الاحتراب مع الآلهة
أوربا وسرقة بروميثيوس
حكمت السيد صاحب البخاتي
2017-05-23 06:30
ينقسم تاريخ الميثولوجيا القديمة في الغرب لاسيما الإغريقية المؤسسة في حضارة وثقافة الغرب، ينقسم الى ثلاث مراحل شهدت تطورا وتحولا أنتج مخطط المسار الثقافي والسياسي الذي انتهجته أوربا/الغرب في تاريخها الوسيط والحديث.
وتبدأ المرحلة الأولى بعصر الآلهة الذي ينتهي بمشاركة البشر، لتبدأ المرحلة الثانية وهي عصر الآلهة والبشر وفي نهايتها سرق بروميثيوس النار من الآلهة وسرق تانتالوس الرحيق من طاولة زيوس وإعطاه لاتباعه، فانكشف في النار والرحيق سر الآلهة ليبدأ عصر البطولة وهو العصر الأخير في تاريخ الميثولوجيا الأوربية/الاغريقية الذي فيه تتشكل الاسطورة الاغريقية لتظل حية ومحركة في تاريخ الوعي الأوربي.
ويرى دارسي هذه الميثولوجيا أن مغامرات بروميثيوس تعتبر تحولا خطيرا في تاريخها، فقد كان عصر الابطال تحولا وانتقالا من تاريخ الآلهة الى تاريخ البشر، فالأبطال هؤلاء هم أنصاف آلهة أو نتاج زواج بشر فان بإله خالد. لكن سرقة أسرار الآلهة وانكشافها قاد بالنهاية الى خلود الأبطال وفناء الآلهة، لقد تم إلغاء الآلهة لصالح استحواذ الأبطال، ونجد أبلغ صور الالغاء هذه في عصر العلمانية في تاريخ أوربا الحديث، إنه نسخة أخرى عن عصر البطولة في بقايا الميثولوجيا الاغريقية في الذاكرة الاوربية وفي أعماق تلك الذاكرة نجد هوية الالحاد في أوربا.
لقد تحول الانسان الاوربي من الانسان نصف الآلهة/البطل الى الانسان العلماني الذي تخلى عن نصفه الإلهي بل وطرده من حياته لاسيما بعد ان أرادت المسيحية استعادة دور ومكانة الآلهة في حياة أوربا فألغت الانسان لصالح الاله أو أرادت استعادة كلية لعصر الآلهة وإلغاء عصر البطولة، لقد تحول فيها الانسان الى حمل وديع حين يضرب على خده الايمن يمنح خده الايسر على ألأقل افتراضا في فهم المسيحية/الشرقية التي استعارتها أوربا من الشرق، لقد عادت وفق نيتشه الى أخلاق العبيد بعد ان ألغت من جديد عصر البطولة التي شكلت هاجسا وجوديا بالنسبة الى نيتشه، وفي تضادات أخلاق العبيد/المسيحية كان نيتشه يستحضر الفحولة الاسلامية باعتبارها تشكل امتدادا لمعاني البطولة، لكن نيتشه ومن خلفه كل أوربا نظر الى المسيحية ومن ثم الى كل الدين الى أنها محاولة أخرى تسعى الى عقوبة الانسان الاوربي الى إعادته الى أسر وتحكمات الآلهة وتدمير عصره البطولي، طبعا ذلك بناء على أو إستنتاجا عن نيتشه الذي ظل فكره وإيمانه يرمز الى العصر البطولي الإغريقي الذي ظل يستعيده دائما الغرب في ذكرياته، في أدبه، في فنه، ومن ثم في إعلانه عن موت الاله والغاء الدين وهو ما يتحفز بضوئه أو تحت مظلته العصر العلماني المتأخر.
لقد شكلت النار والرحيق في اسرار الآلهة رموز المعرفة الممكنة بواسطتها عمليات الخلق والايجاد، أوهي ترمز الى اللوغوس/العقل الواسطة بين الاله والوجود والذي تتم به عملية الفيض على الوجود لدى فلاسفة الاغريق الأوائل، لقد استحوذ الانسان/البطل على المعرفة في الميثولوجيا، واستحوذ الانسان/العلماني على العقل في التاريخ وبكلا نسختيه فهو الاوربي الذي ظل يمارس تقنية وهوس الاستحواذ في تاريخه الحديث، بعد ان تحول الى منافس للإله في الاستحواذ والهيمنة بعد ان سرق النار والرحيق "اللوغوس/العقل" التي تشكل تقنيات السلطة والهيمنة، لقد تحول الى منافس للاله في سلطته في كونيته في تأثيره في كل شيء حتى في منافسته أخيرا على مصيره.
حيث أعلن الانسان/الفكر الاوربي المتشكل في جذوة المعرفة الوضعية عن موت الانسان في نهاية المطاف بعد ان أعلن عن موت الاله في بداية مسيرة الانفصال التام عن الله في العلمانية المستندة الى مبدأ القوة والتي عبر فيها نيتشه عن جوهر الروح الأوربي بإعلانه موت الاله مع وصول المنافسة مع الاله الى ذروتها.
وقد انعكست نتائجها في المنافسة على السلطة والاستحواذ والهيمنة بل وحتى الموت على تاريخ الانسان الحديث، فقد شهد هذا التاريخ خلالها حربين كونيتين وحروب إقليمية وأهلية، وكان الغرب لاسيما الولايات المتحدة يشارك في ايقاد نارها وزيادة حرارة النار فيها التي سرقها بروميثيوس من الآلهة في تأجيج معاركها وكراهيتها ومآسيها من أجل السلطة والهيمنة، بل تحولت السرقة لديه الى تقليد صارم في تأسيسات نظامه الاستعماري والاستغلالي–الامبريالي الذي تتم عقلنته عبر أيدولوجيات الفكر لديه.
وتتأسس تلك الأيدولوجيات على ثنائية الأنا والآخر وهي الثنائية الابدية في أيدولوجيات هذا الفكر ومكوناته التي تشكلت منذ المنافسة الميثولوجية مع الاله الذي تستمر منافسته أو مواجهته بصفته الغرب ذي الشكل العلماني مع الأخر/الشرق ذي المضمون الديني/الاسلامي، انه إستمرار للإحتراب مع الاله الذي تسعى الأيديولوجيا العلمانوية في الغرب الى تكريسه في قناعة الحرب مع الشرق الاسلامي. بينما تشكل في حقيقتها عودة بروميثيوس من جديد سارقا للطاقة/النار...
الثنائية الابدية
ظل الغرب يجد ذاته دائما في تلك الثنائية التي ظل أسيرا بها ولها في خفايا او إعلانات كل تاريخه، إنها ثنائية الأنا المتحضر/العقلاني والأخر البربري/العدواني. ومنذ ان حصل الانسان الأوربي على سر اللوغوس وهو يواجه غضب الآلهة الذي ظل يتجسد في الأخر الديني وفق متطلبات الوعي الاوربي بحقيقة تاريخه، وهذا الأخر الديني يتجسد أيضا في العدواني غير القادر على حمل اللوغوس/العقل، هكذا تجسدت العلاقة بين أوربا وشعوب الشرق منذ لحظات لقائها الاول في معاركها مع دولة الأكاسرة، في المعارك بين الاغريق والفرس، لازالت ذاكرة اوربا لاسيما الاتجاهات اليمينية والراديكالية الحديثة تحكي ذلك الهذر في تنميطها للصراع مع الشرق الذي ظلت العلاقة مرتبكة به في ظل هذه الثنائية.
وهكذا يلتصق يوما بعد يوم الشر بالإسلام باعتباره الناطق الثقافي والحضاري باسم الشرق وبما يعيده باعتباره دينا إلهيا الى الذاكرة الاوربية من حكاية الاحتراب مع الالهة التي تهددها دائما بالمطاردة والحرب على الذات الاوربية، من هنا تسوغ أوربا مشروعية حروبها باعتبارها دفاعا عن قيم الحداثة والانسان الذي حل محل الآلهة، لكن المفارقة الصادمة ان كل حروب وصراعات أوربا جرت وتجري على أرض وفي ممالك ودول الآخر العدواني، انها مفارقة يعيها تماما الوعي الاوربي لكنه لا يخضعها الى متطلبات مراجعة فكرية أو انسانية في إستثنائتيه في حمل اللوغوس وتلك أسطورة أوربا التي لاتكف أوربا عن التحديث لها.
لقد ظل الاله مذموما في أوربا لانه ظل يطارد انسان اوربا على حيازته النار/اللوغوس وظل ينوء بحمل الكرة المستديرة على عنقه في إشارة وجودية الى حمله مسؤولية العالم حتى تحولت المسيحية لديه في لحظة تصالحه مع الاله الى مسؤولية مكلف بها سماويا لإنجاز الخلاص في سلوك الكنيسة القروأوسطية وفي واقعة الحروب الصليبية ثم عاد ليعلن الخلاص من الاله ذاته حين استمكن في قوته وطور صناعته وظل مهموما بسعيه الى إزاحة الطبيعة لأنها يد الاله لصالح الثقافة بأنها يد الانسان، وهي تدخل في تلك الثنائية التي ابتكرها في العلاقة بين الطبيعة والثقافة، لقد شجع على الثقافة ليتمكن من المنافسة والاستمتاع باللوغوس بمعزل عن مطاردة الاله وسعيه الدائب الى عقوبته.
هكذا يجد الغرب في الدين انه سعي دائم لعقوبته تحت وطأة اللاوعي الذي يختزن معصية الانسان للإله في ملحمة بروميثيوس. ولغرض حماية ذاته في وهم أسطوري فإنه يلجأ الى نبذ الدين وإقصائه من الفضاء الخاص، لكنه حين عجز إضطر الى إقصائه عن الفضاء العام فقط، أن اللائكية – اللادينية تعبير متطرف عن ضمانات الأمن والحماية للذات الاجتماعية الأوربية من مطاردة الاله، لذلك فإنها تلجأ الى طرده نهائيا من حياتها عبر كسر الثنائية بين الله والانسان في العلاقة الدينية، واذا كان هذا سعي اللائكية – العلمانية المتطرفة التي بدأت تجتاح أوربا من جديد في سياقاتها اليسارية المتطرفة لاسيما في فرنسا، فإن الغرب عموما يسعى الى كسر الثنائية بين الأنا/الغرب والاخر/الشرق بالانفراد والاستفراد بالعالم والقرار الدولي أو بما يروج له في تمثيله المجتمع الدولي لاسيما الولايات المتحدة الأميركية التي سعت الى عالم القطب المنفرد بعد إنهيار عالم قُطبي الثنائية.