هل برهان النظام برهان تجريبي؟
اسئلة حول برهان النظم (6)
شبكة النبأ
2022-07-13 07:03
بقلم: الشيخ جعفر الهادي
الاشكال
يعتبر برهان النظم ـ كما عرفت ـ من ابسط وأقرب الأدلة على وجود خالق لهذا الكون.
بید ان هناك بين علماء الغرب من أخذ على هذا البرهان بعض المأخذ واورد عليه بعض الاعتراضات مما جعل البعض يتصور ـ خطأ ـ أن هذا البرهان قد فقد قيمته واعتباره.
ومن أبرز من أخذ على هذا البرهان هو الفيلسوف الانجليزي الاستكنادي المولد «ديفيد هيوم» (المولود عام 1711 م والمتوفي عام 1776 م).
فقد تعرض «هيوم» في كتابه «المحاورات» (1) لبرهان النظم بالنقد والاعتراض ويبلغ مجموع مآخذه واعتراضاته على هذا البرهان ستة مآخذ بيد أن اثنين منهما ـ في الحقيقة ـ يرجعان الى برهان النظم، واما الباقي فلا علاقة له بهذا البرهان، وان توهم المعترض صلتها به، وسوف نذكر في هذا الفصل الاعتراضين المرتبطين بهذا البرهان ونتناولهما بالدراسة والتحليل، والاجابة والرد، كما سنذكر في نهايته بقية الاعتراضات حتى يعرف القارئ بنفسه عدم توجه هذه الاعتراضات الى «برهان النظم» وانما هي اعتراضات تتوجه الى عقائد الالهيين في مجالات اخرى.
واليك فيما يأتي بيان الأشكال الأول من الاشكالين اللذين وجههما هیوم الى برهان النظم، والاجابة على ذلك.
هل جربنا الكون؟
ان المشابهة بين الكون، والمصنوعات البشرية تقضي بان نحكم بان للكون صانعاً خالقاً، اذ أننا بعد أن جربنا «المصنوعات البشرية» مراراً علمنا بانها لا توجد الا لعلة، فكما أن البيت لا ينشأ بلا بناء، والسفينة لا توجد بلا صانع، فكذلك الكون ـ لشباهته بالمصنوعات البشرية ـ لا بد له من خالق صانع.
هذا هو تقرير برهان النظم وهذا هو أساسه كما تصوره (هيوم)، أو كما كان سائداً عند فلاسفة الغرب.
ثم إن «هيوم» انتقد هذا الاستدلال بقوله: أن هذا الاستدلال مبني على «التشابه» بين الكائنات الطبيعية، والمصنوعات البشرية، ولكن هذا التشابه لا يكفي السحب وتعدية حكم احدهما إلى الاخر لاختلافهما، فاحدهما موجود طبيعي، والأخر موجود صناعي، فكيف يمكن أن نستكشف من احدهما حكم الآخر؟
صحيح أننا جربنا المصنوعات البشرية فرأينا انها لا توجد الا بصانع عاقل، وفاعل ماهر كما في البيت والسفينة والساعة وغير ذلك، ولكننا لم نجرب ذلك في الكون، فان الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الانسان على كيفية خلقه وایجاده بل واجهه لاول مرة، ولهذا لا يمكن أن يثبت له علة خالقة على غرار المصنوعات البشرية، الا اذا جربه من قبل عشرات المرات، وشهد عملية الخلق والتكون، كما شاهد ذلك وجربه في المصنوعات البشرية، حتى يقف على أن «الكون» بما فيه من النظام لا يمكن هو الآخر أن يوجد من دون خالق عليم، وصانع خبير.
هذا هو الاشكال الاول الذي وجهه «هيوم» إلى برهان النظم قررناه لك بعبارة واضحة سهلة.
الجواب:
وللإجابة على هذا الاشكال يتعين علينا ـ قبل ذلك ـ ان نعطي لمحة سريعة عن ادوات المعرفة، لارتباط ذلك بالجواب، ومساعدته على حل الاشكال فنقول:
ان أدوات المعرفة ـ كما ذكرها العلماء في أبحاث نظرية المعرفة ـ هي عبارة عن:
اولا: الحس:
ويعتمد عليه الانسان في اموره الشخصية والجزئية، فاذا رأى ولو مرة واحدة حدوث الماء من عنصري الاوكسجين والنتروجين حصلت له معرفة جزئية حسية بذلك بيد انه لا يمكنه ان يسحب هذا الحكم من هذا المورد الخاص على كل الموارد الأخرى، فيعتقد بأن كل المياه تتركب من ذلك الا بمعونة الأدوات الاخرى للمعرفة التجربة، بان يكرر ويجرب ذلك عدة مرات حتى يقف على القانون العام، والقاعدة الكلية في هذا المجال.
هذا والامثلة على المعارف الحسية الجزئية اكثر من أن تحصی، فرؤيتنا للكرسي يصنع من الخشب، والكتاب يصنع من الورق، وزيداً يكتب، وطفلا ايحبو كلها تشكل معارف حسية جزئية لنا.
ثانياً: التمثيل
وهو تشبیه جزئي بجزئي آخر في معني مشترك بينهما ليثبت في المشبه الحكم الثابت في المشبه به المعلل بذلك.
او اثبات حكم لجزئي، لثبوته في جزئي آخر مشابه له.
وبعبارة ثالثة: بیان مشاركة جزئي لجزئي آخر في علة الحكم ليثبت فيه.
وبعبارة رابعة: التمثيل هو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين الى الحكم على الاخر لجهة مشتركة بينهما.
وهذا هو المسمى في المنطق بالتمثيل وفي السنة الفقهاء بالقياس.
ومثال ذلك ما إذا علمنا بحرمة الخمر، ثم وجدنا مائعاً يشابهه في الاسكار مثل الفقاع والنبيذ فاذا أسرينا وسحبنا حكم الخمر الى النبيذ لمشابهته له في العلة (أي الاسكار) كان ذلك تمثيلا.
ومن المعلوم أن التشابه وحده لا يكفي لإسراء الحكم من جزئي الى جزئي آخر، ولا يورث يقيناً بالنتائج كما هو مقرر في علم المنطق لأنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر، بل في عدة أمور، أن يتشابها من جميع الوجوه ولهذا عده العلماء في «نظرية المعرفة» من الأدلة الظنية.
ثالثا: الاستقراء
وهو تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي.
أو تتبع الجزئيات للحصول على قاعدة كلية، فاننا اذا تتبعنا أصناف الحيوانات ـ مثلا ـ ووجدنا أنها تحرك فكها الاسفل عند المضغ غالباً اصطادت أذهاننا ـ هنا ـ قاعدة كلية هي: «أن كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ» ولكن هذا القسم أيضاً لا يورث الا الظن كذلك، اذ من الجائز أن يكون هناك صنف من الحيوانات التي لم نصادفها يحرك فكه الاعلى عند المضغ كما هو الحال في التمساح مثلا.
وهكذا اذا تصفحنا أكثر شوارع مدينة معينة فرأيناها نظيفة، فان ذلك لا يفيدنا علماً بأن جميع شوارعها على الاطلاق نظيفة اذ يمكن أن يكون هناك شارع على غير ذلك الوصف.
هذا اذا كان الاستقراء «ناقصاً» وأما اذا كان الاستقراء «تاماً» فلا يكون حينئذ حجة من هذا الباب، لأنه حينئذ وقوف على جميع الأفراد، وصبّ للعلوم التفصيلية في صورة علم واحد، وبعبارة جامعة.
ولأجل ذلك قال المنطقيون: «الاستقراء الناقص» لا يورث الا الظن، و «الاستقراء التام» وان كان يخرج المستقريء فيه بالعلم واليقين الا أن ذلك العلم لا يكون مستنداً إلى الاستقراء بل الى تصفح جميع الأفراد واحداً بعد واحد، وجمع كل تلك العلوم التفصيلية في علم واحد، وهو يفارق المراد من الاستقراء.
رابعاً: التجربة
وتعنى اجراء اختبارات عملية متعددة في موضوع واحد، وبصور مختلفة حتى يخرج المختبر بنتيجة كلية، وقاعدة عامة.
مثلا اذا أخذ قطعة من الحديد وسلط عليها درجة معينة من الحرارة فوجدها تتمدد ثم كرر هذه العملية مراراً في شرائط مختلفة، وعلى قطع متعددة من الحديد، فحصل له القطع بأن خاصية الحديد هي أن تتمدد بالحرارة، كان ذلك هو ما يسمى بالتجربة.
ولا شك أن التجربة بوحدها لا تكفي لاستنباط حكم كلي بل لابد من ضم قاعدة عقلية اليها وهي «ان قطع الحديد ما دامت ترجع الى طبيعة واحدة فلا معنى لان يختص التمدد ببعضها دون بعض اذ ليس ذلك التخصيص الا بمنزلة اعتبار المعلول (التمدد) بلا علة» لان معناه ان التمدد لا يرتبط بالحديد والنار بل بشيء آخر والمفروض عدمه، ولأجل ذلك قالوا: حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد.
ولابد هنا من التذكير بأن الفرق بين التمثيل والاستقراء الناقص من جهة، والتجربة من جهة اخرى هو: أن مناط الاستنتاج في التمثيل والاستقراء الناقص هو التشابه بين الجزئيات في بعض الوجوه، والملاك في التجربة هو «المماثلة الكاملة» والسنخية الطبيعية التامة بين الأفراد.
خامساً: العقل
وهو يفارق غيره من أداوت المعرفة كالتمثيل، والاستقراء والتجربة، فان الأمور الاخيرة تعتمد على التصفح والتتبع وفحص أحوال الجزئيات ثم استنتاج نتائج كلية على أساس التشابه النسبي (كما في التمثيل والاستقراء الناقص) أو التماثل الكامل (كما في التجربة).
وأما العقل فليس عمله الا ملاحظة نفس الموضوع من حيث هو هو، من دون ملاحظة سائر الجزئيات والافراد الاخرى.
فاذا نظر إلى ظاهرة طبيعية حدثت بعد أن لم تكن، مثل حريق اندلع في مخزن، حكم بنفسه بأن لهذه الحادثة علة، وان لهذه الواقعة سبباً، وانه لا يمكن أن تحدث دون علة.
فكون العقل، من أدوات المعرفة انما هو بهذا المعنى وأما كيف يتوصل العقل الى هذا القانون الكلي وأمثاله فله حديث مفصل مذكور في أبحاث نظرية المعرفة (2).
اذا تبين لك هذا فستعرف ـ قريباً ـ أن «برهان النظام» الذي يعد من أوضح البراهين والأدلة على وجود الخالق الصانع للنظام الكوني، ليس برهاناً حسياً بمعنى أن تكون جميع مقدماته مأخوذة من الحس ومبنية على الادراكات الحسية، ولا من مقولة التمثيل، أو الاستقراء اللذين يكون الملاك فيهما هو التشابه بين فردین (كما في التمثيل) أو التشابه بين أفراد متعددين (كما في الاستقراء)، ولا برهاناً تجريبياً بمعنى أن يكون الملاك فيه هو تعميم الحكم على أساس المماثلة الكاملة بين الاشياء المجربة وغير المجربة.
بل هو «برهان عقلي خالص» يحكم فيه العقل بأمر بعد ملاحظة نفس الشيء وماهيته، وبعد سلسلة من المحاسبات العقلية، من دون تمثيل أو اسراء حكم كما يتم ذلك في التمثيل أو التجربة.
وللبحث تتمة حول ان برهان النظام برهان عقلي خالص...