الغيبة الكبرى.. فلسفتها في ضوء بعض قصص الغياب في القرآن الكريم
صباح الصافي
2025-09-10 06:31
من القضايا المركزيَّة في العقيدة، قضيَّة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)؛ حيث تشكّل جزءًا جوهريًا من الرُّؤية الدِّينيَّة للخلافة الإلهيَّة المستمرة في العالم، وارتباط الإنسان بخطِّ الهداية الربَّانيَّة. ولطالما كانت هذه القضيَّة محور بحث واهتمام بين العلماء والمفكرين، نظرًا لما تطرحه من أبعاد معرفيَّة ترتبط بمفهوم الغيب، وسُنن التَّدبير الإلهي التي لا تخضع دائمًا لحدود الإدراك البشري المباشر.
إنَّ التَّأمل في هذه الفكرة يمكن قراءتها ضمن سياق عام تكرر ظهوره في التَّجربة الدِّينيَّة، كما يقدِّمه النَّص القرآني نفسه؛ فقد ورد في القرآن الكريم عدد من النَّماذج التَّاريخيَّة التي غاب أصحابها عن مجتمعاتهم لفترات زمنيَّة مختلفة، ثمَّ عادوا في ظروف استثنائيَّة وكان لظهورهم أثر حاسم في مجرى الأحداث. ومن أبرز هذه النَّماذج: قصَّة يوسف (عليه السلام) الذي فُقد صبيًا، وعاد قائدًا، وقصَّة موسى (عليه السلام) الذي ابتعد عن قومه لفترة فوقعوا في الفتنة، وقصَّة أصحاب الكهف الذين غيَّبهم الله (تعالى) عن أعين النَّاس، ثمَّ أفاقوا في زمن مختلف كليًا.
لذلك سنتناول الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام) بوصفها نمطًا متكررًا في التَّجربة الإلهيَّة مع البشريَّة، من خلال مقارنة تحليليَّة بين هذه النَّماذج القرآنيَّة الثَّلاثة، وبين الغياب الطَّويل للإمام المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه الشَّريف)، لفهم طبيعة هذا الغياب ضمن الإطار العام للهدى الإلهي، والكشف عن أبعاده على مستوى السُّنن القرآنيَّة المتعلِّقة بالابتلاء، والتَّمهيد، وتبدُّل الأحوال في المجتمعات.
أوَّلًا: مراحل غيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
للإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله تعالى فرَجَه الشَّريف) غيبتان :
الغيبة الأولى: وهي التي تُسمى بالغيبة الصُّغرى، بدأت بوفاة والده الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام) سنة 260 هجريَّة، وانتهت بوفاة السَّفير الرَّابع من سفراء الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرَجَه) سنة 329 هجريَّة .
الغيبة الثَّانية: وهي التي تُسمى بالغيبة الكبرى، بدأت سنة 329 هجريَّة بوفاة السَّفير الرَّابع (1) ولا تزال مستمرة حتَّى الآن وستستمر حتَّى يأذن الله (عَزَّ وجَلَّ) للإمام المهدي (عجَّل الله فرَجَه) بالظُّهور ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.
وقد يتبادر إلى الذهن السُّؤال التَّالي: لماذا كانت للإمام المهدي (عليه السلام) غيبتان لا غيبة واحدة؟
والجواب الحقيقي عن هذا السُّؤال لا يعلمه إلَّا الله (جلَّ شأنه) ومن ارتضى من عباده (عليهم السلام)؛ فهو قرار إلهي محض، لم يُفصح لنا في الرِّوايات عن علَّته بشكل مباشر. نعم، الأحاديث الشَّريفة صرَّحت بوجود غيبتين للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؛ لكنَّها لم تُصرِّح بسبب تعددهما، وكأنَّ الأمر مرتبط بسرٍّ ربَّاني لا يُكشف إلَّا في حينه.
ومع ذلك، يمكن أن نستشفَّ من طبيعة الأحداث ومعطيات التَّاريخ بعض الحكم والغايات؛ فالغيبة الأولى –التي سُمِّيت بالصُّغرى– كانت بمثابة مرحلة تمهيديَّة قياسًا إلى الغيبة الثَّانية الكبرى. وقد امتدَّت هذه الفترة تسعة وستين عامًا، وتميَّزت بوجود السُّفراء والخواص الذين كانوا واسطة بين الإمام (عليه السلام) وأتباعه. ومن خلال هذا الارتباط المحدود تدرَّب الشِّيعة على فكرة الغيبة، وتوطَّنت نفوسهم على التَّعايش مع غياب الإمام (عليه السلام) عن الأنظار، من دون أن ينقطعوا عن فيض هدايته. وكانت تلك المرحلة القصيرة بمثابة جسر يعبر به المؤمنون من عهد الحضور إلى عهد الغياب الطَّويل.
وحين ترسَّخت ثقافة الغيبة في وعي الأمَّة، وصار النَّاس قادرين على حفظ دينهم من دون الارتباط المباشر المستمر بالإمام (عليه السلام)، دخلت الغيبة طورها الأعمق والأطول، وهي الغيبة الكبرى، وانقطع التَّواصل المباشر حتَّى مع الخواص إلَّا في حدود نادرة جدًا، ليكون الامتحان أشدَّ، والاعتماد على القرآن الكريم والعترة الطَّاهرة (عليهم السلام) أوضح. ويشهد لهذا ما روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) (2): "لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ وَالْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الْغَيْبَةُ الْأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ فِي دِينِهِ"(3).
فكأنَّ الغيبة الصُّغرى كانت مدرسة إعداد وتهيئة، والغيبة الكبرى ميدان اختبار وصبر، ووراء ذلك سرٌّ إلهي عظيم لا يعلمه إلَّا الله (سبحانه وتعالى). ومن هنا، فإنَّ الغيبة الكبرى هي حالة مركبة ذات أبعاد عقائديَّة وتاريخيَّة، تعبِّر عن استمرار الحضور الإلهي في العالم من غير أن يرتبط هذا الحضور بوجود ظاهر يمكن التَّفاعل معه بشكل مباشر. وهذا النَّمط من الغياب، وإن كان يبدو مستغرَبًا عند البعض، إلَّا أنَّ تصوره يصبح أكثر وضوحًا حين يُنظر إليه في سياق التَّجربة الإلهيَّة مع رسله وأنبيائه (عليهم السلام)؛ حيث عُرفت حالات متعدِّدة من الغياب المؤقت، كان لها أثر بالغ في صياغة وعي الأمَّة، وتهيئتها لاستقبال تحولات كبرى.
والغيبة الكبرى بهذا المعنى لا تخرج عن إطار السُّنن الإلهيَّة التي درجت في التَّاريخ الرسالي؛ وإنَّما تندرج ضمن أسلوب إلهي في رعاية الحجَّة الخاتمة في ظروف يشتد فيها خطر التَّصفيَّة الجسديَّة أو التَّحريف العقدي؛ فهي تشكل نمطًا خاصًا من التَّدبير، وتختلف فيه آليات القيادة والاتصال، بينما تبقى الحقيقة الحاضرة: استمرار الارتباط بالغيب، والتَّمسُّك بالوعد الإلهي الذي لا يُخلف.
ثانيًا: الامتحان والتَّدرُّج الإلهي.
قال الله (تبارك وتعالى): (لقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ* إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ* قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ* قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ* قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ* فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (4).
قصَّة النَّبي يوسف (عليه السلام) واحدة من أعمق النَّماذج القرآنيَّة التي تحمل في طيَّاتها مفهوم "الغياب"، بوصفه جزءًا من مسار إلهي متدرِّج يمضي من فقدان إلى تمكين؛ فالغياب في قصَّة النَّبي يوسف (عليه السلام) كان برنامجًا إلهيًا محكمًا بدأ منذ لحظة إلقائه في الجب، واستمر حتَّى جلوسه على عرش مصر، وتولَّى زمام الحكم والسُّلطة. وفي كلِّ مرحلة من مراحل غيابه، كان هناك درس في الصَّبر، واختبار للإيمان، وترسيخ للثقة بحكمة الله (تعالى)، ممَّا يتَّضح أنَّ الغياب، حين يكون بتقدير الله (سبحانه) وإرادته، سيكون له معنى عميق ويمثِّل مرحلة ضروريَّة تمهِّد الطَّريق نحو بلوغ المقامات العليا وتحقيق التَّمكين الإلهي.
ويتشابه هذا النَّموذج مع غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) في محاور عدَّة مفصليَّة، أبرزها:
1. الغياب ضمن العالَم لا عن العالَم.
كان النَّبي يوسف (عليه السلام) غائبًا عن أهله وأمَّته، لكن وجوده في العالم لم يتوقف؛ فقد تنقَّل بين محطَّات متعدِّدة (من الجب إلى بيت العزيز، ثمَّ إلى السجن، وأخيرًا إلى قصر الحكم)، من دون أن يُدرك من حوله حقيقته، إلى أن كشف الله (تبارك وتعالى) سرَّه في اللحظة المناسبة. كذلك الإمام المهدي (عليه السلام)، فغيابه يعني غياب التَّعريف العلني والمباشر، بينما هو –وفق النُّصوص الشَّريفة– يعيش بين النَّاس، ويمارس دوره بالخفاء، في انتظار اللحظة التي يأذن الله (تعالى) له فيها بالظُّهور. وهذا ما أشار إليه الإمام الصَّادق (عليه السلام) في الحديث المنقول عن سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ حين قال: "إِنَّ فِي صَاحِبِ هذَا الْأَمْرِ شَبَهًا مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ حَيَاتَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ؟
قَالَ: فَقَالَ لِي: وَمَا يُنْكِرُ مِنْ ذلِكَ هذِهِ الْأُمَّةُ أَشْبَاهُ الْخَنَازِيرِ؟!
إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وبَايَعُوهُ وخَاطَبُوهُ وهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ، فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى قَالَ: أَنَا يُوسُفُ وهذَا أَخِي، فَمَا تُنْكِرُ هذِهِ الْأُمَّةُ الْمَلْعُونَةُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ (عَزَّ وجَلَّ) بِحُجَّتِهِ فِي وقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ؟
إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وكَانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ والِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُ لَقَدَرَ عَلى ذلِكَ، لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ووُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ (جَلَّ وعَزَّ) بِحُجَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَمْشِيَ فِي أَسْوَاقِهِمْ ويَطَأَ بُسُطَهُمْ، حَتّى يَأْذَنَ اللَّهُ فِي ذلِكَ لَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ: (قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ)" (5).
2. الحماية من القتل والتَّصفيَّة.
اختفاء النَّبي يوسف (عليه السلام) جاء نتيجة مؤامرة أخوته، الذين دفعهم الحسد والغيرة إلى التَّخلص منه. وهذا الغياب كان في حقيقته سترًا إلهيًا لحفظ شخصه من الهلاك؛ لأنَّ البنيَّة الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة المحيطة به آنذاك لم تكن مؤهَّلة بعد لتقبُّل موقعه ومقامه. وهكذا الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)، على وفق النُّصوص الشَّريفة، تخضع إلى ذات المنطق؛ إذ أنَّ انكشاف موقعه في ظروف تاريخيَّة غير مناسبة كان سيعرِّض حياته للخطر، ويتسبب في دمار المشروع الإلهي قبل أوانه؛ فكان الغياب وسيلة لصيانة الحجَّة الربَّانيَّة حتَّى تحين السَّاعة.
3. التَّدرج في الكشف والتَّمكين.
لم يعدْ النَّبي يوسف (عليه السلام) إلى أهله فورًا. وخضع لمسار تصاعدي طويل امتدَّ لسنوات، واختُبر فيه بالصَّبر والفتنة والسّجن، ثمَّ أُخرج إلى النُّور بوسائل ظاهرها عادي؛ لكن باطنها كان يرتبط بالتَّدبير الإلهي. وهذا البعد في القصَّة يوضح أنَّ الظُّهور العلني لا يتحقق إلَّا حين تتهيأ أسبابه. وبالمثل، فإنَّ ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) سيكون نتيجة مسار طويل يشمل مجموعة من التَّحوّلات المتراكمة. وهذه التحوّلات تشمل أيضًا نضج الأفراد من حيث الإيمان، والوعي، والقدرة على التَّمييز بين الحقِّ والباطل، والتَّحلِّي بالصَّبر والوفاء. فالأمَّة بحاجة إلى مرحلة من الاستعداد النَّفسي والفكري قبل أن يكون مشروع العدل الإلهي قابلًا للتَّطبيق على المستوى العالمي، بحيث تصبح قادرة على استيعاب حضوره وتطبيق تعاليمه بطريقة تحقق العدالة المنشودة.
4. الامتحان الإيماني.
من أبرز أبعاد غيبة النَّبي يوسف (عليه السلام) أنَّ الامتحان الحقيقي لم يقع على الغرباء؛ بل على أفراد أسرته الأقربين، الذين لم يتعرَّفوا عليه حين ظهر، وأنكروا مقامه، ثمَّ خضعوا لتأنيب الذَّات حين تبيَّنت لهم الحقيقة. وهذا النَّمط من الامتحان هو ما تشير إليه الرِّوايات الشَّريفة بوضوح؛ إذ يكون كثير ممَّن يدَّعون الانتماء إلى مشروع الإمام (عليه السلام) في الغيبة، غير مستعدين لتقبُّله عند ظهوره، وقد يكونون من أشدِّ المعترضين عليه، إمَّا لجهل، أو لتعارض مع المصالح الدُّنيويَّة (6).
ثالثًا: انقطاع القائد واختبار الجماعة.
قال الله (تعالى): (وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (7).
يُخبرنا القرآن الكريم أنَّ النَّبي موسى (عليه السلام) غاب عن قومه أربعين ليلة، بموجب وعدٍ إلهي، ليحضر الميقات على الطُّور. مع أنَّ غيبته كانت محدودة في مدَّتها الزَّمنيَّة، وواضحة في سببها، إلَّا أنَّ انعكاساتها على الجماعة التي خلَّفها كانت شديدة، وبلغت حدَّ الانقلاب، ووقع كثير من بني إسرائيل في الفتنة وعبدوا العجل، مع وجود النَّبي هارون (عليه السلام) فيهم، بوصفه نائبًا للكليم موسى (عليه السلام) وممثِّلًا للسُّلطة الدِّينيَّة. وهذا الغياب الظَّرفي، وإن بدا وجيزًا من حيث الزَّمان، إلَّا أنَّ هذا الوضع يبيِّن هشاشة الجماعة المؤمنة عندما يغيب القائد الذي اعتادت على وجوده؛ فالكثير من النَّاس لا يرتبطون بالرِّسالة أو بالمشروع الذي يقدِّمه القائد؛ وإنَّما يرتبطون بالشَّخص نفسه وبما يمثِّله من حضور ظاهر ومكانة محسوسة. وعندما يغيب هذا الشَّخص، يظهر ضعف التَّمسك بالقيم والمبادئ، وقد تتعرَّض الجماعة للانحراف عن مسار الحقِّ بسبب اعتمادها على الظَّاهريات وليس على الإيمان العميق بالمشروع أو الهدف. وهذا يوضِّح أهميَّة بناء الوعي للأمَّة، بحيث يصبح الولاء للفكرة والرِّسالة أكثر رسوخًا من الولاء للشَّخص الظَّاهر.
وقد أشار الإمام الباقر (عليه السلام) إلى بعض وجوه التَّشابه بين الإمام المهدي (عليه السلام) والكليم موسى (عليه السلام)، في قوله: "وأَمَّا شَبَهُهُ مِن موسى (عليه السلام) فَدوامُ خَوفِهِ، وطولُ غَيبَتِهِ، وخِفاءُ وِلادَتِهِ، وتَعَبُ شيعَتِهِ مِن بَعدِهِ مِمَّا لَقوا مِنَ الأَذى وَالهَوانِ، إلى أن أذِنَ اللَّهُ (عزَّ وجلَّ) في ظُهورِهِ ونَصَرَهُ وأَيَّدَهُ عَلى عَدُوِّهِ..."(8).
ويكشف هذا الحديث الشَّريف عن أبعاد عميقة لفهم الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)؛ ومنها:
أوَّلًا: دوام الخوف، كما عانى موسى (عليه السلام) من التَّهديدات والمحن المستمرة، يواجه الإمام المهدي (عليه السلام) مرحلة من الغيبة التي تتطلَّب صبرًا ومثابرة من شيعته، وتحملهم للأذى والهوان، بما يعكس واقع اختبار الإيمان والثَّبات على المبادئ.
ثانيًا: طول الغيبة وخفاء الولادة، يمرُّ الإمام المهدي (عليه السلام) بفترة غياب طويلة، كما بقيت ولادته خفيَّة عن العامَّة. وهذه المرحلة هي اختبار لصبر المؤمنين وقدرتهم على التَّمسك بالرِّسالة العميقة، بعيدًا عن الانجذاب إلى الشَّخص الظَّاهر.
ثالثًا: تعب الشِّيعة ومصابهم بعده، يعكس الحديث معاناة المؤمنين في ظلِّ غياب القائد؛ إذ يختبرون في مواجهة الشَّدائد، ويستمرون في تمسكهم بالإيمان بالرَّغم من المحن والابتلاءات. وهنا يظهر أنَّ الغيبة هي مرحلة تربويَّة تهدف إلى بناء وعي ومصداقيَّة في الالتزام بالمشروع الإلهي.
وأخيرًا، ظهور النَّصر الإلهي؛ كلُّ هذه المحن مرحلة إعداد تمهِّد لظهور الإمام المهدي (عليه السلام) بقدرة الله (عزَّ وجلَّ)، وتحقيق النَّصر، واستكمال مشروع العدالة الإلهيَّة على مستوى عالمي.
وبذلك: تُظهر قصَّة موسى الكليم (عليه السلام) دروسًا عميقة لفهم الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)؛ فالغياب لأجل هدف مقدَّس، مثل غياب النَّبي موسى (عليه السلام) عن قومه لتلبية أمر الله (تعالى)، لا يعفي الأمَّة من الثَّبات على الحقِّ، فالثَّبات مرتبط بالحقِّ لا بالشَّخص الظَّاهر. كما يبيِّن التَّاريخ أنَّ الحضور للوصي أو النَّائب لا يملأ الفراغ عند القلوب المريضة، فضعف الإيمان يؤدِّي إلى الانحراف حتَّى في وجود القادة. وغالبًا ما ينشأ الانحراف من داخل الجماعة نفسها، كما حدث مع السَّامري، ما يعكس أنَّ الفتنة الكبرى في زمن الغيبة قد تأتي من المحسوبين على المذهب وليس فقط من الخصوم. وعندما يعود القائد بعد الغياب، كما عاد موسى (عليه السلام)، يُكشف الصَّادق من المدِّعي، وتتضح الحقائق، لتكون مرحلة كشف للصفوف وتمهيدًا لاستعادة العدالة الإلهيَّة.
رابعًا: الحماية عبر الزَّمن والدَّور في عصر الظُّهور.
قال الله (تبارك وتعالى): (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (9).
تُشكِّل قصَّة أصحاب الكهف نموذجًا فريدًا في القرآن الكريم للغياب الإلهي المتميِّز، فقد غاب هؤلاء الفتيَّة الصَّالحون عن عالمهم لسنوات طويلة داخل الكهف، في حالة من السُّكون والحماية الإلهيَّة. وإن كان الغياب هنا عبارة عن نوم عميق، بعيد عن النَّشاط الحياتي الظَّاهر، إلَّا أنَّه يحمل دلالات عميقة يمكن مقارنتها بالغَيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)، لما فيها من عناصر حماية، وصيانة، واختبار للمجتمع؛ إذ تبيَّن لذلك الغياب فوائد عدَّة:
1. الغياب وسيلة للحماية الإلهيَّة.
أصحاب الكهف غابوا عن عالم الفتنة والاضطهاد، ليُحموا أنفسهم من ظلم الملك الجائر الذي كان يفرض عليهم التَّخلي عن إيمانهم. وهذا الغياب كان بادرة إلهيَّة لاستمرار حياتهم بعيدًا عن التَّهديد. وبالمثل، جاءت الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام) وسيلة لحمايته من أعداء الدِّين، حفاظًا على وجوده حجَّة لله (تعالى) في الأرض حتَّى يحين وقت ظهوره.
2. الحضور الغيبي.
على الرَّغم من غياب أصحاب الكهف عن مجتمعهم، أبقاهم الله (تعالى) أحياءً في زمن غير عادي، فتحوَّل نومهم إلى معجزة أثارت العجب حين استيقظوا. والغَيبة لا تعني الانتهاء أو الفناء؛ بل هي وجود ضمن التَّوقيت الإلهي. وفي حالة الإمام المهدي (عليه السلام)، تؤكِّد الرِّوايات الشَّريفة على استمراريَّة حياته في الغيبة الكبرى، في شكل غيبي، بحيث يبقى حيًا قائمًا بالحكمة الإلهيَّة؛ عن عبد الله بن عمر قال: سمعت الحسين بن علي (عليهما السلام) يقول: "لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلَّا يُوْمٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) ذلكَ اليَوْمَ حَتّى يَخرُجَ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي، فَيَمْلَؤُهَا عَدلًا وقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جورًا وَظُلمًا، كذلِكَ سمعتُ رسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) يقول"(10).
3. العودة والنُّهوض.
بعد طول الغياب، عادت قصَّة أصحاب الكهف لتبرز قدرة الله (تعالى) على حفظ دينه وأوليائه، وإعادة التَّوازن للمجتمع. وبالمثل، فإنَّ ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) يمثِّل نقطة التَّحول التي تنهي الفساد وتُعيد القيم الإلهيَّة إلى الصَّدارة، بعد مرحلة الغيبة.
4. دور أصحاب الكهف.
تشير الرِّوايات الشَّريفة إلى أنَّ لأصحاب الكهف حضورًا مستمرًا يتَّصل بالإمام المهدي (عليه السلام)، فإنَّهم امتداد في زمن الظُّهور. وقد ورد عن الإمام الصَّادق (عليه السلام) قوله: "يُخرِجُ القائِمُ (عليه السلام) مِن ظَهرِ الكوفَةِ سَبعَةً وعِشرينَ رَجُلًا: خَمسَةَ عَشَرَ مِن قَومِ موسَى (عليه السلام) الَّذينَ كانوا يَهدونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعدِلونَ، وسَبعَةً مِن أهلِ الكَهفِ، ويوشَعَ بنَ نونٍ، وسَلمانَ، وأَبا دُجانَةَ الأَنصارِيَّ، وَالمِقدادَ، ومالِكًا الأَشتَرَ، فَيَكونونَ بَينَ يَدَيهِ أنصارًا وحُكَّامًا" (11).
إنَّ هذا الحضور يكشف عن حقيقة أنَّ أصحاب الكهف جزءٌ من الامتداد التَّاريخي للحقِّ، وسيُبعثون في زمن الإمام (عليه السلام) ليقفوا في صفِّه أنصارًا وحكَّامًا، وليشكِّلوا نموذجًا حيًّا على أنَّ خطَّ الإيمان عبر التَّاريخ هو سلسلة واحدة مترابطة، تبدأ من أولياء الله (تبارك وتعالى) في الأمم السَّابقة وتنتهي بالمشروع المهدوي العالمي.
وبعد هذا العرض المليء بالأحداث نصل إلى حقيقة مهمَّة، أنَّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) امتداد لسنن الله (تعالى) في أوليائه، كما غاب الأولياء يوسف وموسى وأصحاب الكهف (سلام الله عليهم أجمعين). إنَّها مرحلة إلهيَّة مقصودة للتمحيص والإعداد، تُصقل فيها النُّفوس وتُختبر فيها درجات الإيمان، ليتهيأ المجتمع لليوم الموعود.
لذلك، في زمن الغيبة يُطلَب من المؤمن أن يصبر ويثبت ويعمل، فيحوّل الانتظار إلى بناء، والغياب إلى مدرسة للوعي واليقين. وعندما يحين الظُّهور، يكون الإمام (عليه السلام) حاضرًا ليكشف الحقَّ، ويقيم العدل، ويضع نهاية للظلم، فتتكامل بذلك الحكمة الإلهيَّة بين الغيبة والظُّهور، وبين الصَّبر والنَّصر.