الوطنية الاقتصادية لليمين والاداء المضطرب للنظام الدولي
د. احمد ابريهي علي
2017-04-02 06:10
يعبر الرئيس الجديد للولايات المتحدة الامريكية عن تيار، يبشر بالحمائية وحراسة الحدود والوطنية الثقافية سبيلا لحل المشكلة الاقتصادية، وصَفته الصحافة باليمين ومناهضة العولمة والشعبوية واحيانا العنصرية.
ويركز ترامب على "امريكا اولا" في شكوى مريرة من الانحسار النسبي للصناعة الامريكية، وثقل المديونية، والحاجة الى تجديد وتطوير البناء التحتي، وازدياد التفاوت في توزيع الثروة والدخل ومعاناة سكان الاحياء الفقيرة للمدن الكبرى، والجريمة والمخدرات، والقلق حول المستقبل. ويرى ان امريكا تكبدت خسائر كبيرة منذ دخول الصين منظمة التجارة الدولية، وسريان اتفاقية التجارة الحرة لشمال امريكا NAFTA والتي فتحت الحدود لصالح المكسيك على حساب الولايات المتحدة.
وظهرت في اوربا اتجاهات في التفكير السياسي والعلاقات الدولية تماثل موقف الرئيس الامريكي. وعلى جهتي الاطلسي ينْصَب اللوم على العامل الخارجي المتمثل في الانفتاح التجاري والمالي والحركة الطليقة لرأس المال والبشر عبر الحدود. ومع الاحساس بمخاطر الارهاب، من مصدره الشرق اوسطي-الاسلامي، والمهاجرين من الدول الاقل تطورا ومناطق الحروب الاهلية، وتراجع الاهمية العسكرية والاقتصادية العالمية للدول الكبرى التقليدية في الغرب، تشكلت بيئة سياسية مناهضة للعولمة داعمة للانكفاء.
وافصحت كتابات الوطنية الاقتصادية الامريكية عن عدم ارتياح لإنجازات الصين في التصنيع والنمو الاقتصادي ومكانتها في التجارة الدولية، وربما مخاوف من امتلاك الصين لقدرات جديدة في التطوير التكنولوجي، خاصة عند ملاحظة انفاقها على البحث والتطوير والذي قد يتجاوز بعد سنوات ما تنفقه الولايات المتحدة، فتجتمع لها مزايا التفوق الاقتصادي وليس فقط مضاهاة امريكا في حجم الناتج المحلي.
ولان الولايات المتحدة ادمنت الاحساس بالعظمة فان مستجدات من هذا النوع لها نتائج في السيكولوجيا السياسية هناك، تتجلى في الشعور بان الصين ودول اخرى، منها المكسيك، انتفعت كثيرا من الليبرالية الجديدة في المجال الاقتصادي على حساب الصناعة الامريكية، وعجز الميزان التجاري المزمن والكبير للولايات المتحدة الامريكية.
وفي مقالة سابقة عرضتُ بيانات لإيضاح المستوى المنخفض للادخار في الولايات المتحدة، وان مشكلة الميزان التجاري الخارجي هي الوجه الآخر لعجز الادخار المحلي عن تمويل الاستثمار. ويعمل الاقتصاد الامريكي مع العجز لسهولة التدفق المالي نحو الولايات المتحدة الامريكية والمرتبط بهيمنة الدولار في التجارة الدولية وسوق المال العالمي واحتياطيات البنوك المركزية. وتحرص الولايات المتحدة على استمرار الهيمنة الدولارية مثل حرصها على الهيمنة العسكرية في العالم.
لكن صخب التوجه الجديد يتجاهل مضامين ونتائج النمط الداخلي للتطور الاقتصادي في امريكا واوروبا الغربية والذي تحدده قوانين موضوعية تتمثل في علاقات تكشف عنها البيانات: حيث ترتبط حركة السكان والقوى العاملة وتراكم رأس المال والتقدم التقني بالإنتاجية ومتوسط الناتج للفرد، وتوزيع الدخل ثم انعاكسه على الادخار والاستثمار والمستوى الجديد من رأس المال المتراكم ونمط انتشاره القطاعي والنمو الاقتصادي الكلي والتشكيلة المهنية والمهارية للطلب على القوى العاملة. وفي هذا السياق تتعين الاجور والقدرة التنافسية الدولية وينتظم التغير المستمر في بنية الانتاج، بين السلع والخدمات وداخل مجموعة الانشطة السلعية، وفيما بين فروع الصناعة التحويلية.
ولاتخفى الصلة الاكيدة بين التخصص وتقسيم العمل على المستوى الدولي من جهة وتفاوت الدول في مستويات تطورها الاقتصادي من جهة اخرى والذي ينعكس، شئنا ام ابينا، في التكاليف والاسعار التي تحدد، مع حجم الدخل العالمي وتوزيعه، نمط التجارة الخارجية.
وكان بوسع الولايات المتحدة ودول متقدمة اخرى اعتماد سياسات اقتصادية Economic Policies تؤثر في نمط التطور، آنف الذكر، عبر التشخيص الموضوعي ودون مسبقات ايديولوجية للدورة الكاملة لسلسلة الاسباب والنتائج. بيد ان تزمت الاوساط المتنفذة في تقديس "السوق الحرة"، لا سيما منذ منتصف الثمانينات، مع تجاهل قوة العوامل الموضوعية التي تدفع نحو زيادة الثقل الاقتصادي للدولة، أديا الى تزايد عبء المديونية دون الانتفاع من قدرة الدولة في تنشيط وترشيد الاستثمار، وتوجيه النمو الاقتصادي والتغير البنيوي على مسارات اكثر ايجابية واستدامة.
وذلك لا يعني أن الاقتصاد الامريكي وصل الى حافة الانهيار بل يمتلك من اسباب الحيوية والتجدد ما يكفي، انما تمس الحاجة الى قرارات جريئة في تمويل الانفاق العام واولوياته، وضبط التكاليف في تقديم الخدمات العامة ومشاريع البناء التحتي، الى جانب سياسات لرفع الادخار ومستويات الاستثمار الانتاجي السلعي، وادوات اكثر فاعلية في مجرى التطوير التكنولوجي، وتحسين توزيع الدخل.
ويتطلب الامر، ايضا، الحد من طغيان قطاع المال بتقييد مكاثرة الاصول المالية ومشتقاتها لصالح القطاع الحقيقي. وليس من المنتظر ان تُحدث السياسات الاقتصادية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة تغيرات ذات اهمية في فترة قصيرة.
ومما يؤسف له لازال الراي العام في بلادنا يتأثر بطريقة تفكير خلاصتها ان السياسة Politics لها ولاية مطلقة على الواقع، فمادام الرئيس الامريكي ومثله اثنين او ثلاثة من زعماء اوربا قالوا ان تلك الاوضاع لا تعجبهم فسوف تذعن لهم سنن التكوين. ولهذا أعلن عدد من الكتاب نهاية العصر السابق الذي يسمونه العولمة ليبدأ عهد جديد يختلف كل الاختلاف عما الفناه من قبل. بينما لا توجد هكذا انقلابات عسكرية في تاريخ الاقتصاد، ولم تبدأ العولمة ببيان رقم واحد انما هي وجه آخر لتاريخ البشر على هذه الارض ومن ابعاد وجودهم المشترك. وحتى لو قامت ثورة شاملة في امريكا واوربا الغربية ستكون نتيجتها تعديلات طفيفة، ويستأنف التطور مجراه ودائما تحت سقف الامكانية والتي اصبحت قابلة للقياس بقدر كافي من الدقة للأغراض العملية.
وليس من الصعب ملاحظة ارتباط وثيق بين ذلك الخطاب الإنكفائي والشك العميق حول قدرة امريكا على الامساك بالهيمنة الدولية عبر زعامتها للغرب، والابقاء على مركزية الذات الغربية للعالم التي تتخذ من واشنطن مستقرا لها.
وربما لا تختلف جماعة ترامب عن معارضيها في التذمر من اداء النظام الدولي World Order الذي تديره واشنطن في السنوات القريبة الماضية. ذلك النظام الذي افرزته سياقات ونتائج الحرب العالمية الثانية واستمر في ظل الحرب الباردة، بين الدول الكبرى، مدة القطبية الثنائية وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتشعر دوائر القرار الامريكي بالصدمة وهي ترى ان حقبة ما بعد الحرب الباردة او القطبية الاحادية عندما بلغت الهيمنة الامريكية ذروتها قد تآكلت مقوماتها.
ويأتي تذمرهم من صعود الصين الذي يهدد انفرادهم بالسلطة العليا في شرق آسيا، وتتحاشى دول الجوار هناك، والحليفة للولايات المتحدة، التورط في معاداة الصين او حتى الاستعداد لموازنة قوتها.
وفي التصور الامريكي تسعى الصين تدريجيا الى التفوق الاستراتيجي في شرق اسيا واضعاف التحالف الامريكي وعدم استقرار جيوسياسي في تلك المنطقة. وترى في هذا التوجه الصيني تهديدا للمكانة الدولية للولايات المتحدة الامريكية. كما ان الهند، وهي قوة كبرى لا شك في ذلك، ومعها البرازيل ودول صاعدة اخرى لا تريد بقاء السيطرة الغربية كما كانت.
ويؤرقهم عدم اذعان روسيا لضغوط امريكا خاصة في مجالها الجغرافي القريب. وتتناسى الدوائر الغربية ادعائها، ايام القطبية الثنائية، بان النزاع في أصله بين نظام ونظام وليس للسيطرة على العالم واخضاع البشر، ويتلخص في التعارض بين الديمقراطية الليبرالية ونظام الملكية الخاصة والاقتصاد الحر من جهة والدكتاتورية والملكية الحكومية لوسائل الانتاج من جهة اخرى. ولكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهاء حلف وارشو كشّرت الحقائق العميقة، في الشرق والغرب، عن انيابها فدفعت الولايات المتحدة حلف شمال الاطلسي ليبتلع دول اوربا الشرقية، ويقتحم الدول التي كانت سوفيتية للوصول الى حدود روسيا.
فجاء الرد الروسي في جورجيا واوكرانيا وتوترات مع دول مجاورة اخرى لتكتوي الشعوب بنيران نزاعات الهيمنة وحروبها وتشقى وتجوع. وتشكو الولايات المتحدة من روسيا لأنها، كما ترى، تريد نطاق نفوذ اقليمي يحيطها وان تكون لها كلمة مسموعة في القضايا العالمية الكبرى.
وتواجه الولايات المتحدة الفشل الذريع لسياستها في الشرق الاوسط الذي يعاند الانسجام مع تصوراتهم للسيطرة والعظمة. ولم تتمكن امريكا من الموازنة بين عدائها لإيران وأمن إسرائيل وسيادة واستقلال الدول الاخرى. وقد فشلت جميع سياسات التوازن والاحتواء والتحالف والاستعداء في الوصول الى ترتيبات مرضية لهم يستقر عليها الشرق الاوسط وهذا يزعجهم كثيرا. فأصبحت هذه المنطقة ساحة حروب لفوضى التنافس المحموم على النفوذ يتغذى بالكراهيات، والنزاع بين ايران والولايات المتحدة، وعلى خلفية الشروط المبالغ بها لأمن اسرائيل والاستقطاب الطائفي العابر لحدود الدول.
وارادت جماعة ترامب القول بان امريكا متورطة في ادارة نظام دولي ليس لصالحها، وهي في نفس الوقت لا تريد التحول نحو سياسة خارجية تتوافق مع التوزيع الحالي للقوة، بمصادرها الاقتصادية والتقنية، بين الدول. بل تبنت تقوية الترسانة النووية وزيادة الانفاق العسكري. ولم يتقبل الرئيس الجديد، فيما يبدو، مقترحات خفض القوات العسكرية الامريكية في الخارج. وبالانسجام مع اعادة تعريف للمخاطر يؤكد الضمانة الاقتصادية للأمن الامريكي ليتسق مع اهتماماته الداخلية. وذلك رغم الاسف الذي أبداه على حجم الانفاق الامريكي للتدخلات والحروب في الشرق الاوسط وعلى حد تعبيره " تكفي لإعادة بناء أمريكا -يقصد البناء التحتي- مرتين او ثلاث مرات". وكانت مقاربته للتحديات الاقتصادية التي تواجه الهيمنة غريبة فعلا مثل " لماذا لم تستحوذ امريكا على نفط العراق..." الى جانب مطالبة الحلفاء بإسهام اكبر لتمويل التواجد العسكري الامريكي في الخارج، وتحملهم اعباء الدفاع "عن انفسهم". اي ان امريكا تتمسك بالهيمنة العالمية الاحادية رغم التطورات العميقة في اقتصاد العالم، واختلاف قدرات الدول الصناعية والتقنية في العقد الثاني من القرن الحالي مقارنة بما كانت عليه نهاية الحرب العالمية الثانية.
ودائما تجد كتابات التيار الرسمي الامريكي تطفح بمشاعر المظلومية لأن الدول الاخرى تتطاول على الحق الطبيعي لأمريكا في الهيمنة على الكرة الارضية الى الابد. في حين ان البديل الاكثر عقلانية، والذي يخدم الولايات المتحدة والعالم، يتمثل في تأكيد استقلال الدول وتكافؤ السيادة. ومن الممكن التعاون بين الدول الكبيرة عسكريا واقتصاديا لإرساء ترتيبات جديدة تمنع النزاع على النفوذ. لتستقر الدول وتتجه السياسة لخدمة رفاه البشر والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان عندما تنتهي فرص الاعتياش على العداوات الدينية والعرقية والحروب.
وهذا الاختيار متاح للولايات المتحدة ومن الافضل اقتناص الفرصة التاريخية قبل ان تصل محاولاتها في استمرار فرض النظام القديم الى نهاية مأساوية. ويظهر ان فرص السلام والاستقرار في الشرق الاوسط تنتظر نبذ الغرب والعالم لقيم الاستعلاء والهيمنة لولادة نظام جديد قوامه التعاون الدولي لحفظ الامن واستقلال الدول ورفاه وكرامة البشر.