عوامل الاستقرار الذاتية في الاقتصاد
إيهاب علي النواب
2017-09-04 04:40
من الطرق المستخدمة لمواجة الزيادة (الافراط) أو الانخفاض (الشحة) في الطلب الكلي هي الوسائل المالية الذاتية، فالسياسة المالية الذاتية تعمل من داخل هيكل الضرائب والانفاق الحكوميين كرد فعل تلقائي للتضخم أو الانكماش، أما السياسة المالية التحكمية فهي عبارة عن تغيرات في الهيكل المالي تتم من خلال قرارات حكومية واعية وجارية. وقد أعتمدت الدول الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية على الوسائل الذاتية أكثر من اعتمادها على الوسائل التحكمية، اذ تفترض أن الهيكل المالي يتغير تلقائياً، فيتوسع الطلب الحكومي في حالة الكساد وينخفض في حالة التضخم. فعامل الاستقرار الذاتي هو وسيلة حكومية تعمل من داخل النظام المالي فتزيد أو تنقص التدفقات الحكومية تلقائياً الى باقي الاقتصاد المحلي ومنه استجابة للتغييرات في الظروف الاقتصادية.
ففي حالة الانكماش أو الكساد، حين يميل الناتج القومي الاجمالي (GNP- Gross National Production)، نحو الانخفاض، تعمل عوامل الاستقرار تلقائياً على زيادة التدفقات النقدية الحكومية نحو المشاريع والافراد بشكل طلب على السلع والخدمات ومدفوعات تقاعد وضمان اجتماعي ومنح واعانات، و/ أو تنكمش التدفقات النقدية من المشاريع والافراد نحو الحكومة بشكل ضرائب دخل ومبيعات وضمان اجتماعي وتقاعد. ما سيؤدي الى الحد من الانخفاض في دخول الافراد القابلة للتصرف، وبالتالي سيمكن من الحفاظ على الانقاق الاستثماري والاستهلاكي في مستويات أعلى. ويحدث العكس في حالة التضخم اذ تعمل عوامل الاستقرار الذاتي على زيادة ما تدفعه المشاريع والافراد الى الحكومة، وبالتالي الى انخفاض الحجم الكلي من الانفاق الكلي على الاستثمار والاستهلاك، وفي كلتا الحالتين يفترض أن تؤدي التغيرات الصافية في التدفقات الحكومية الى إحداث أثر مضاعف وذلك من خلال مضاعف الاستثمار.
والسؤال هنا: ما هي هذه الوسائل التي تستطيع الحكومة عن طريقها تحقيق الاستقرار في الاقتصاد تلقائياً؟
هناك أولاً الضرائب الحكومية التي ترتفع وتنخفض أسرع من الدخل القومي، وأهم هذه الضرائب ضريبة الدخل على الافراد، أما ضرائب العقار والاستهلاك والضرائب على الشركات فأنها لا تزيد أو تنقص بأسرع من الدخل القومي، غير أن ضرائب الدخل الشخصية هي ضرائب تصاعدية، مما يعني أن معدلات الضرائب ستكون مرتفعة بالنسبة لذوي الدخول العالية، ومنخفضة بالنسبة لأصحاب الدخول الوطئة. لذا فأن انخفاض الدخل القومي في حالات الانكماش والكساد سيؤدي الى انخفاض أكبر في الضرائب لأن الدخول ستتحول نحو شرائح الدخل المنخفض. أما في حالات التضخم حيث تزداد القيمة النقدية للدخل القومي، فأن شرائح الدخل الاعتيادية ستنتقل نحو الشرائح العليا وسترتفع معدلات الضرائب بسرعة أكبر من معدل الارتفاع في الدخل القومي، الامر الذي سيحد من حجم الانفاق الفردي.
وفي نفس الوقت، وعلى جانب الانفاق الحكومي، تقوم الحكومة بالعديد من المدفوعات لأغراض تحقيق الرفاه الاجتماعي كالضمان الاجتماعي، وهذه تزيد تلقائياً في حالات الانكماش وتقل تلقائياً في حالات التضخم، فعلى سبيل المثال حين يصل الاقتصاد الى حالة الاستخدام الكامل ستقل بشكل كبير التعويضات عن البطالة، بعكس حالة الانكماش التي ستزيد في البطالة ويزيد معها المدفوعات التحويلية او التعويضية، ولما كان الافراد الذين يستلمون مثل هذه التعويضات ذوي ميول حدية استهلاكية مرتفعة، فأن ذلك سيؤدي الى جعل قيمة مضاعف الاستثمار عالية كذلك.
ونتيجة لعوامل الاستقرار ، فأن الانفاق الحكومي سيرتفع تلقائياً في حالة الانكماش في حين ستنخفض الضرائب اذا لم يتغير الانفاق الحكومي ومعدلات الضرائب، وبهذه الطريقة يعوض الارتفاع التلقائي في حالة الانفاق الحكومي أية شحة في الطلب في حالة الانكماش، ويحدث العكس في حالة التضخم. بعبارة أخرى، يكمن الاثر المرغوب لعوامل الاستقرار التلقائي في الزيادة الكبيرة في نسبة الانفاق الاستهلاكي الى الدخل القومي في حالة الانكماش، وفي خفض تلك النسبة في حالة التضخم. ولأن ذلك يعني أن التغير في الطلب هو أقل بكثير من التغير في الناتج القومي، فأنه يجب أن يعني كذلك أن الاستثمار سيستجيب بدرجة أقل لأي تغير في الناتج المذكور. ونتيجة لذلك يجب أن يكون هناك مقدار أكبر من الاستثمار في حالة الانكماش ومقدار أقل منه في حالة التضخم، وهكذا تعمل هذه المؤثرات التلقائية على التخفيف من حدة التقلبات الاقتصادية.
تقييم العوامل الذاتية للاستقرار
إن فعالية عوامل الاستقرار التلقائية تبدو كبيرة وتطبيقها يبدو سهلاً، ويدافع الاقتصاديون الرأسماليون عنها دفاعاً قوياً، الا إن واقع الحال هو ان آثارها تبدو محدودة وباعتراف أقوى المدافعين عنها، فقد يكون أن هذه العوامل قد خفضت من آثار الانكماش التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، اذ ساهمت عوامل الاستقرار الذاتية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فقد استنتج (ولفريد لويز) بعد دراسة الفترات الزمنية (1948-1950-1953-1957-1959-1960و1961)، ان هذه العوامل الذاتية للاستقرار قد حدت من طول فترات الانكماش التي حدثت في هذه السنوات. وقد وصل (أنسل شارب) و(محمد خان) الى نتائج مماثلة بالنسبة للانكماش الذي حدث في الفترة 1969-1970 والفترة 1973-1975. الا أنها لم تمنع حدوث مثل هذه الانكماشات لحد الان وعلى نطاق واسع. وواقع الحال هو إن حجم التدفقات الانفاقية التي حفزتها عوامل الاستقرار الذاتية هذه لا يصل الى المستوى المطلوب لسد فجوة البطالة في أغلب الحالات التي حدثت في زمن السلم، فالنقص الدوري في الطلب الكلي يتطلب نفقات حكومية كبيرة جداً اذا ما أريد تحقيق مستوى منخفض من البطالة، وبالاضافة الى ذلك فأن من الواضح تحليلاً ان حدوث انكماش طويل وشديد سيجعل أثر هذه العوامل الذاتية محدوداً جداً، فمثلاً يمكن خفض معدلات الضرائب الى حد أدنى ومن ثم يجب أن تبقى مستقرة عند ذلك الحد، كما ان تعويضات البطالة محدودة ايضاً ليس فقط من حيث مقدارها ولكن ايضاً من حيث طول المدة التي تُستلم خلالها.
وهناك مشكلة أخرى تكمن في أن هذه العوامل قد تكون فعالة في مواجة الانتعاش التضخمي في اقتصادات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها حتى ولو لم تساعد على بدء حالة من الانكماش، فأنها قد تكون مسؤولة عن التباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي وعن البطالة المزمنة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة والتي تراوحت بين 5-6% في السنوات الاخيرة وحتى في أوقات الرخاء الاقتصادي. ويعود ذلك ان هذه العوامل لا تبدأ بالتأثير الا حين يصل الاقتصاد الى مستوى الاستخدام الكامل ويتجه نحو التضخم، وبالاحرى تبدأ هذه العوامل بالحد من الطلب في نفس الوقت الذي يبدأ فيه الدخل بالانتعاش من حالة الانكماش، وبعبارة أخرى قد تعمل هذه العوامل من خلال تقييدها لحجم الاستثمار الجديد في كل فترة توسع وعلى تقليل معدل خلق رأس المال الجديد، فتحد بذلك من النمو الاقتصادي الطويل الأمد.