معاني النسبية وتفسيراتها وتقييمها
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-03-01 06:40
لكي يكون البحث أكثر عمقاً ودقة وثراء، يجب علينا أن نسأل عن المعنى المقصود بالنسبية، وأن نقوم بدراسة المعاني كلها وتحليلها ونقدها.
فإن المعاني المحتملة أو المقصودة، أو النظريات النسبية متعددة، نذكر أهمها، كما سنشير الى عدد من الاعتراضات والنقوض والنقد الوارد على بعضها فقط في هذا الفصل:
1- عدم الإحاطة بكل الحقائق
المعنى الأول من معاني النسبية: أن يراد بها أننا قد نكشف بعض (الحقائق) أو جانباً من (الحقيقة) وجزءً منها، ولكننا لا نحيط بكل أبعادها خُبراً، وذلك كإكتشافنا جانباً من أسرار الطبيعة والماورائيات، وليس كلها، ومن ذلك (حِكَم تكاليف الشارع) ومنه (علوم القرآن)، فلابد إذن من رسول وإمام، ولذا قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(1) وقال جل اسمه: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(2) وكذا ما يتعلق بالبارئ تعالى(3)، مما يكشف عن أن الاستناد للعقل الفلسفي فقط، يعد من أكبر أخطاء أكثر الفلاسفة ـ إن لم نقل كلهم ـ وأننا غير قادرين ـ بقوانا العقلية والحسية ـ على الإحاطة بكل، بل بأكثر حقائق الكون ـ ظاهره وباطنه ـ بل إن كل شيء وكل حقيقة، فإن لها جوانب وأبعاداً وبطوناً، لا نستطيع أن نحيط بها بأجمعها.
قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(4) ويستفاد من هذه الآية الشريفة أن للعلم أربعة أبعاد أو أضلاع: علم الدنيا، وعلم الآخرة، ولكل منهما ظاهر وباطن، والناس لا يعلمون إلا بعضَ ظاهرِ الحياةِ الدنيا فقط!
والحاصل: أن (الحقيقة) (كلي طبيعي)، له أنواع وأصناف وأفراد كثيرة أولاً؛ إذ توجد هنالك الملايين، بل المليارات، بل لعله الأكثر جداً، من الحقائق، المادية والمجردة، في عوالم الجماد والنبات والحيوان والحشرات والميكروبات وفي غيرها، وفي عوالم الملائكة والجن وغيرها، وفي عالم الطاقة والأمواج والأشعة وشبهها.(5)
ثم إن كل فرد من أفراد تلك الحقائق، له أبعاد كثيرة ثانياً، ولعل أبعادها تكون كأعداد الحقائق، فوق أن يتخيلها الإنسان، وعلومنا ومعارفنا، في كلا الحقلين، ضئيلة، (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(6) ولكن (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها)(7) و: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة والحكمة فليأتها من بابها).(8)
2- الإصابة في بعض الجوانب
المعنى الثاني من معاني النسبية: أن يراد بها أننا قد نصيب في بعض ما اكتشفناه ونخطئ في البعض الآخر، وأن عقولنا ومداركنا وحواسنا ليست بمنأى عن الخطأ، بقول مطلق، بل قد نخطئ، ونحن قاطعين بأننا على صواب!
وهذان المعنيان يلتقيان مع محور كتابنا الآخر (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) وقد عقدنا فيه مباحث لإثبات المعنى الثاني (في خارج دائرة المستقلات العقلية، والبديهيات، وشبههما كالرياضيات ـ على التفصيل الموضح في ثنايا البحث هنالك).
إلا أن المعنى المعروف والمعهود في هذا العصر والمطابق لظاهر لفظ (نسبية المعرفة) هو المعنى الثالث والرابع وكذا لوازمهما ـ أو ملازماتهما ـ أي المعنى الخامس والسادس والثامن والتاسع، وكذا المعنى الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وكذا الرابع عشر والخامس عشر، لذا سيتركز النقاش في هذا الكتاب حولها، وإن أفادت بعض الأجوبة في إزاحة الستار عن عدم الاطلاق في دعوى النسبية في المعينين الأوليين أيضاً(9).
3- الصحة في زمان دون آخر
المعنى الثالث من معاني النسبية: أن يراد به، إن معرفتي للحقيقة قد تكون صحيحة في زمان وصائبة فيه، وتكون بنفسها خطأ في زمان آخر، أو في مكان آخر، أو في ظرف آخر وحالة أخرى.
وليلاحظ أن الحديث كله عن الصحة والخطأ في عالم الثبوت ونفس الأمر، لا في عالم الإثبات وما يراه الشخص.
4- صوابية الآراء المتعاكسة
المعنى الرابع من معاني النسبية: أن يراد إن (معرفتي للحقيقة) صائبة، كما أن (معرفة من يحمل قناعة ورأياً مضاداً عن الحقيقة نفسها، وبالمواصفات والشروط نفسها) هي صائبة أيضاً.
وهذا هو الذي ذهب إليه بعض مَن ادعى (الصراطات المستقيمة) مقابل قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(10)وسنناقشها لاحقاً بالتفصيل بإذن الله تعالى.
كما أن واحداً من أهم أركان ومبادئ (الديالكتيك) هو: (وحدة النقيضين) أو (الضدين) وصحة اجتماعهما، وقد عبروا عنه بـ(تداخل الأضداد) (وهو يقتضي وجود التناقضات في الطبيعة: تتضمن الحركة تناقضاً، قوامه أن شيئاً يكون ولا يكون في موضعه في نفس الوقت)(11) وحيث تحقق عندهم التناقض في (الطبيعة)، سرى إلى التناقض في (المعرفة)(12)، وقد اتخذ بعضهم من قول بعض علماء الغرب (القضية العلمية يمكن أن تكون خاطئة في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقة) ذريعة لقولهم بأن من الممكن أن يكون الشيء الواحد حقيقة ومناقضها، صحيحاً وسقيماً، وصادقاً وكاذباً معاً.
ولعل البعض ينبري للدفاع عن ذلك بالقول: إن للحقيقة تجلياتٍ وأطواراً مختلفة، فكل (معرفة) بها، وكل (انطباع) عنها، فهو حق لأنه يجسد طوراً من أطوارها وتجلياً من تجلياتها.
لكن هذا التوجيه والدفاع لا يتطابق مع هذا القول أبداً؛ لأن هذا القول يرتأي أن (الآراء المتخالفة) كلها، صواب، وأن (القناعات المتضادة)، صحيحة، أما الموجِّه فيقول: كل رأي طابق بعض جوانب الحقيقة، فهو من حيث مطابقته هذا الجانب، صواب.
وبتعبير آخر: لا شك أن الحقيقة لو كانت لها أبعاد وجوانب وتجليات، فإن ما يطابق أي جانب أو تجلٍّ، فإنه حق، لكن الكلام هو فيما لو تناقضت الآراء في ذلك الجانب نفسه من الحقيقة، أو في ذلك التجلي نفسه؟
بعبارة أخرى: قد تكون الحقيقة كليّاً ذا أفراد، وقد تكون كلاً ذا أجزاء، وقد تكون أمراً بسيطاً ذا مراتب أو تجليات، وفي كل الصور فإن السلب والإيجاب من الرأيين، لو ورد أحدهما على نفس ما ورد عليه الآخر (أي نفس التجلي، أو نفس الجزء، أو نفس الجزئي...) فإن أحدهما ـ لا محالة ـ باطل، ولا يعقل أن يكونا صحيحين أبداً.
صوابية الآراء المتعاكسة والصحة في زمن دون آخر في الميزان
ولابد ان نشير ههنا إلى بعض الاعتراضات والإشكالات التي يمكن او توجّه على (النسبية) بالمعنى الثالث والرابع، وذلك قبل أن نستكمل استعراض سائر معاني النسبية، فنقول:
أولاً: النظريتان الأخيرتان تنقضان أنفسهما
إن دعوى أن (المعرفة هي مطلقاً نسبية)، تنقض نفسها بنفسها؛ لأن هذه الدعوى هي قضية وهي نوع من (المعرفة) كما هي مفهوم من المفاهيم، فإن كانت من القضايا الجزئية المسوّرة بسور (بعض)، أو كانت من القضايا المهملة التي هي بحكم الجزئية، فلا إطلاق لها عندئذٍ وليست (قاعدة)، وإن كانت كليّة مطلقة شملت نفسها، فكانت هي بذاتها نسبية، فلم تكن هي مطلقة! هذا خلف.
وبعبارة أخرى: إن هاتين الدعويين أي النسبية بالمعنى الثالث (المعرفة صحيحة في زمن دون آخر وفي مكان دون آخر وفي حالة دون أخرى) والنسبية بالمعنى الرابع: (إن المعارف المتناقضة كلها صحيحة في الوقت الواحد) إما هما دعويان تنقضان أنفسهما بأنفسهما، وإما هما قضيتان جزئيتان لا ترقيان إلى مستوى القاعدة أبداً، وذلك بنحو المنفصلة الحقيقية:
إذ لو قلنا بإطلاقهما وعمومهما لشملت أنفسهما، فلزم أن تكون هذه القضية (كل معرفة فإنها نسبية بالمعنى الثالث أو الرابع) أيضاً نسبية فتكون إذن صحيحة في زمن دون آخر أو في حالة دون أخرى، فلم تكن قاعدة علمية، أو تكون نسبية بمعنى صحتها وصحة النظرية المعاكسة لها أيضاً (أي نظرية عدم نسبية المعرفة)، وهذا هو الخلف الذي أشرنا إليه، بل يلزم من وجود هذه القاعدة عدمها، وما يلزم من وجوده عدمه، محال.
وأما لو قلنا بكونهما قضيتين جزئيتين أو مهملتين، فليستا إذن قاعدتين علميتين.
كما نخاطب أولئك المفكرين الديالكتيكيين (القائلين بالمادية الجدلية)، فنقول لهم: إذا كان (من الممكن أن تكون القضية العلمية خاطئة في الوقت الذي تكون فيه حقيقة) استناداً إلى مبدأ (تداخل الأضداد)(13)، فإن هذه القاعدة الكلية تنطبق على أصولكم الفلسفية والمنطقية بأكملها(14)، فتكون عندئذٍ خاطئة في نفس وقت كونها حقيقة! وينطبق ذلك بحذافيره على القائلين بالمادية التاريخية.(15)
كما أن من الممكن كذلك أن تكون نفس هذه القضية (من الممكن أن تكون القضية العلمية...) كاذبة في نفس وقت كونها حقيقة!
وهل يقبلون هم بذلك؟ وهل يعقل أن يلتزم بذلك عاقل؟
والظاهر أن منشأ الخلط والخطأ لديهم نشأ من أحد أمور:
1- إما أنهم لاحظوا وجود جوانب صحيحة في نظرية علمية وجوانب خاطئة أخرى فيها، كما لاحظوا وجود جوانب سليمة في مركب تكويني وجوانب فاسدة أو سقيمة (كتفاحة، سليمة في جانب ومتعفنة في الجانب الآخر).
ومن الواضح أن هذا المعنى صحيح، لكنه لا يرتبط بالديالكتيك أبداً ولا ربط له بتداخل الأضداد وبإمكان اجتماع الضدين والنقيضين، بشرائطهما، وذلك هو ما أشرنا إليه في المعنى الثاني من معاني النسبية ولا ارتباط له بالمعنى الرابع بوجهٍ من الوجوه أبداً.
2- أو أنهم لاحظوا إلتزام العلماء بصحة نظرية، فترة من الزمن، ثم إلتزامهم بنظرية مضادة أو مناقضة وقد أشرنا إلى ذلك في مبحث آخر(16).
3- أو أنهم لاحظوا أن شيئاً قد يكون (حقيقة) رغم أن الطريق أو الدليل الموصل إليه كان خطئاً، وأين هذا من نسبية الحقيقة بالمعنى الثالث أو الرابع أو أشباههما؟
ثانياً: (النسبية) تجربة شخصية قاصرة
إننا نتساءل: ماذا يقصد أولئك الذين يدّعون (نسبية المعرفة)؟ وعن من يتحدثون عندما يقررون: (معارفنا نسبية)؟ فهل يقصدون من كون (المعرفة نسبية) أنهم هم (أي الذين آمنوا بنظرية نسبية المعرفة) الذين لا يمتلكون إلا المعرفة النسبية؟ أم يقصدون أن كل العلماء هم كذلك؟ أم يقصدون التعميم حتى لرسل الله وأوصيائه؟ أم يقصدون التعميم حتى لسائر المخلوقات، كالملائكة والجن وسائر ما يعيش في عوالم الغيب؟ أم يقصدون تعميم النظرية حتى لله تعالى خالق الكون؟
فإن قصدوا أنهم هم الذين لا يمتلكون إلا المعرفة النسبية، فهذا هو شأنهم الخاص، الذي يكشف عن (عجزهم المعرفي) وضعف قدراتهم الفكرية وضآلة ومحدودية علومهم، وعجزهم عن الوصول لمعرفة صحيحة مطلقة في كل الأزمان والأمكنة والحالات وعجزهم عن توفير الحصانة والمناعة لطرقهم العلمية من أن تنالها يد تشويه القبليات الفكرية والخلفيات النفسية وعجزهم أيضاً عن الوصول لحقائق مطلقة لا يمكن للآخرين نقضها وتكذيبها وهم صادقين مصيبين في ذلك النقض! وعلى ذلك فإن نظريتهم المعرفية هذه ليست إلا مسألة شخصية تنبع من تجربة شخصية(17) أو من قناعة شخصية، وذلك مهما اتسع نطاق التجربة لتشمل عينات أخرى من علماء آخرين، فهي ليست إذن قاعدة علمية، ولعل الأفضل لهم أن يستنجدوا بالآخرين(18) ليجدوا مخرجاً من هذه الأزمة، ويجدوا سبيلاً لهم سالكة إلى (المعرفة الحقيقية) أي:
أ: المعرفة المطابقة للواقع، غير المتأثرة بقبلياتهم وخلفياتهم.
ب: والمعرفة الصحيحة في كل الأزمان والأمكنة والحالات.
ج: والمعرفة غير المتناقضة... إلى آخر المعاني المعاكسة للنسبية، كما وجد العلماء مخرجاً من (جاذبية الأرض)، فصنعوا ما يحلق في الفضاء، ويخترق الغلاف الجوي، ويتملص من سلطان الجاذبية، ليحط في القمر أو المريخ، رغم أن كافة العلماء سابقاً على مر ألوف السنين، كانوا يرون استحالة (الخرق والإلتيام) لطبقات الجو، وأن الأفلاك السبعة كأقشار البصل في هيئة بطلميوس!
إن الأجدر بـ(العالم) أن يتواضع للعلم ولسائر العلماء، وأن يذعن على الأقل بهذا الاحتمال وهو أنه وإن لم يكن قد توصل إلى (المعرفة الحقة) ولم يستطع أن (يحصِّن) نفسه، من تأثيرات قبلياته الفكرية وخلفياته النفسية، على "تفكيره" وأنماطه وكيفية رؤيته للحقائق؛ إلا أن من الممكن أن يوجد غيره ممن وصل إلى (سر الحقيقة) و(مفتاح الحصانة) عن عمى الألوان وتشوش الرؤية، وممن وصل إلى الحقيقة المطلقة غير المتناقضة وممن وصل إلى الحقيقة المطلقة التي لا يحدها زمان ولا مكان ولا حالة!
هذا الاستقراء غير معلل، ولا قياس
وبتعبير آخر: إن علماء النسبية لو قصدوا أن العلماء كافة هم كذلك، فنقول: من أين لكم هذا؟
فهل كان ذلك عن طريق (التجربة) و(الاستقراء التام) ودراسة حالة الملايين من العلماء في شتى العلوم، وفي مختلف الأعصار، والأزمنة، والأمكنة؟ إن ذلك محال لا يدعيه عاقل.
أم عن طريق (تنقيح المناط) أو (الاستقراء المعلل) أو (المنهج الاستنباطي القياسي) أو (المنهج الفرضي)، أو شبه ذلك؟ وهذه كلها:
أ: لا يمكن استخدامها لمعرفة حالة كافة العلماء، خاصة إذا عرفنا أن (العلماء) على أقسام، فمنهم العلماء الزمنيون، ومنهم العلماء الروحانيون، ومنهم العلماء الربانيون، وإذا كان غالب (علماء العصر) لا يحيطون خُبراً بنوابغ العلماء الزمنيين، في زمنهم، ممن تقدموا على عصرهم، وصنعوا ما كان العلم يعتبره ضرباً من الخيال أو مستحيلاً(19)، فكيف تراهم يحيطون خبراً بنوابغ العلماء الروحانيين(20) وعجائب العلوم الغريبة(21)، ثم كيف يحيطون خبراً بنوادر العلماء الربانيين، الذين عليهم لا أقل أن يحتملوا أن بعضهم يعرف علم المنايا والبلايا والأسرار الكونية(22)، وأن يحتملوا أن تكون نفوس أولئك الروحانيين، كمرايا كونية عملاقة تنعكس فيها، حقائق الكون، كما هي هي، دون أن تتأثر بأي عاملِ تشويش أو تلويث! ودون أن يحدها زمان أو مكان، ودون أن تتحكم فيها ظروف ومسبقات وخلفيات!
وبذلك ظهر أن (الاستقراء) التام لحالة الملايين من الناس، مستحيل عادة، وأن (الاستقرار المعلل) أو (تنقيح المناط) لا مجال له، بعد أن لم تكن أنواع العلماء موحدة.
نعم لو كان العلماء كلهم كـ(أجهزة الروبوت)، والإنسان الآلي، نسخاً متطابقة متكررة لأمكن بتحليل حالة أحدها، استكشاف حالة الآخر، لكن (الإنسان) ليس آلة ولا جهازاً ميكانيكياً، بل لكل شخص، شخصيته الخاصة، وبصمته الفريدة، خاصة وأن المجاميع الكلية للعلماء تتنوع إلى مجاميع تصل للعلم عن طريق الكشف والشهود، أو الإلهام أو الوحي، أو عن طريق صقل النفس وقوة الروح والرياضة، أو عن طريق (التجربة) و(الدراسة)، فكيف يعقل بعدئذٍ القول بأن الاستقراء معلل أو أن المنهج استنباطي قياسي؟ أو شبه ذلك؟ إن غاية ما يصلون إليه من كل ذلك ليس إلا (الشك) والشك ليس إلا...
ب: بل لو ترقينا فإن هذه المناهج لو استخدمت في الإنسان، ذلك الكائن المجهول الشديد التعقيد والمتعدد الأبعاد، فإنها لا تفيد إلا ظناً لا يركن إليه الحكيم.
ج: إنها لا تفيد حسب النظرية نفسها، إلا معرفة نسبية بأن: (الكل لا يمتلك إلا المعرفة النسبية) وهذا يعني بلسان هذه النظرية: أنها قد تكون خاطئة في جانب منها، (كجانب شمولها للأنبياء والأوصياء والعلماء الربانيين مثلاً، بل شمولها لنوابغ العلماء)، أو أنها صحيحة في هذا الزمن، أو هذه البقعة الجغرافية، أو في حالة ما، دون زمن أو مكان أو ظرف أو شخص آخر. كما يعني هذا ـ تأسيساً على نظرية نسبية المعرفة في بعض أقوالها(23) ـ أن مدعي هذه النظرية على صواب، والقائل بنقيضها على صواب أيضاً! لأن لهذه الحقيقة تجليات متضادة! أو حيث (لا معيار) يميز الحق من الباطل، فلتكن هذه النظرية وضدها صواباً أيضاً! وذلك هو (التصويب) الواضح بطلانه، وقد أسهب علماء الكلام والأصول في إبطاله، كما أنه هو الخلط بين الثبوت والإثبات، واستنتاج للإيجاب من السلب؛ فإن نتيجة القول بـ(اللامعيارية) هي (اللاأدرية) لا العلم بالصواب!
افتقاد الدليل على التعميم للأنبياء والأوصياء
وبذلك ظهر أيضاً: أنهم إن قصدوا أن الرسل، والأنبياء، والأئمة، أو سائر مخلوقات الكون، لا يمتلكون (المعرفة المطلقة)، فإن قولهم هذا يجسد نوعاً من أنواع الجهل والغرور العلمي؛ إذ هو حكم على غائب، مجهول، لم يُحيطوا به خبراً.
وأليس مَثَل ذلك، إلا كمثل مَن يحكم بأنه لا يعقل أن (لا نسمع) الأصوات ذات الذبذبات الصوتية فوق درجة عشرين ألف هرتز، مع أننا نسمع الأصوات ذات الذبذبات الأقل؟
أو يقول مثلاً: لا يعقل أن تتحرك الأمواج الصوتية أو فوق الصوتية في الماء؛ لأن الماء أكثر كثافة من الأمواج فكيف تتحرك الأمواج الصوتية فيها؟ وكيف يخترق الأضعف الأقوى؟(24) وذلك لمجرد أنه أراد أن يتعقل الحقائق بقوة التفكير المجرد، وهو إذ يخطئ فيها فيما لو فكر في الماديات القريبة من حواسه، فكيف لا يخطأ لو فكر في المجردات البعيدة حتى عن إدراكاته؟
أو كمن يقول ـ في الزمن الغابر أو الحاضر ـ لا يعقل وجود (مَلَك) يُعدّ قطرات المطر ـ وهي بالمليارات أو الترليونات أو أكثر من ذلك ـ في جزء من الثانية؟ لمجرد أنه لم ير مخلوقاً من مخلوقات الله تعالى ـ وهو الإنسان ـ يصنع جهازاً أسماه (الحاسوب) بمقدوره أن يقوم بألف مليار (تريليون) عملية حسابية في الثانية؟ أو كمن يحكم ببطلان (معادلات المادة والطاقة) لمجرد قصوره الذهني وعدم فهمه لتلك المعادلات!
نقول لهم: من أين علمتم أن الله تعالى لم يخلق خلقاً يمتلكون (المعرفة المطلقة الكاملة) بكل معانيها؟(25)، ويشكلون المرجعية والضمانة الكلية للإصابة في الأحكام العقلية(26)، وهم مصابيح الدجى وأنوار الهدى، وهم الذين يشكل الإبتعاد عنهم، أحدَ الأسباب المنهجية لخطأ التفكير (خطأ العقل)، فيما لو اقتحم خارج دائرة (المستقلات العقلية).
ثالثاً(27): المعقولات المنطقية والفلسفية تشهد عليكم
سبق أن من البديهي وجود علوم هي كلها حقائق(28)، أو تتضمن الكثير من الحقائق، وذلك كالرياضيات والمنطق، و(المعقولات الأولى)(29) و(المعقولات الثانية المنطقية)(30) و(المعقولات الثانية الفلسفية)(31)، هي (معارف مطلقة)، فهي:
أ: صحيحة في كل مكان وفي كل زمان، وفي مختلف الظروف والحالات.
ب: وأن من لا يقبلها فهو المخطئ، وليس له نصيب من (الحقيقة) أبداً.
ج: كما أن (معاييرها) دقيقة وموضوعية ومطلقة.
د: وهي حقائق حقيقة، وليست حقيقتها مرتهنة بكونها (نافعة) أو لا، على أن أكثرها نافعة على مستوى العقل النظري، مطلقاً.
هـ: وهي (مقولات عقلية عالمية).
و: (ليست نتيجة وجهة نظرنا الخاصة فقط)، وقد حدث الخلط بين كونها (فينا) أو كونها (بنا).
ز: وليست هي (مخلوقة) لهذا الخ أو ذاك العقل أو ذياك الذهن، بل هي أسمى من أن يخلقها الذهن والعقل؛ فإن لها تقررها في أنفسها، وغاية فضيلة العقل أن (يراها) و(يكتشفها) ويكون (المرآة) لها.
ح: كما أن (اللغة) الحاملة لها هي (لغة موضوعية) وهي مرآة عاكسة، قادرة على كشف الحقيقة بدقة متناهية.
ط: وهي معرفة تخترق الباطن ولا تجمد عند حدود الظواهر، ولكم أن تتصوروا، للتوضيح، مجهراً ضخماً، أو مكروسكوباً جباراً، أو مرآة عملاقة، بل والأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية أو غيرها والتي تخترق الظلام أو عمق الأجسام وتصور بواطن المواد، وهذه الأمثلة لتقريب الفكرة.(32)
ي: كما أن كثيراً منها لا تتوقف معرفتها على (نسبتها) لشيء آخر، ككل ما هو (في نفسه، لنفسه) سواء كان (بنفسه) أيضاً وهو الله جل وعلا[33] أم لا، كما في كافة أنواع الجواهر من دائرة (المعقولات الأولى)[34]، كـ(الإنسان) و(النبات) و(الحجر والمدر) وما أشبه ذلك من الحقائق غير النسبية. وكما في قسم من المقولات التسع العرضية، وأما القسم الآخر منها فنقول: إن توقف معرفة الشيء على نسبته لشيء آخر، أو مقابلته له ومقارنته به، غير ضار؛ إذ أين (الإضافة) من (النسبية)[35]؟ ثم إنه لا يصح تعميم حالة (معارفنا) ولو وجدناها فرضاً تتوقف على ذلك، على سائر الكائنات، وقياسها بنا.
رابعاً(36): أين التجليات من النسبية؟
إن وجود أجزاء، أو جهات، وأطوار، وتجليات عديدة للحقيقة، لا يعني (نسبيتها) بل يعني (كمالها) و(تكاملها) و(تعقيدها) أو (تركبها من أمور كثيرة) أو وجود مراتب وظاهر وبواطن لها.
والحاصل: أن الحقيقة بأطوارها وتجلياتها وأبعادها المختلفة، هي هي، فمن عرفها كما هي، كان مصيباً، ومن خالف قطعُه أو ظنُه، واقعَ الحقيقة في كل أبعادها أو بعض أبعادها، كان مخطئاً.
نعم من عرف الحقيقة بكل أبعادها وتجلياتها، كانت (معرفته كاملة ومطلقة) وذلك كمعرفة الأنبياء حقائق الأشياء، قال تعالى: ƒوَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها‚(37) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(38) وقال: (يا علي ما عرفك إلا الله وأنا) (39).
وأما مَن لم يعرف الحقيقة بكل أبعادها وأطوارها، فإن معرفته بجانبٍ أو بُعدٍ فقط، قد يكون ضاراً أي موقعِاً في الخطأ، وقد لا يكون، وذلك إذا كانت المعرفة بنحو (لا بشرط) وكان الواقع أيضاً كذلك، وذلك في الحقائق غير الارتباطية(40)، تكوينية كانت أم تشريعية.
نسبية آنشتاين
ومن هاتين النقطتين وغيرهما، يظهر أن البعض قد توهم عندما خلط بين (مذهب النسبية المعرفية، الفلسفي) والذي ينكر الطبيعة العلمية الموضوعية للمعرفة، وبين النظرية الفيزيائية الشهيرة بـ(النظرية النسبية العامة والخاصة) التي تقوم على التفسير العلمي للكون(41)؛ إذ نقول:
أولاً- إن النظرية هذه، ليست وحياً منزلاً، ليستند إليها لنسف كل بديهي، وكل حكم عقلي، بل لابد لدى تعارض أية نظرية علمية أو تجربة ميدانية، مع (الأوليات) و(الفطريات) و(المستقلات العقلية) من أن نعرف أن هنالك خطأ ما في تلك النظرية أو التجربة أو الاستنتاج منها؛ وإلا لما استقر حجر على حجر، ولما وجد علم أصلاً؛ إذ (البديهيات) تعد أساس العلوم ومفاتيحها، ومع التشكيك فيها ينهدم أساس العلم كله، ولعلنا نفصل هذه الحقيقة في موضع آخر.
ثانياً- أثبت بعض كبار علماء الفيزياء المتأخرين، (خطأ) أنشتاين في بعض معادلاته الرياضية التي استند إليها في بعض جوانب نظريته:
ومنها (نظريته في أن الكون لا يتغير من ناحية الحجم)، فقد اكتشف "الكساندر فريدمان" عام 1922 غلطة في عمليات الجبر التي استخدمها أنشتاين لإثبات نظريته. وبعد تصحيح الخطأ، تبين أن (الكون يتغير إما بالزيادة في الحجم أو النقص)، وقد اعترف أنشتاين بعدها بغلطته.
ومنها: (نظريته في أن سرعة الضوء ثابتة) وهي من أهم أسس الفيزياء الحديثة والنظرية النسبية، فقد شكك فريق العلماء الاسترالي، من جامعة "ماكاري" في سيدني، ويرأسه عالم الفيزياء "بل دافيز" في ذلك وارتأى أنه من المحتمل أن تكون سرعة الضوء قد تعرضت للإبطاء على مدى زمني فائق الطول، قد يصل إلى مليارات السنين، والتغيير ربما حدث بعمق الكون، وقال "دافيز" في تصريحه لوكالة رويترز للأنباء: (إن من شأن أمرٍ كهذا التخلي عن النظرية النسبية)، كما ذكرت مجلة natu)e (نيتشر) العلمية: أن فكرة (تغير سرعة الضوء) قامت على أساس معطيات ومعلومات استخلصها "جون ديب" عالم الفلك في جامعة "نيو ساوث ويلز" بأستراليا.
من جهة أخرى: فإن العلماء تمكنوا مطلع عام 2001، من ما كان يعتبر ضرباً من المستحيل، إذ نجحوا في إبطاء سرعة الضوء، بل نجحوا في إيصاله إلى نقطة الصفر في الحركة، كما نجحوا في تخزينه وإطلاقه من جديد.(42)
ثالثاً- إن تضمنت نظرية أنشتاين النسبية، ما قد يوهم نسبية (الحقيقة) أو (المعرفة) مثل (تسارع الزمن وتباطئه) أثر (تسارع الحركة وتباطؤها)(43)؛ فإنها تكشف عن (وجود خارجي تشكيكي)(44) لم تخل من الإشارة إليه الكثير من كتب المنطق والفلسفة والكلام، وقد فصلنا الحديث عن (الوجود التشكيكي) وأنه في تشكيكيته، (حقيقة مطلقة) و(المعرفة بها كذلك) مطلقة، في موضع آخر(45)، وأوضحنا أن النسبية إذا أريد بها التشكيكية، أو تغير النسبة بتغير المنسوب إليه، فإنها لا تنفع (الهِرمينوطيقيين) بوجه من الوجوه، وفصلنا الأمر على حسب أكثر من عشرة من المعاني التي ذكرت للنسبية.
والحاصل: أنه لا ارتباط لذلك وشبهه، بكون (المعرفة نسبية) بالمعنى الثالث، والرابع، وكذلك المعاني الآتية، وهي الخامس، والسادس، والثامن، والتاسع، والحادي عشر، والثاني عشر بل وحتى الثالث عشر (كما أوضحناه هنالك) أو حتى سائر المعاني فتدبر جيداً، وعلى سبيل المثال نقول: إن (المعرفة بقوانين الزمن والحركة، هذه) إن (طابقت) الواقع الخارجي، كانت حقاً، وإلا كانت باطلاً وخطأ، فالمقياس (التطابق) بقول مطلق، ولا تأثير لتغير الزمان والمكان والظروف في شمولية (معيارية) "التطابق".
ثم إن كثيراً من قوانين الحركة، يعرفها العلماء بالجزم والقطع، ولا يوجد لديهم أدنى تشكيك فيها أبداً، كما أن الألفاظ الحاملة لتلك المعاني هي الأخرى دقيقة، بل دقيقة جداً، ولذا يدرسها العلماء بكل دقة، وعليها يبنون تجاربهم اللاحقة أو يكوّنون التراكم المعرفي، وقد أوضحنا ذلك وغيره فلا نعيد.