إنقاذ الوسط المنكمش

بروجيكت سنديكيت

2018-04-04 05:38

MOHAMED A. EL-ERIAN

 

لندن ــ ذات يوم كان العديد من المراقبين ينظرون إلى التواجد عند وسط عملية التوزيع ــ اجتماعيا، وسياسيا، وفي عالَم الأعمال ــ باعتباره نتيجة محببة وداعمة للاستقرار ومرغوبة. ومن العمل كمرساة في مجتمع الطبقة المتوسطة إلى رشاقة ومرونة الشركات المتوسطة الحجم، كان كثيرون ينظرون إلى الوسط على أنه مكان متسق مع الرفاهية الفردية والجماعية. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أصبح الوسط أقل استقرارا، وأقل وضوحا في ما يتصل بتصرفاته المحتملة، وأكثر مراوغة، وأصبحت أوليته ــ في الاقتصاد، والسياسة، والأعمال، وإدارة الأصول، بل وحتى الرياضة ــ غير قابلة للاستدامة على نحو متزايد.

الواقع أن الوسط تآكل ــ أو بات معرضا لخطر التآكل ــ بفِعل تغيرات بنيوية، فضلا عن تأخر الاستجابات في عالَم الأعمال والسياسات، حيثما نظرت تقريبا. وإذا استمر هذا الاتجاه ــ وهذا محل مناقشة ــ فسوف تكون العواقب بعيدة المدى.

لعقود من الزمن، ساعد ارتفاع دخل الأسرة المتوسطة في الاقتصادات المتقدمة على ترسيخ نمو طبقة متوسطة كانت تميل غالبا إلى اختيار الوسط السياسي. وإلى جانب مؤسسات مستقرة وجديرة بالثقة، عملت الطبقة المتوسطة كعامل استقرار لمجتمع أكثر ازدهارا. وفي عالَم الأعمال أيضا، كان المراقبون ينظرون إلى البيئة حيث ازدهرت الشركات المتوسطة الحجم على أنها بيئة مرغوبة، لأنها ساعدت في تسوية الخلافات بين الشركات الصغيرة التي تفتقر إلى قوة دفاتر الميزانية العمومية وميل نظيراتها الأكبر حجما إلى الانزلاق إلى احتكار القِلة الراضية عن الذات.

بيد أن الدخول المتوسطة أصابها الركود، والذي تسبب تدريجيا، مقترنا بتأثير التكنولوجيا وعدم كفاية اهتمام السياسات بالتأثيرات التوزيعية المحتملة الناجمة عن العولمة الجامحة، في تفريغ الطبقة المتوسطة في مختلف أنحاء العالَم. ونتيجة لهذا، أصبح الأمل في حياة مُرضية في الطبقة المتوسطة، والواقع الذي يحمل إمكانية الحراك الاجتماعي الصاعد، في انحسار.

بالإضافة إلى إضعاف قوة اجتماعية مهمة داعمة للاستقرار، أفضى تقليص الطبقة المتوسطة إلى تغذية سياسات الغضب وتقويض الوسط السياسي، الذي كان حتى الآن خاضعا لهيمنة أحزاب راسخة. ومع تزايد الاستقطاب والتشظي، أصبح من الأصعب كثيرا ملاحقة سياسات ثنائية الحزبية.

كما انعكس هذا الاتجاه في تراجع ثقة عامة الناس في رأي الخبراء والمؤسسات الراسخة. وأدى كل هذا إلى دعم نمو أحزاب سياسية أكثر تطرفا و/أو حركات مناهضة للمؤسسة.

كما يثبت الوسط كونه أقل دعما للأعمال واستقرارها. ففي قطاع تلو الآخر، تواجه الشركات المتوسطة الحجم قدرا أعظم من المنافسة من قِبَل الشركات الصغيرة المعطلة للنظم القائمة و/أو الشركات الكبرى. ويشمل هذا القطاع المالي، حيث تآكلت استدامة الشركات المتوسطة الحجم بفِعل التكاليف التنظيمية وتكاليف الامتثال الأعلى. ويتجلى هذا بوضوح في عدد عمليات الدمج بين شركات إدارة الأصول المتوسطة الحجم والتي تفتقر إلى شركة أم قوية.

والرياضة أيضا تخسر وسطها. ففي غياب آليات التسوية القسرية (كتلك المستخدمة في اتحاد كرة القدم الوطني في الولايات المتحدة)، أصبحت كرة القدم الأوروبية الآن خاضعة لهيمنة حفنة من الفرق التي تحولت إلى شركات عملاقة.

يلقي هذا المثال الأخير الضوء أيضا على تساؤلات مهمة تتعلق بما ينتظرنا في المستقبل. فهل يكون تآكل الوسط أمرا حتميا حقا؟ وهل أصبحنا في خضم ما يسميه أهل الاقتصاد "التوازن المتعدد"، حيث يتسبب تحول غير موات في جعل حدوث تحول أخر أشد سوءا أكثر احتمالا؟ أو هل يؤدي مزيج التراجع الطبيعي باتجاه الوسط والسياسات المستجيبة إلى استعادة سلامة الوسط وفوائده؟

نظرا للتغيرات السريعة في التكنولوجيا والارتباكات السياسية، بات من الصعب أن نعرف ماذا ينتظرنا. ولكن يبدو أن هناك مؤشرات كافية تشير إلى إمكانية استعادة الوسط القوي في مناطق بعينها إذا تكيفت السياسات بسرعة كافية. ولعل هذه هي الحال عندما يتعلق الأمر بالسياسات الاقتصادية، حيث يوجد أخيرا اعتراف أكبر بأهمية التغييرات البنيوية والتأثيرات التوزيعية.

على سبيل المثال، بدأ أهل الاقتصاد يقاومون الميل إلى الاعتماد على عدد كبير للغاية من الافتراضات التبسيطية التي تسهل عملية وضع النماذج لكنها معزولة عن الواقع. كما بدأ أهل الاقتصاد في إصلاح الشمول المنقوص للروابط المالية والرؤى المستلهمة من العلوم السلوكية، فضلا عن التركيز المفرط على ظروف التوازن المنفرد. وهم عاكفون على تعميق فهمهم للتعجيل بالتغيرات البنيوية المرتبطة بالتكنولوجيا، وتأثير الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة، وسياسات الغضب.

كلما أدخلت هذه التغييرات على سياسات أفضل، كلما تعاظم احتمال تمكين الأحزاب السياسية من تقديم أجندات أكثر إقناعا، وخاصة إذا تقدم بها قادة أكثر مشاركة.

من المرجح أيضا أن يؤدي تراجع الوسط في عالَم الأعمال إلى حدوث بعض النكسات، وإن كان التأثير سيختلف بشكل كبير في الصناعة وسوف يواجه بتحديات مستمرة من قِبَل رياح بنيوية معاكسة. والأرجح أن يحدث هذا في بعض الصناعات، مثل التكنولوجيا الضخمة، حيث من المرجح أن تكون الاستجابة التنظيمية إحدى نتائج ردة فعل عنيفة متطورة، وأن تكون أقل ترجيحا بالنسبة لإدارة الأصول.

الواقع أن هذه التطورات كفيلة بإبطاء ما كان حتى الآن يشكل هجرة معززة ذاتيا بعيدا عن الوسط. لكن استعادة الإيمان بجدوى الوسط والرغبة في تعزيزه ــ وهو الاعتقاد بأن الوسط قوي بالدرجة الكافية لتعزيز الاستقرار والرخاء ــ سوف تستغرق بعض الوقت وسوف تتطلب جهودا مستدامة. والواقع أن فقدان الإيمان على هذا النحو، والذي يزداد تعقيدا بفِعل التغير التكنولوجي المتسارع وتفتت النظام الدولي، يقطع شوطا طويلا نحو تفسير لماذا يبدو المستقبل أكثر غموضا، ولماذا يشعر الشخص المتوسط بقدر أكبر من عدم الاستقرار.

* محمد العريان، رئيس المستشارين الاقتصاديين في اليانز وعضو في اللجنة التنفيذية الدولية، كما رأس مجلس التنمية العالمية للرئيس باراك أوباما
https://www.project-syndicate.org

..........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي