية الصحية حيث تتولى جهة واحدة تغطية التكاليف، من الأفكار الغالبة. ومع ذلك، ما لم يصحح المشرعون وصناع السياسات أولوياتهم، فقد تُهدَر الفرصة لأي إصلاح حقيقي، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى نشوء انقسامات اجتماعية وسياسية أشد عمقا.
ورغم أن الإصلاحات المطلوبة جذرية وشاملة، فإنها ليست الرائجة حاليا. لابد أن تكون الأولوية القصوى لخلق وظائف عالية الأجر، وينبغي لصناع السياسات أن يسترشدوا بهذا في التعامل مع كل شيء من التكنولوجيا والتنظيم والضرائب إلى التعليم والبرامج الاجتماعية. تاريخيا، لم يتمكن أي مجتمع بشري معروف من خلق الرخاء المشترك من خلال إعادة التوزيع فحسب. إن الازدهار يأتي من خلق الوظائف التي تدفع أجورا لائقة. والوظيفة المجزية، وليست إعادة التوزيع، هي التي تزود الناس بالغرض والمعنى في حياتهم.
يتطلب خلق مثل هذه الوظائف توجيه الإبداع التكنولوجي نحو تعزيز الطلب على العمال. والوظائف الجيدة لا تنشأ بشكل طبيعي من الأسواق الحرة، بل تتطلب توفر مؤسسات سوق العمل التي تحمي العمال وتعمل على تمكينهم، وأنظمة تعليمية ممولة بسخاء، وشبكات أمان اجتماعي فعّالة. هذه هي البنية المؤسسية التي منحت الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة أربعين عاما من النمو القوي الشامل بعد الحرب العالمية الثانية.
استند النمو الهائل في الطلب على العمالة خلال تلك الحقبة على ثلاث ركائز. فأولا، نشرت الشركات التكنولوجيا بطرق ساعدت على زيادة إنتاجية العمل، وبالتالي تغذية نمو الأجور والطلب على العمال. في الوقت ذاته، عملت الحكومات على توفير الدعم الحاسم، من خلال تمويل التعليم والبحث، وأصبحت (في بعض الحالات) جهات مشترية رئيسية للمعدات العالية التقنية. وتدين أغلب التكنولوجيات الرئيسية اليوم بشيء من الفضل للإبداعات التي مولتها الحكومات في تلك الفترة.
ثانيا، عملت الحكومات خلال فترة ما بعد الحرب على تشكيل بيئة الأعمال بالاستعانة بالحد الأدنى للأجور، وأنظمة السلامة في محل العمل، وغير ذلك من الضوابط التنظيمية لسوق العمل والمنتجات. وكثيرا ما يُلقى اللوم على هذه التدابير عن اختناق عمليات تشغيل العمالة. لكنها في واقع الأمر قادرة على خلق الحافز الكفيل بحمل الشركات على ترشيد عمليات الإنتاج وترقيتها، وبالتالي زيادة الإنتاجية والطلب. على نحو مماثل، من خلال ضمان بقاء أسواق المنتجات قادرة على المنافسة، تستطيع الحكومات أن تمنع الشركات من فرض أسعار احتكارية وجني أرباح أعلى دون الحاجة إلى استئجار المزيد من العمال.
ثالثا، عملت الحكومات في فترة ما بعد الحرب على توسيع القدرة على الوصول إلى التعليم، وبهذا اكتسب المزيد من العمال المهارات المطلوبة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أتاحت الحكومة الفيدرالية التعليم العالي والتدريب المهني للملايين من المواطنين من خلال قانون إعادة تأهيل الجنود، ومِنَح الطلاب، وإعانات دعم البحث، وغير ذلك من التدابير. صحيح أن كل هذا الاستثمار في الإبداع والتعليم استلزم تحقيق إيرادات ضريبية أعلى. ولكن كانت المعدلات الضريبية الأعلى بشكل معتدل، والنمو الاقتصادي ذاته، كافية للتعويض عن الفارق.
استحوذت بنية مؤسسية مماثلة على قسم كبير من العالم الصناعي خلال فترة ما بعد الحرب. على سبيل المثال، في الدول الإسكندنافية، لم يتحقق الرخاء المشترك من خلال إعادة التوزيع، كما يفترض عادة، بل نتيجة للسياسات الحكومية والمفاوضات الجماعية، التي خلق البيئة التي أفضت إلى خلق وظائف عالية الأجر.
هذا لا يعني أن فترة الخمسينيات والستينيات كانت مثالية. ففي الولايات المتحدة، ظل التمييز ضد الأميركيين من أصل أفريقي والنساء متأصلا بعمق، ولم تكن الفرص التعليمية توزع بالتساوي. ومع ذلك، من نواح أخرى كثيرة، كانت الظروف الاقتصادية آنذاك أفضل مما هي عليه الآن، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتوفر الوظائف المرتفعة الأجر.
بعد أن بلغ نمو أجور القطاع الخاص 2.5% في المتوسط سنويا في الولايات المتحدة في الفترة من 1947 إلى 1987، بدأ يتباطأ بشكل حاد في عام 1987، ثم توقف تماما بعد عام 2000 ــ قبل سبع سنوات كاملة من اندلاع أزمة الركود العظيم. تزامن هذا التوقف مع فترة من ضعف نمو الإنتاجية وإعادة توجيه الاستثمار نحو التشغيل الآلي (الأتمتة)، وبعيدا عن إنشاء مهام جديدة أعلى إنتاجية للبشر. ونتيجة لهذا، نضب معين الوظائف العالية الأجر، وتوقفت الأجور عن النمو، وتسربت حصة أكبر من البالغين في سن العمل من القوة العاملة.
على نطاق أوسع، تدهورت خلال تلك الفترة البنية المؤسسية التي كانت ذات يوم تشكل الأساس لخلق فرص العمل. وأضعِفَت سبل حماية العمال على نحو مضطرد، وتزايد تركز السوق في العديد من القطاعات، وتخلت الحكومة عن دعمها السابق للإبداع. وبحلول عام 2015، هبط التمويل الفيدرالي لمشاريع البحث والتطوير إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 1.9% في ستينيات القرن العشرين.
ينظر كثيرون إلى تدهور خلق الوظائف العالية الأجر باعتباره نتيجة حتمية للتقدم في الذكاء الاصطناعي والروبوتات. لكن هذا غير صحيح. فمن الممكن استخدام التكنولوجيا إما لإزاحة العمالة أو تحسين إنتاجية العمال. والاختيار لنا. لكن لضمان عودة مثل هذه القرارات بالفائدة على العمال، يتعين على الحكومات أن تتملق القطاع الخاص لصرفه بعيدا عن تركيزه الأحادي على الأتمتة.
في الولايات المتحدة، ربما يبدأ هذا بإصلاح السياسة الضريبية، التي تحابي الدخل الرأسمالي إلى حد كبير. ولأن الشركات قادرة على تقليص العبء الضريبي الذي تتحمله عن طريق نشر الآلات، فإنها تجد غالبا الحافز لملاحقة الأتمتة، حتى في الحالات حيث قد يكون العمال المستأجرون أكثر إنتاجية في حقيقة الأمر. كما يتعين على الحكومات أن تعود إلى دعم الإبداع التكنولوجي، من أجل توفير ثِقَل موازن لشركات التكنولوجيا الكبرى، التي تتوجه نماذج أعمالها بشكل غالب نحو الأتمتة على حساب الوظائف. وبطبيعة الحال، يشكل توسيع الفرص التعليمية بصورة عامة ضرورة أساسية.
كما كانت الحال في فترة ما بعد الحرب، تتطلب هذه البنية المؤسسية إيرادات ضريبية أعلى، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث تبلغ العائدات الضريبية السنوية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 27%، وهذا أقل كثيرا من المتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (34%). وفي رفع هذا الرقم، لا ينبغي أن يكون السبيل معاقبة الأغنياء، بل إزالة التشوهات مثل المعاملة المحابية لرأس المال. وهذا يعني توسيع القاعدة الضريبية وزيادة المعدلات الضريبية بشكل طفيف (لتجنب تثبيط الاستثمار والإبداع).
الحق أن المجتمع المدفوع بالرخاء المشترك ليس بعيد المنال. لكن الوصول إلى هناك يتطلب العمل العاجل للتوفيق بين التكنولوجيا واحتياجات العمال، ومنع الاحتكار، وإصلاح القانون الضريبي حتى يتسنى لنا تمويل الاستثمارات التي نحتاج إليها. وستكون استعادة البنية المؤسسية من فترة ما بعد الحرب مهمة لا يستطيع القيام بها سوى البشر.
* دارون أسيم أوغلو، أستاذ علوم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلف مشارك في كتاب "لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار، والفقر وممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية (سيصدر قريباً من مطبعة بنجوين في سبتمبر 2019)
https://www.project-syndicate.org
...........................