الهمج على أبواب السياسة النقدية
بروجيكت سنديكيت
2017-09-05 04:40
اندرو شنغ/شياو قنغ
هونج كونج ــ تبدو الأسواق المالية اليوم مزدهرة. فقد حقق متوسط داو جونز الصناعي، ومؤشر S&P 500، ومؤشر ناسداك المركب مستويات غير مسبوقة من الارتفاع مؤخرا، وكان أداء الأسواق المالية في الاقتصادات الناشئة أيضا قويا، مع بحث المستثمرين عن الاستقرار وسط حالة واسعة النطاق من عدم اليقين. ولكن لأن هذا الأداء لا يقوم على أساسيات السوق فإنه غير مستدام ــ وبالغ الخطورة.
يرى محمد عبد الله العريان أن الدرس المهدر من الأزمة المالية في عام 2007 يتلخص في كون نماذج النمو الاقتصادية "تعتمد بإفراط على السيولة والروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة) ــ من المؤسسات المالية الخاصة، ثم من البنوك المركزية". والواقع أن أحد المحركات الرئيسية لأداء الأسواق المالية اليوم يتمثل في توقع استمرار سيولة البنوك المركزية.
بعد أن كشف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عن قراره الشهر الماضي بترك أسعار الفائدة بلا تغيير، سجل متوسط داو جونز الصناعي أرقاما قياسية للتداولات خلال اليوم والإغلاق؛ وكذا فعل مؤشر ناسداك الذي حقق أعلى مستوياته على الإطلاق. والآن، تنتظر الأسواق المالية الإشارات الواردة من اجتماع هذا العام للقائمين على البنوك المركزية الرئيسية في العالَم في جاكسون هول بولاية وايومنج.
ولكن هناك عامل آخر ربما يزيد من زعزعة استقرار النظام الهش بالفعل والذي يقوم على الاستدانة والسيولة: العملات الرقمية. وعلى هذه الجبهة، كانت سيطرة صناع السياسات والهيئات التنظيمية أقل كثيرا.
وُلِد مفهوم العملات المشفرة الخاصة من عدم الثقة في الأموال الرسمية. في عام 2008. وَصَف ساتوشي ناكاموتو ــ الخالق الغامض لعملة البتكوين ــ أول عملة رقمية لامركزية بأنها "نسخة نقية من النظير إلى النظير من النقود الإلكترونية"، والتي "تسمح بإرسال المدفوعات عبر الإنترنت مباشرة من طرف إلى آخر من دون المرور عبر مؤسسة مالية".
وفي عام 2016 ميزت ورقة عمل صادرة عن صندوق النقد الدولي بين العملة الرقمية (عطاء قانوني يمكن تحويله رقميا) والعملة الافتراضية (عطاء غير قانوني). فالبتكوين عملة مشفرة، أو شكل من أشكال العملة الافتراضية التي تستخدم التشفير ودفاتر موزعة (بلوك تشين) للإبقاء على المعاملات علنية ومجهلة الاسم.
في كل الأحوال، الحقيقة هي أنه بعد مرور تسع سنوات منذ قدم ناكاموتو عملة البتكوين، يوشك مفهوم المال الإلكتروني الخاص على تغيير مشهد الأسواق المالية. ففي شهرنا هذا، بلغت قيمة البتكوين 4.483 دولارا، وبلغ سقف السوق نحو 74.5 مليار دولار، أكبر مما كان عليه في بداية عام 2017 بنحو خمس مرات. وسواء كانت هذه فقاعة من المحتم أن تنهار، أو علامة على تحول أكثر جذرية في مفهوم المال، فإن العواقب بالنسبة للعمل المصرفي المركزي والاستقرار المالي ستكون عميقة.
في مستهل الأمر كان القائمون على البنوك المركزية والهيئات التنظيمية داعمين للإبداع المتمثل في البتكوين والبلوك تشين التي يقوم عليها. ومن الصعب أن نزعم أنه لا ينبغي السماح للناس باستخدام أصل جرى إنشاؤه بشكل خاص لتسوية المعاملات من دون تدخل الدولة.
بيد أن السلطات الوطنية كانت حذرة من الاستخدامات غير القانونية المحتملة لمثل هذه الأصول، والتي انعكست في سوق الإنترنت المظلمة التي مكنتها عملة البتكوين والتي أطلق عليها اسم طريق الحرير، والتي كانت تعمل كمقاصة للمخدرات غير المشروعة وأمور أخرى. وقد أغلقت سوق طريق الحرير في عام 2013، ولكن المزيد من هذه الأسواق ظهرت مؤخرا. وعندما فشلت بورصة البتكوين في عام 2014، بدأت بعض البنوك المركزية، مثل بنك الشعب الصيني، تثبيط استخدام البتكوين. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أطلقت لجنة المدفوعات والبنية الأساسية للسوق التابعة لبنك التسويات الدولية، والتي تتألف من عشرة بنوك مركزية رئيسية، دراسة متعمقة للعملات الرقمية.
بيد أن خطر العملات المشفرة يمتد إلى ما هو أبعد من تسهيل الأنشطة غير المشروعة. فمثلها كمثل العملات التقليدية، لا تشتمل العملات المشفرة على قيمة جوهرية حقيقية. ولكنها، خلافا للمال الرسمي، لا تشتمل على مسؤولية مقابلة، وهذا يعني عدم وجود مؤسسة مثل بنك مركزي له مصلحة ثابتة في الحفاظ على قيمتها.
وبدلا من ذلك، تعمل العملات المشفرة استنادا إلى استعداد المشاركين في المعاملات للتعامل معها باعتبارها قَيِّمة. ومع اعتماد قيمة العرض على اجتذاب المزيد والمزيد من المستخدمين، تكتسب العملات المشفرة هيئة أشبه بهرم بونزي الاحتيالي.
مع توسع نطاق استخدام العملات المشفرة، تتزايد أيضا العواقب المحتملة المترتبة على انهيارها. تبلغ القيمة السوقية لسوق العملات المشفرة ما يقرب من عُشر قيمة المخزون المادي من الذهب الرسمي، مع القدرة على التعامل مع عمليات دفع أكبر كثيرا، نظرا لانخفاض تكاليف المعاملات. وهذا يعني أن العملات المشفرة مؤثرة جهازيا بالفعل من حيث حجمها.
ليس هناك ما يدل على المدى الذي قد يبلغه هذه الاتجاه. ومن الناحية الفنية، يُعَد المعروض من العملات المشفرة لا نهائي: يبلغ سقف البتكوين 21 مليون وحدة، ولكن هذا قابل للزيادة إذا وافق غالبية المستخدمين (الذين يضيفون سجلات المعاملات إلى الدفتر العام). ويرتبط الطلب بعدم الثقة في مخازن القيمة التقليدية. وإذا خشي الناس أن تتعرض أصولهم للخطر بفِعل الضرائب أو التنظيمات المفرطة، أو عدم الاستقرار الاجتماعي أو المالي، فسوف يتحولون على نحو متزايد إلى العملات المشفرة.
أشار تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي العام المنصرم إلى أن العملات المشفرة تستخدم بالفعل للتحايل على ضوابط التبادل ورأس المال في الصين وقبرص واليونان وفنزويلا. وفي الدول التي تواجه عدم اليقين السياسي أو الاضطرابات الاجتماعية، تقدم العملات المشفرة آلية جذابة لهروب رأس المال، مما يزيد من صعوبة الحفاظ على الاستقرار المالي المحلي.
وعلاوة على ذلك، في حين لا تلعب الدولة أي دور في إدارة العملات المشفرة، فإنها ستكون مسؤولة عن تنظيف أي فوضى تخلفها فقاعة منفجرة. واعتمادا على مكان وزمان انفجار الفقاعة، قد تكون الفوضى هائلة. وفي الاقتصادات المتقدمة التي تملك عملات احتياطية، ربما تتمكن البنوك المركزية من تخفيف الضرر. ولكن لا يمكننا أن نقول نفس الشيء عن الاقتصادات الناشئة.
الواقع أن الأنواع الجديدة الغازية لا تفرض تهديدا مباشرا على أكبر الأشجار في الغابة. ولكن لا يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تشعر الأنظمة الأقل تقدما ــ الشتلات على أرضية الغابة ــ بالآثار الضارة. والعملات المشفرة ليست مجرد أنواع جديدة يراقبها الناس باهتمام؛ بل يتعين على البنوك المركزية أن تتحرك الآن لكبح جِماح التهديدات الحقيقية التي تفرضها.