نقاط ضعف ناشئة في اقتصادات ناشئة

بروجيكت سنديكيت

2018-08-28 06:35

مايكل سبينس

 

ميلانو ــ قبل فترة وجيزة من انهيار بنك الاستثمار الأميركي ليمان براذرز الذي أشعل شرارة أزمة مالية تقييما لاستراتيجيات النمو في الاقتصادات الناشئة، بهدف استخلاص الدروس من الأبحاث والخبرات السابقة. وبعد مرور أكثر من عشر سنوات يظل الكثير من هذه الدروس ــ إن لم يكن أغلبها ــ مُهمَلا.

في الاقتصادات الناشئة، يُعَد نمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل متوسط أو مرتفع بشكل مضطرد المفتاح لدفع التنمية وزيادة الدخول. بطبيعة الحال، تنتج الأزمات حتما انتكاسات كبرى تحتاج إلى فترات تعافي طويلة، مما يؤدي إلى تقليص نمو الدخل والثروة بشكل كبير. لكن عشر سنوات فترة طويلة، والواقع أن الفجوة بين ما تمليه الخبرة من تصرفات واجبة على الاقتصادات الناشئة وبين ما كانت تقوم به هذه الاقتصادات من تصرفات بالفعل تظل كبيرة.

وفي حين حققت بعض البلدان نموا متوسطا أو مرتفعا على نحو مستدام، فإنها اعتمدت على مستويات عالية من الاستثمارات العامة والخاصة التي مولتها في الأساس المدخرات المحلية. على النقيض من ذلك، يعمل العجز الضخم المستمر في الحساب الجاري على خلق نقاط ضعف ويؤدي غالبا إلى انقطاعات واضطرابات، مع تغير الظروف المالية الخارجية.

ويعتبر الاقتراض بالعملات الأجنبية الصعبة سلوكا محفوفا بالمخاطر بشكل خاص، حيث قد يؤدي انخفاض قيمة العملة المحلية إلى ارتفاع الخصوم بشكل كبير. وبالتالي، ينبغي للاقتصادات الناشئة أن تعمل على تقييد مستويات الديون، وإن كان مدى الاحتياج إلى هذا التقييد يعتمد على النمو، حيث تعمل الزيادات القوية الصامدة في الناتج المحلي الإجمالي على التقليل من نسب الروافع المالية.

وتشكل قيمة العملة أيضا أهمية واضحة في هذا السياق. ذلك أن خفض قيمة العملة بشكل مستمر، من خلال تراكم الاحتياطيات من النقد الأجنبي، يقلل من الحافز لملاحقة الإصلاح البنيوي وتحقيق نمو الإنتاجية. ويُعَد هذا عنصرا مهما في فخ الدخل المتوسط المعروف. وعلاوة على ذلك، يكون العائد على أصول الاحتياطي الأجنبي منخفضا إلى حد كبير عادة، لأن قيمة العملة المحلية سوف ترتفع (حتى لو ظل تقديرها أقل من قيمتها الحقيقية) إذا كان الاقتصاد في نمو ــ وهو النمط الذي يمكن الحفاظ عليه لفترة ممتدة.

والمخاطر المرتبطة بالإفراط في تقدير قيمة العملة أكثر شدة. فبادئ ذي بدء، يتأثر النمو وتشغيل العمالة في القطاع القابل للتداول بشكل سلبي، خاصة وأن معدلات التبادل التجاري لا تتطابق مع مستويات إنتاجية الاقتصاد.

علاوة على ذلك، تأتي المبالغة في تقييم أي عملة مصحوبة عادة بعجز في الحساب الجاري والاعتماد المفرط على رأس المال الأجنبي لتمويل الاستثمار. وإذا كانت الظروف المالية الخارجية مواتية، يصبح من الممكن الإبقاء على هذا النمط لبعض الوقت. ولكن كما أظهرت التجربة مؤخرا فإن تغير مثل هذه الظروف قد يجبر الدول إما على السماح لقيمة العملة بالانخفاض، أو تأخير ذلك من خلال شراء كميات ضخمة من العملة المحلية باستخدام الاحتياطيات من العملة الأجنبية لدى البنك المركزي.

في كل الأحوال، تفرض الأسواق في نهاية المطاف انخفاضا حادا لقيمة العملة. ونتيجة لهذا، تصبح الظروف الائتمانية محكمة، وتتدهور الميزانيات العمومية، (وخاصة إذا كانت الشركات أو البنوك اقترضت بعملة أجنبية)، وتتلقى عقود الاستثمار والنمو ضربة أخرى.

تنشأ هذه الاختلالات نتيجة لنهج عدم التدخل في إدارة حسابات رأس المال، استنادا إلى افتراض مفاده أن الحوافز في أسواق رأس المال واستراتيجيات النمو تأتي متماشية دوما. ولكن من الصعب في حقيقة الأمر إيجاد أي مثال لدولة نجحت في تحقيق النمو المستدام بالاستعانة بمثل هذا النهج. من المؤكد أن أسواق رأس المال ليست العدو. لكن توازي المصالح بين المستثمرين الخارجيين وصناع السياسات المحلية ليس مثاليا في أفضل تقدير.

يؤكد المستثمرون المخضرمون بشكل روتيني أن النمو الاقتصادي لا يصلح كمحدد للعوائد الاستثمارية. وهي نقطة صحيحة. ذلك أن العوائد على أي استثمار تعتمد على تقييم الأصول المالية، بين عوامل أخرى. وفي ظل نموذج نظري مبسط تجري تحديد هذه التقييمات من خلال نمو التدفقات النقدية الأساسية المتوقعة فحسب.

قد يزعم المرء أنه في حين من الممكن أن تتباعد التقييمات وديناميكيات النمو الأساسية في الأمدين القريب والمتوسط، فإنها تتقارب في نهاية المطاف. وسواء صح ذلك أو لم يصح فإن أغلب المستثمرين الماليين لا يبالون بالأمد البعيد، ولا يحصل وكلاؤهم عادة على مكافآت عن الأداء الجيد في الأمد البعيد.

يدرك المستثمرون الماليون أن العائدات الكافية ربما تستمر لبعض الوقت، لكن هذه الاختلالات والمخاطر ربما تستلزم الخروج المتسرع في أي لحظة. وعلى حد تعبير الخبير الاقتصادي في شؤون الأسواق الناشئة روبرت سوبارامان في عنوان تقرير حديث: "استمتع بالحفل، ولكن ابق على مقربة من الباب".

ورغم أن هذا منطقي من منظور المستثمرين، فإنه لا يدعم مصلحة صناع السياسات في تحقيق النمو المستدام. ولهذا السبب لابد أن تركز إدارة رأس المال الناجحة على تعزيز الاستقرار، والسيطرة على المخاطر، والمواءمة بين تدفقات أسواق رأس المال والنمو الاقتصادي وأهداف تشغيل العمالة.

في فترة ما بعد الأزمة، أدت أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض في الاقتصادات المتقدمة إلى دفع تدفقات رأس المال باتجاه أصول الأسواق الناشئة ذات العوائد الأعلى المقومة بالعملة المحلية. في الوقت نفسه، اقترضت شركات عديدة في الأسواق الناشئة بالدولار الأميركي أو اليورو، وفي بعض الحالات بعائدات دولارية ضئيلة أو منعدمة لكي تتناسب مع خدمات الدين المقومة بالدولار.

وكما تُظهِر التجربة، فإن هذا نهج محفوف بالمخاطر. فما دامت أسعار الفائدة منخفضة للغاية، فإن ما ينطوي عليه هذا من علاوات مخاطر (وأسعار أصول في عموم الأمر) يظل أدنى من التقييمات المعقولة للمخاطر الفعلية الناشئة المتأصلة في النظام. ومن منظور المستثمرين الذين يسعون إلى تحقيق مصالح الأمد القريب، فإن هذا هو الحفل الذي يستحق أن يستمتعوا به ــ من موقع بالقرب من الـمَخرَج.

من منظور العديد من الاقتصادات الناشئة، يشكل السعي إلى إعادة التوازن إل أنماط النمو ضرورة أساسية، مع التركيز بشكل أكبر على المرونة والقدرة على الصمود، ونهج أكثر نشاطا في إدارة الديون وتدفقات رأس المال وتأثيراتها على أسعار الأصول، وأسعار الصرف، والنمو. وخلافا لذلك فإن المخاطر المحيطة بأنماط النمو غير المستدامة من شأنها أن تؤدي إلى توقف الحفل بشكل مفاجئ، وهذا بدوره ربما يشعل شرارة العدوى المالي. وبالفعل، مع تسبب التوترات التجارية المتصاعدة في توليد المزيد من عدم اليقين، يتجه المستثمرون القلقون خلسة نحو الباب.

* مايكل سبينس، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية نيويورك ستيرن لإدارة الأعمال، ومؤلف "التقارب المقبل: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد الأوجه
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي