العولمة عند مفترق طرق

بروجيكت سنديكيت

2019-01-13 04:57

جوردون براون

لندن- سواء أدرك المرء هذه الحقيقة أو لم يدركها، فإن عام 2018 ربما كان نقطة تحول تاريخية. الواقع أن العولمة التي أديرت بشكل رديء أفضت إلى نشوء حركات قومية تسعى إلى "استعادة السيطرة"، فضلا عن موجة متزايدة القوة من تدابير الحماية التي تقوض النظام الدولي الذي قادته أميركا طوال سبعين عاما. والآن باتت الساحة ممهدة أمام الصين لإنشاء مؤسسات دولية موازية، وهذا من شأنه أن يقودنا إلى عالَم منقسم بين نظامين متنافسين لحكم العالَم.

أيا كان ما سيحدث في السنوات القليلة المقبلة، فمن الواضح بالفعل أن العقد المنصرم، من 2008 إلى 2018، كان بمثابة تحول زمني في ميزان القوى الاقتصادية. فعندما توليت رئاسة قمة مجموعة العشرين في لندن في أوج الأزمة المالية العالمية، كانت أميركا الشمالية وأوروبا تمثلان نحو 15% من سكان العالَم، لكنهما شكلتا 57% من النشاط الاقتصادي الإجمالي، فضلا عن 61% من الاستثمار، ونحو 50% من التصنيع، وما يقرب من 61% من الإنفاق الاستهلاكي العالمي.

لكن مركز الجاذبية الاقتصادية العالمي تحول منذ ذلك الحين. ففي حين كان نحو 40% من الإنتاج، والتصنيع، والتجارة، والاستثمار يقع خارج الغرب في عام 2008، فقد ارتفعت النسبة إلى أكثر من 60% اليوم. ويتوقع بعض المحللين أن تمثل آسيا نحو 50% من الناتج الاقتصادي العالمي بحلول عام 2050. صحيح أن نصيب الفرد في الدخل في الصين ربما يظل أقل من نصف نظيره في الولايات المتحدة في عام 2050؛ لكن حجم الاقتصاد الصيني الهائل ربما يثير رغم ذلك تساؤلات جديدة حول الحوكمة العالمية والسياسة الجغرافية.

تحت إدارة جديدة

بعد مرور عشرات السنين منذ تأسست مجموعة الدول السبع ــ كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة ــ في سبعينيات القرن العشرين، كانت المجموعة تهيمن على الاقتصاد العالمي بالكامل. ولكن بحلول عام 2008، بدأت أنا وآخرون ننتبه إلى عملية تغيير جارية للحرس. فمن وراء الكواليس، كان قادة أميركا الشمالية وأوروبا يناقشون ما إذا كان الوقت حان لإنشاء منتدى رئيسي جديد للتعاون الاقتصادي يشمل الاقتصادات الناشئة.

كانت هذه المناقشات حامية غالبا. فعلى جانب كان أولئك الذين أرادوا الإبقاء على المجموعة صغيرة (أشار اقتراح أميركي مبكر إلى مجموعة السبع + خمس)؛ وعلى الجانب الآخر كان أولئك الذين أرادوا أن تكون المجموعة شاملة قدر الإمكان. وحتى يومنا هذا، ظلت نتائج تلك المفاوضات المبكرة غير مفهومة بشكل كامل. وعندما التقى أعضاء مجموعة العشرين في لندن في إبريل/نيسان 2009، كانت المجموعة تضم فعليا 23 دولة ــ مع تمثيل إثيوبيا لأفريقيا. وكانت تايلاند تمثل جنوب شرق آسيا، وانضمت هولندا وإسبانيا إلى القائمة الأوروبية الأصلية ــ فضلا عن الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن حتى مجموعة الأربع والعشرين بحكم الأمر الواقع هذه لم تعكس بشكل كامل مدى السرعة التي كان يتغير بها العالَم. فاليوم أصبح اقتصاد كل من نيجيريا، وتايلاند، وإيران، والإمارات العربية المتحدة أكبر من أصغر اقتصاد في مجموعة العشرين (جنوب أفريقيا)، ومع ذلك لم تلتحق أي من هذه الدول بعضوية المجموعة.

على نحو مماثل تتحرك الأرض أيضا تحت ركائز صندوق النقد الدولي. فعندما جرى التفاوض على بنود اتفاق صندوق النقد الدولي الأصلية في عام 1944، نشأ بعض الخلاف حول ما إذا كان من الواجب أن تتخذ الهيئة الجديدة من أوروبا أو الولايات المتحدة مقرا لها. وفي النهاية، تقرر أن يكون مقرها في عاصمة الدولة التي تتمتع بأكبر حصة من حقوق التصويت (والتي تتبع حصة الدولة في الاقتصاد العالمي). وهذا يعني أنه في غضون عقد من الزمن أو عقدين، تستطيع الصين أن تطالب بنقل مقر صندوق النقد الدولي إلى بكين.

من المؤكد أن صندوق النقد الدولي لن ينتقل من واشنطن العاصمة (فسوف تترك أميركا صندوق النقد الدولي قبل أن يغادر صندوق النقد الدولي أميركا). ولكن تبقى نقطة مهمة: إن العالَم يشهد عملية إعادة توازن هائلة، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل وأيضا على المستوى الجيوسياسي. وما لم يتمكن الغرب من إيجاد وسيلة لدعم التعددية في عالَم متعدد الأقطاب على نحو متزايد، فسوف تستمر الصين في تطوير مؤسسات مالية وحكومية بديلة، كما فعلت عندما أنشأت البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية ومنظمة شنغهاي للتعاون.

السيادة الجوفاء

يدل الصراع التجاري الدائر حاليا بين الولايات المتحدة والصين على تحول أكبر في القوة المالية العالمية. فعلى السطح، تدور المواجهة بين إدارة ترمب والصين حول التجارة، مع إضافة المنازعات حول التلاعب بالعملة على سبيل الاحتياط. ولكن من خطابات ترمب، يستطيع المرء أن يدرك أن المعركة الحقيقية تدور حول شيء أكبر: مستقبل الهيمنة التكنولوجية والقوة الاقتصادية.

في حين يستشعر ترمب على الأقل التهديد المتنامي للسيادة الأميركية، فإنه يتجاهل الاستراتيجية الأكثر وضوحا في الرد على هذا التهديد: على وجه التحديد، إنشاء جبهة موحدة مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في مختلف أنحاء العالَم. غير أن ترمب أكد بدلا من ذلك على الامتياز المتمثل في العمل بشكل أحادي، وكأن أميركا لا تزال تحكم عالم أحادي القطب. ونتيجة لهذا فإن دربا من الخراب الجيوسياسي يسير في أعقاب ترمب أينما ذهب.

بين أمور أخرى، انسحب ترمب من اتفاق إيران النووي واتفاق باريس المناخي، وأعلن أن الولايات المتحدة تعتزم الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى مع روسيا والتي ظلت سارية طوال 31 عاما. علاوة على ذلك، عرقلت إدارته تعيين القضاة في هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية؛ واختزلت مجموعة السبع ومجموعة العشرين باعتبارهما كيانين بلا أي أهمية تقريبا؛ وهجرت اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، مما فتح الباب أمام الصين لتأكيد هيمنتها الاقتصادية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

لا يخلو الأمر من مفارقة عميقة هنا. فعندما كانت أميركا تدير فعليا ذلك العالَم الأحادي القطب، كانت تفضل في عموم الأمر العمل من خلال مؤسسات متعددة الأطراف. ولكن الآن بعد أن أصبح العالَم أقرب إلى تعدد الأقطاب، تسعى إدارة ترمب إلى تولي الأمر بمفردها. والسؤال هو ما إذا كانت هذه الجهود لاستعادة شكل غير مخفف من السيادة ينتمي إلى القرن التاسع عشر قد تنجح على الإطلاق.

في ما يتصل بالتجارة، ربما تبدو سياسات "أميركا أولا" التي تنتهجها إدارة ترمب لأول وهلة وكأنها تعمل على الحد من الواردات. لكنها تؤثر أيضا على المدخلات المستوردة المستخدمة في صناعة منتجات تصدرها الولايات المتحدة، والتي لن تسلم من الآثار الضارة المترتبة على زيادة الحواجز التجارية ارتفاعا. وما يزيد الأمور سوءا على سوء أن الموجة الحالية من سياسات الحماية ربما تخلق ضغوطا مالية جديدة، حيث يطالب عمال التصنيع والمزارعون المطحونون في الولايات المتحدة بالتعويض من خلال إعانات الدعم أو الإعفاءات الضريبية.

غيوم العاصفة تتجمع

إذا أردت توضيحا أكثر فجاجة للمخاطر التي تفرضها سياسات الحماية والسياسات المالية التوسعية التي تنتهجها الولايات المتحدة، فما عليك إلا أن تتأمل في ما كان ليحدث في حال حدوث انكماش اقتصادي عالمي آخر. في عام 2008، كانت الحكومات في مختلف أنحاء العالَم قادرة على خفض أسعار الفائدة، وتقديم سياسات نقدية غير تقليدية، والمواظبة على الحوافز المالية. فضلا عن ذلك، كانت هذه الجهود خاضعة للتنسيق على مستوى العالَم لتعظيم تأثيرها. فكانت البنوك المركزية تعمل في تعاون وثيق، ومع انعقاد قمة قادة مجموعة العشرين في عام 2009، شهدنا قدرا لا نظير له من التعاون بين رؤساء الدول ووزارات المالية على مستوى العالَم.

والآن لننتقل إلى المستقبل في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، عندما يكون الحيز المتاح للمناورة النقدية والمالية أقل كثيرا. يكاد يكون من المؤكد أن أسعار الفائدة ستكون أشد انخفاضا من أن يتمكن صانعو السياسات النقدية من توفير حوافز فعّالة؛ كما أن الميزانيات العمومية الضخمة الموروثة من الأزمة الأخيرة كفيلة بأن تجعل القائمين على البنوك المركزية يتوخون الحذر في اللجوء إلى المزيد من التيسير الكمي.

وسوف تكون السياسة المالية مقيدة على نحو مماثل. فاعتبارا من عام 2018، تجاوز متوسط نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي 80%؛ وأصبح العجز الفيدرالي الأميركي على المسار تجاوز 5% من الناتج المحلي الإجمالي؛ كما تتعامل الصين مع ديون عامة وخاصة متزايدة الحجم. وفي ظل هذه الظروف، سيكون توفير الحافز المالي أكثر صعوبة مما كان عليه في السنوات التي أعقبت الأزمة الأخيرة، وسوف يكون التنسيق عبر الحدود أكثر ضرورة. ومن المؤسف أن الاتجاهات الحالية تشير إلى أن الحكومات ستكون أكثر ميلا إلى إلقاء اللوم على بعضها بعضا من استعدادها للتعاون لوضع الأمور في نصابها الصحيح.

وعلى هذا فإننا نواجه مفارقة واضحة. فقد جلب الاستياء من العولمة موجة جديدة من سياسات الحماية وأحادية القرار، لكن معالجة مصادر هذا الاستياء من غير الممكن أن تتحقق إلا من خلال التعاون. ولن يتسنى لأي دولة بمفردها أن تحل مشاكل مثل اتساع فجوة التفاوت، وركود الأجور، وعدم الاستقرار المالي، والتهرب الضريبي، وتغير المناخ، وأزمات اللاجئين والمهاجرين. ومن الواضح أن التقهقر إلى سياسات القوى العظمى من القرن التاسع عشر من الممكن أن يقوض على نحو حاسم كل الرخاء الذي نجحنا في تحقيقه في القرن الحادي والعشرين.

رغم ذلك، وبعيدا عن تمثيل رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل، كان شعار "أميركا أولا" أشبه بحالة تشنج ناتجة عن إلحاق الأذى بالذات من قِبَل قوة كانت مهيمنة ذات يوم ولا تزال متعلقة بالماضي. والعودة إلى القومية التي عبرت عنها معاهدة فرساي لا تعني سوى تجاهل الفارق الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه والذي يمكن إحداثه من خلال العمل الحكومي المعزز.

الحجة لصالح الأمل

مع تحول أميركا بعيدا عن التعددية، تعيد الصين صياغة المشهد الجيوسياسي العالمي بمفردها من خلال البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، وبنك التنمية الجديد، ومبادرة الحزام والطريق، وغير ذلك من السبل. ولكن برغم أن سياسات الصين الحالية من شأنها أن تخلف عواقب بعيدة الأمد على منطقة آسيا والمحيط الهادئ والعالَم، فإن أغلبنا لم يتأملوا بعد في هذه العواقب بالقدر اللائق من العناية.

مع ذلك، لا ينبغي لمواجهات القوى العظمى أن تكون الوضع المعتاد الجديد. كان فشل إطلاق صاروخ يحمل رائدي فضاء من الولايات المتحدة وروسيا إلى المحطة الفضائية الدولية في أكتوبر/تشرين الأول حدثا يشبه ما آلت إليه حال العلاقات الجيوسياسية اليوم. ومع ذلك، خدمت تلك الواقعة أيضا كتذكرة لنا بتاريخ أعمق للتعاون المتعدد الأطراف وما أنجزه. في عموم الأمر، شاركت 18 دولة في رحلات إلى المحطة الفضائية الدولية، التي تؤوي حاليا فريقا من رواد الفضاء الأميركيين والروس والألمان يعملون معا.

ورغم أن سباق الفضاء بدأ كمباراة محصلتها صِفر في أوج الحرب الباردة، فقد تحول إلى مجال للتعاون الدولي المستدام. واليوم، تعتمد برامج الفضاء الروسية والأميركية على بعضها بعضا بشكل متبادل، حتى أن رواد الفضاء الأميركيين لا يمكنهم الطيران إلى محطة الفضاء الدولية دون قاذفات الصواريخ الروسية، ولا يستطيع رواد الفضاء الروس أن يبقوا على قيد الحياة على متن محطة الفضاء الدولية دون الاستعانة بتكنولوجيا أميركية.

بطبيعة الحال، ربما تنتهي هذه الشراكة التي ظلت قائمة لفترة طويلة. ففي عام 2011، أقرت الولايات المتحدة بالفعل قانونا يمنع الصين من الوصول إلى محطة الفضاء الدولية، أو العمل مع الإدارة الوطنية الأميركية للملاحة الجوية والفضاء (وكالة ناسا للفضاء). ومع ذلك، إذا تمكنت قوى متخاصمة مثل الولايات المتحدة وروسيا من إيجاد سبيل للتعاون في الفضاء، فمن المؤكد أن شيئا مماثلا يمكن تحقيقه على الأرض.

يتعين علينا أن نتشبث بأهداب الأمل. فقد دامت الحرب الباردة أربعة عقود مؤلمة من الزمن، خاصة وأن الاتحاد السوفييتي رفض الاعتراف بقيمة الأسواق والملكية الخاصة، وتجنب التواصل مع الغرب. ولا يمكننا أن نقول نفس الشيء عن الصين. فأكثر من 600 ألف طالب صيني يدرسون في الخارج كل عام، ومنهم 450 ألف طالب يختارون الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يشكلون شبكات اجتماعية ومهنية دائمة.

بينما نستعد لمواجهة الصرعات العالمية في السنوات المقبلة، يتعين عينا أن نعمل من أجل مستقبل قوامه التعاون. وسواء كانت القضية هي الاستقرار المالي، أو تغير المناخ، أو الملاذات الضريبية، فالحجة قوية لصالح افتراض مفاده أن تحقيق المصالح الوطنية على أفضل وجه يتأتى من خلال التعاون الدولي. ولكن مع إعادة تنظيم سلاسل العرض، والتفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الثنائية والإقليمية، وملاحقة الحكومات الإقليمية ــ وخاصة حكومة ولاية كاليفورنيا ــ لاتفاقيات خاصة على المستوى العالمي، سوف نضطر إلى توسيع نطاق هذا التعاون.

لقد وصلت العولمة إلى مفترق طرق. وعلى نحو أو آخر، سوف تحتاج المنظمات الدولية والأطر المتعددة الأطراف إلى استيعاب "الأقطاب" الجديدة للقوة الجيوسياسية الناشئة. الواقع أن القرارات التي نفكر في اتخاذها اليوم من شأنها أن تخلف عواقب كبرى وبعيدة المدى على مستقبل كوكبنا. والسؤال الوحيد الآن هو: هل ستتخذ هذه القرارات بشكل أحادي أو تعاوني؟ يتعين علينا أن نستحضر إرادة أسلافنا من فترة ما بعد الحرب، حتى يتسنى لنا نحن أيضا "حضور عملية خلق" نظام يناسب لحظتنا في التاريخ.

* جوردون براون، رئيس الوزراء السابق ومستشار الخزانة البريطانية ، والمبعوث الخاص للأمم المتحدة للتعليم العالمي ورئيس اللجنة الدولية لتمويل فرص التعليم العالمية. يرأس المجلس الاستشاري لمؤسسة Catalyst
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي