هل النظم المحدود يكشف عن دخالة الشعور؟
اسئلة حول برهان النظم (2)
شبكة النبأ
2022-06-07 05:29
بقلم: الشيخ جعفر الهادي
هل النظم المحدود يكشف عن دخالة الشعور؟
ان شمول النظم لبعض الموجودات والظواهر الطبيعية الواقعة في اطار العلم البشري لا يدل على شمول هذا النظم وسريانه في الكون كله، فان ما وقع عليه ادراك الانسان من هذا العالم هو اقل بكثير مما لم يقع عليه ادراكه، ومع ذلك كيف يمكن أن يستكشف من هذا النظم القليل المحدود دخالة الشعور في تكون النظام الكوني كله، في حين من المحتمل أن تكون هناك عوالم خارجة عن نطاق ادراكه يسودها الفوضى والهرج والمرج مما لم يدركه الانسان ولم يقع ضمن مدركاته ومعلوماته؟
الجواب:
ان الاجابة على هذا السؤال واضحة، اذ حتى لو فرضنا ان الانسان لم يقف على تلك العوالم الخارجة عن ادرا كه فان هذا لا يدل على خلوها عن النظام، فكيف يحكم المادي ـ بقاطعية بانه لا مجال للاعتقاد بدخالة الشعور في تكون هذا العالم، هذا اولا.
وأما ثانياً، فان ما یدركه الانسان من النظام البديع السائد في المحيط الطبيعي الواقع تحت ادراكه يكفي لإثبات دخالة الشعور والعلم في تكونه وایجاده.
فان العين ـ على سبيل المثال ـ بما فيها من دقة الصنع وعمق التركيب، اذا لوحظت بكافة اجهزتها واغشيتها ومياهها وما يسود فيها من الترابط والاتساق والتعاون لتحقيق هدف خاص وهو الابصار، وما بين هذه الحاسة وسائر اعضاء الجسم من التعاون، حكم الانسان ـ من فوره ـ بان هذا النظم (بالمعنى المذكور) لا يمكن أن يوجد الا بدخالة شعور وقصد، دون ان يحتاج في حكمه هذا إلى الاحاطة بعموم الكون كما توهم المعترض.
ونمثل لذلك بمن يدخل في مكتبة كبرى ويتصفح كتاباً من كتبها، وبعد أن يقف على شطر منه يسود فيه الترابط والتناسق والتعاون بين السطور والفصول الذي يتوقف عليه بيان امر خاص، فانه يذعن من فوره بوجود مؤلف عاقل وقدير وراء هذا الكتاب، سواء تفحص بقية الكتب الموجودة في تلك المكتبة اولا، فان في النظم والنسق الموجود في الكتاب المذكور كفاية للدلالة على وجود مؤلف قادر.
ان الانسان الذي ينظر الى الطبيعة المحيطة به بواسطة الاجهزة التي زود بها كلما تفحص اكثر، وقف على مزيد من النظم والترابط والتناسق في اجزاء الطبيعة ولم يقف أحد الى الان على مورد واحد يسوده الفوضى ويعمه اللانظام والعشوائية.
العلماء المحققون والاعتقاد بدخالة الشعور:
ان جهود العلماء وما يجرونه من اختبارات وفحوص بالميكروسكوب أو التلسكوب يدل على انهم يعتقدون في قرارات نفوسهم بسيادة نظم دقيق في ارجاء الطبيعة، ولهذا فهم يجتهدون غاية الاجتهاد لاكتشاف النواميس والقوانين الحاكمة في الطبيعة للانتفاع بها في الحياة البشرية، ولو لم يكن عندهم مثل هذا الاعتقاد لما تجشموا عناء الفحص والاختبار والتحقيق، اذ لا معنى لذلك لو كان العالم في نظرهم فوضى لا نظام له ولا قانون.
ولا يحصل مثل هذا الاعتقاد القطعي بوجود النظم الا بعد الاعتقاد بدخالة الشعور والعقل والقصد في تكون النظام الكوني، فلولا هذا الاعتقاد لما أمكن أن يدعي العالم الفاحص القطع بوجود النظام في الكون، ولهذا قلنا فيما مضى ان المادي المنكر للصانع الحكيم بلسانه، مؤمن بذلك بوجدانه وضميره اذ لا شك أن المادي والالهي يقفان على صعيد واحد من حيث الاعتقاد بسيادة النظم في هذا الكون، ولهذا يتساويان في الفحص عن الضوابط والنواميس الطبيعية، وهذا يعني انهما يعتقدان قبل ذلك بوجود تلك الأنظمة والنوامیس، والا لما كان لبحثهم وتحقيقهم مبرر، ولا يصح الاعتقاد القطعي بوجود النظم الابعد الاعتقاد بدخالة الشعور والقصد في تكون العالم ولولا الاعتقاد الأخير لما امكن للباحث أن يدعي القطع بوجود النظم فان الاعتقاد بالتصادف لا ينتج القطع بالنظام بل أقصاه هو احتماله.
وبتعبير آخر أن السعي لاكتشاف النواميس والقوانين في الطبيعة ناشئ من القطع بوجود النظم في الكون وهو بدوره ناشئ من الاعتقاد بدخالة الشعور والقصد في ايجاده فهذا هو الذي دفع العالم الفاحص ـ مادياً كان أو الهياً ـ الى الايمان القطعي بسيادة النظام في الكون، اذ ان الاعتقاد بدخالة التصادف في نشأة الكون لا يمكن أن يحمله على الاعتقاد بسيادة النظام فيه على وجه القطع، لان القول بالتصادف لا يورث الاذعان بوجود النظام القطعي في العالم.
ان العالم الذي يجلس وراء المجهر ليقف على النواميس الحاكمة في الخلية أو الدم لو سألناه: ما الذي دفعك إلى الجلوس وراء المجهر وتجشم عناء الفحص؟ لأجاب: بأن هناك نظاماً سائداً في هذه الكائنات اريد أن أكشف القناع عنه، فاذا سألناه ثانية: ومن أين علمت بسيادة النظم على الكون علماً قطعياً؟ فان أسنده الى القول بدخالة الشعور والعقل في تكون العالم صح له ادعاء الإذعان القطعي بوجود النظم، وان أسنده الى التصادف لم يصح له ادعاء القطع بوجود النظام لان التصادف لا يحمل انساناً على الاعتقاد القطعي، لان معنى التصادف هو انه «يمكن أن يكون كذا أو كذا» ومثل هذا لا يورث العلم القطعي ولا ينتجه.