الدين الشخصي والتصوف العلماني
عادل الصويري
2019-03-16 06:58
هناك تصور شبه عام يحاول أن يختصر الوظيفة الدينية فردياً من خلال العبارة الشائعة (الدين هو علاقة الفرد بربه) من دون شرح مقنع لجوهر مفردة (العلاقة). لماذا غاب عن متبني هذا التصور أن العلاقة بين الفرد وربه هي علاقة تكاملية انطلاقاً من شمولية الرب ورحمته التي وسعت كل الموجودات التي خلقها. وبقصر هذه التكاملية على نحو فردي؛ فإن هذه العلاقة التكاملية ستتحول إلى جزيئات شخصية، وبالتالي نحصل على نوع من التدين الشخصي، فيكون الدين مجرد نظرية وسلوكيات يمكن أن يمارسها صاحب العلاقة بشكل فردي من دون أن يكون له دور في محيطه، هذه العلاقة المتفتتة هي دين انعزالي في الحقيقة.
إنَّ فردية التدين محاولة لسجن الدين في الذات التي تمارس حياتها الخارجية وفق التصورات غير الدينية التي لا تنسجم مع قيم عدل وتسامح تؤكد وتشدد عليها الشرائع الدينية. هذه التصورات في وقوفها بالضد من معايير التدين إنما تريد أن تجعل من نفسها منافساً شرساً، وعدواً لدوداً لكافة المعتقدات الدينية، وتعمل على إزاحته وتحجيم دوره بعد أن فشلت في إلغائه وإبعاده كلياً؛ لذا اختارت له عزلةً نَظَّرت لها وسوَّقت جملة (علاقة الفرد بربه) لتوهِمَ الآخر أنها لاتقف بالضد من التدين إنما تريد تنظيم أو تقنين التدين، لكنه تقنين إقصائي بعبارات مهذبة، تقنين لا يريد للعلاقة مع الآخر دينامية وحركة تنطلق من جوهر ديني، وتنسجم مع مبادئه.
وليس غريباً إذا أطلقنا على الفردية الدينية وصف (التصوف العلماني)؛ فالمعروف أن المتصوفة لهم طقوسهم التعبدية التي تجعل لهم محيطاً خاصاً، وحيزاً ارتضوه لأنفسهم معتقدين أن ما يفعلونه يمثل قمة الروحانية، في حال أن ما يقومون به عزلة غريبة تجعلهم شاطحين بعيداً عن محيطهم وواقعهم، وبعيداً عن عوائلهم وأولادهم، وهذه أنانية عبادية، حتى ذمَّهم أبو العلاء المعري بقوله مُحاججاً: (أقالَ اللهُ حينَ عبدتموهُ .... كلوا أكلَ البهائمِ وارقصوا لي؟!). ويبدو أن مريدي العلمانية يحاولون تقديم التصوف من منظور جديد، فالممارسات العبادية المعروفة تمارس داخل البيت وينتهي الموضوع عند هذا الحد، وفي الخارج ليس للفرد أن يكون له اتصال مع الآخر إلا في أطر تبتعد عن الدين، فليس للمتدين (الأبيض) على سبيل المثال الدفاع عن حقوق (الأسود) المتعرض للظلم والاضطهاد، أو القتل أحياناً كما في حالات شهدتها أميركا؛ لأن دفاعه هذا منطلق من قيم دينية، بينما عليه الاكتفاء بممارسة دينه في منزله وبشكل فردي!
إنَّ العلاقة مع الآخر تعد من أهم مبادىء التشريعات الدينية، ففي هذه العلاقة تضامن اجتماعي مع المضطهدين والمقموعين على حساب ثراء آخرين وتوحشهم وليس هناك من حل لإيقاف مد التدين المتعاطف مع المعذبين ــ بحسب الرؤية الفردية ــ سوى علاقة شخصية مع الرب تتضمن بعض الممارسات العبادية، وأهلاً وسهلاً بالمتدين الفردي الذي يمارس دينه في منزله، ثم يأتي ليكون جزءاً من شركات تنتشر هنا وهناك تستفز القيم الدينية بشكل سافر رصده (داستن بورد) في كتابه (الإسلام في المجتمعات العلمانية وما بعد العلمانية) حين أشار إلى ما أسماه (عبادة الاستهلاك العصرية) والتي يراها ناتجة عن التعاون بين السلفية السعودية والشركات الرأسمالية حيث يسعى السلفيون الوهابيون ــ بحسب داستن بورد ــ إلى تدمير ما تبقى من المباني والأضرحة ذات الرمزية الروحية التي قاموا بهدمها سابقاً تحت يافطة (الإصلاح الديني)، أما اليوم فالتهديم هو ذاته لكن مع تغير اليافطة من إصلاح ديني إلى أرباح وعوائد مالية.
إن الاصرار على تدين فردي أو شخصي بحسب المعطيات أعلاه هو في الحقيقة محاولة لخلط الدين بالماديات، وهذه الرؤية تنسجم بنسبة معينة مع طرح (عبد الكريم سروش) في الموازنة بين الدين والعلمانية معتقداً انها تحرك الساكن من العقل من خلال العبور إلى (عقلانية دينية) تتيح التعدد لا الأحادية، وهذا تناقض آخر تقع فيه رؤية التدين الفردي، إذ كيف تنسجم الفردية (الدينية) مع التعدد الذي يفرزه العقل وفق مقولة (عقلانية الدين)؟
الإنسان اليوم بحاجة ماسة إلى التفكير الجدي في مواجهة الأفكار التي تريد الذهاب به إلى خلاصة : (دين ضد الدين) ، وذلك من خلال إعمال الفطرة والعقل معاً، بحيث لا يكون هناك أي بون بين القيمتين الفطرية والعقلية. ليس لأي فكرة إنكار ما للدين من حضور عميق في وجدان الإنسان،
لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال تصور غياب التدين عن أي حضارة بشرية. وإرادة السماء شاءت لهذا التدين إشباعاً روحياً ومعرفياً، ومن ثم يلعب هذا الإشباع دوره الحيوي في تنظيم السلوكيات، وتبويب الاحتياجات من الأهم إلى المهم. وكل ذلك طبعاً يكون على نحو يعزز علاقة الفرد بالمجموع بما يلائم نزعاته ومتطلباته المادية والنفسية والعقلية والروحية، وتلبية هذه المتطلبات لا تتم إلا من خلال إشباع التدين الذي سيقوده بالنتيجة إلى حل إشكاليات الغموض المتعلقة بالوجود، والوصول لبر أمان الحقائق الطاردة لكل خوف وقلق بمنتهى الأمن والسكينة الذاتية.