شعرية الحكمة: بين العقل والعاطفة مع الباحثة هديل فرحان عودة
أوس ستار الغانمي
2025-09-15 07:03
في إطار الحراك الأكاديمي والنقدي الذي تشهده الجامعات العراقية، تبرز جهود باحثين شباب يسعون إلى تقديم إضافات نوعية في حقل الدراسات الأدبية. ومن بين هذه الجهود، تأتي رسالة الماجستير التي أنجزتها الباحثة هديل فرحان عودة من قسم اللغة العربية في كلية التربية بجامعة ذي قار.
وقد خاضت الباحثة رحلة بحثية مميزة بإشراف الأستاذ الدكتور حسين علي عبد الحسين الدخيلي، الذي كان حاضرًا بتوجيهه ومتابعته الدقيقة، ومساندًا لها في تجاوز التحديات العلمية والمنهجية. ومن خلال هذا الإشراف، تبلورت الفكرة لتصبح دراسة تسعى إلى الكشف عن حضور الحكمة في الشعر الغزلي، لا باعتبارها خطابًا عقليًا فحسب، بل بوصفها عنصرًا شعريًا وجماليًا يتفاعل مع العاطفة ويمنح النص بُعدًا تأمليًا وفنيًا.
في هذا الحوار، تفتح الباحثة ملف تجربتها، وتكشف عن دوافع اختيارها لهذا الموضوع، والصعوبات التي واجهتها، فضلًا عن الرؤية التي تطمح أن تسهم من خلالها في إثراء النقد الأدبي المعاصر.
ما الذي دفعكِ للاهتمام بالحكمة من زاوية "شعرية"؟ ولماذا كان من المهم إثبات أن الحكمة ليست فقط خطابًا عقليًا؟
تُثار تساؤلات في الدراسات الادبية حول ما اذا كانت الحكمة باعتبارها خطابا ًعقلياً مباشراً قادراً على امتلاك شعرية لتكمن المشكلة الرئيسية في غياب دراسة معمقة تُعنى بتحليل حضور الحكمة بوصفها مكوناً شعرياً داخل شعر الغزل وعلى هذا الاساس جاءَ اختيارُ البحثِ من الأستاذِ المشرفِ، وكانت فكرتُه قائمةً على كيفيةِ اجتماعِ العقلِ أشعار الحكمة، مع العاطفة، أشعار الغزل لنركز على الكيفية التي تقدم بها الحكمة بأسلوب فني داخل شعر الغزل فعلى الرغم من طابعه العاطفي الا انه لم يكن مجردا من الحكمة بل كان وعاءً يحمل في طياته كثيراً من الرؤى التي صيغت بأساليب فنية تكسب النص طابعا شعريا تجعل الحكمة عنصراً جمالياً وفنياً يندمج في نسيج النص الغزلي.
متى يمكن أن تتحوّل الحكمة من مجرد فكرة عقلية إلى تجربة فنية وشعرية؟
قد سلطنا الضوء على التفاعل بين العاطفة والعقل في شعر الغزل فالحكمة ليست شعرية في ذاتها ولكنها تكتسب الشعرية حين تصاغ في قالب فني يمتلك خصائص الشعر ويمكن القول عن شعرية الحكمة التحول الذي يطرأ على المعنى العقلي عندما يدخل في بنية شعرية فنية ليصبح جزءا من التجربة الجمالية للنص وهكذا يصبح التعبير عن الرؤية او الموقف جزءا من النص الشعري لا مجرد اضافة عقلية ُ. وقد وجدَنا الشعراءَ قد اهتموا ببناءِ تلكَ الأشعارِ فنيًا لتكون أكثرَ قبولًا ووقعًا في النفسِ بل تعطي جمالًا يميز نصَّها من غيرهِ.
كيف تفصلين بين "الحكمة الشعرية" و"الوعظ المباشر"؟ ما الحدود التي تجعل الحكمة تدخل في نسيج الشعر؟
الحكمة الشعرية هي التي تولد من رحم الرؤية، لا من سلطة التلقين. وما يجعلها شعرًا بحق هو اندماجها الكامل في بنية اللغة، والصورة، والمجاز، والتوتر الشعوري.
ما الخصائص الأسلوبية أو البلاغية التي لاحظتِ أنها تمنح الحكمة طابعًا شعريًا؟
من الأشعار التي يكون نصيب العواطف فيها وفرًا، فإنَّ قائلها في هذه الحالة يحرص أشد الحرص على التواصل والتأثير فضلًا عن وظيفة تلك الأشعار الأساسية التي هي تربوية تعليمية، لذا نجده يختار ألفاظ تلك الأشعار والأساليب التي تبنى عليها تلك الأشعار لتحقيق أكبر قدر من التواصل والتأثير والجمال وما يتبعه من لفت للانتباه, وهذا لا يتم إلَّا عبر نقل الألفاظ المختارة من وجودها الثابت في الطبيعة إلى عالم آخر تتداخل فيه العلاقات لتخرج بنية جديدة ولغة جديدة, وليتولّد لنا نص شعري يختبئ خلفه كثير من الدلالات والتأويلات التي من شأنها أنْ تدفع المتلقي إلى التأمل في لغة هذا النص الشعري التي تحولت بفعل القصدية من لغة عادية إلى أخرى غير مألوفة، ليتمكّن الشاعر عن طريقها من التعبير عن تجربته الحكمية التي توصل إليها عبر علومه ومعارفه، وينقلها عبر اللغة من الورق إلى الحياة على حد تعبير جون كوهين, فهم يتّخذون من الشعر وسيلة لحفظ حكمهم وانتشارها, فهي خلاصة أفكارهم يصوغها الشاعر بألفاظ سلسة عذبة جزلة أنيقة، ويستبطن معاني سلسة ذات مغزى تهدف إلى توجيه الحياة في طريق الفطنة والاستقامة, فهو يستعملها لإدراكه أنَّ مخاطبة لغة العقل ستكون سببًا في توجيه الأمور نحو الصواب, فالحكمة تمنح حجة للمتكلم يستند إليها في إثبات ما يقوله.
هل وجود الحكمة في تضاعيف الأبيات (وليس في بدايتها أو نهايتها فقط) يجعلها أكثر شعرية؟ ولماذا؟
الحكمة تمنح حجة للمتكلم يستند إليها في إثبات ما يقوله, لتكون الصوت المحايد بين الشاعر والمتلقي, ليؤكد هذه الرؤية في طريقة إيراده الحكمة خاصة إذا أتى بها في تضاعيف الأبيات أو نجد أنَّها تمثّل مع البيت الذي قبله والذي بعده فكرة متكاملة، فتكون الحكمة مقدمة وما بعدها نتيجة أو تعليلًا أو استباقًا لما يأتي بعده أو قبله، لتكون مع العنصر الآخر وحدة نصية متكاملة، فطريقة إيراد الحكمة في سياق معين يعطي الحكمة الشعرية، وذلك عندما يسوقها بصورة يجذب بها المتلقي، وعلى العموم إنَّ شعر الحكمة لا يثبت على حال، فعندما يريد الشاعر إيرادها لا يلتزم في مقدمة الأبيات أو نهايته أو في تضاعيف القول ليصوغ الشاعر آراءه بصورة جمل مطلقة وقواعد عامة وكأنَّها أحكام مجردة ليس له صلة بها، وهذا ما يعدُّ نوعًا من التلبيس والإيهام على المتلقي، ليجعل بناء أشعار الحكمة على هذه الصورة مقصودًا لذاته ليكون بنية مستقلة عن أجزاء القصيدة تقوم على تركيب موضوعي عقلاني، وتظهر على أنَّها علوم ومعارف تصل بالإنسان نحو الطريق الصحيح.
ما الأدوات التي يستخدمها الشاعر لتحويل الحكمة من خطاب عقلاني إلى صورة فنية؟
الشاعر يستخدم مجموعة من الأدوات الفنية لتحويل الحكمة من خطاب عقلاني جاف إلى صور فنية مؤثرة تلامس الوجدان وتثير الخيال. من أبرز هذه الأدوات:
1. الصور البلاغية (الخيال الشعري):
- التشبيه: تقريب المعاني المجردة من الذهن بربطها بأشياء محسوسة.
- الاستعارة: إعطاء المعاني المجردة صفات محسوسة لتجسيدها.
لتظهر الحكمة بشكل فني.
- الكناية: الإيحاء بالمعنى دون التصريح به، مما يفتح المجال للتأويل والتأثر.
2. الإيقاع الموسيقي:
- الوزن والقافية يعطيان بعدًا سمعيًا ممتعًا، فيجعل الحكمة أكثر تأثيرًا وقابلية للحفظ
التكرار والجناس والسجع: أدوات موسيقية تخلق تناغمًا وتعزز المعنى.
-الإيحاء بمعاني الحكمة بشكل غير مباشر.
3. المفارقة الشعرية:
عرض التناقض بين ما هو متوقّع وما يحدث فعلاً، ما يُثير التفكير ويُبرز الحكمة في صورة شعرية لتقريبها من وجدان القارئ. وقد وجدَنا الشعراءَ قد اهتموا ببناءِ تلكَ الأشعارِ فنيًا لتكون أكثرَ قبولًا ووقعًا في النفسِ بل تعطي جمالًا يميز نصَّهم من غيرهِ.
كيف تُسهم عناصر مثل الإيقاع، التصوير، والانزياح في إكساب الحكمة طابعًا جماليًا؟
لقد حرص شعراء الغزل في بناء حكمهم على اختيار الأسلوب الذي يُجذب عن طريقه متلقيه لاستقبال الرسالة والتحاور معه وتشد الانتباه، إذ يجعل الرسالة نابعة من الوجدان، ويعبّر بها عن الإحساس وقدرة العمل الأدبي على توظيف المشاعر الجمالية التي تعمل على إيقاظ المتلقي، فالانزياح عمَّا هو مألوف وإبراز القيم الجمالية للكلمة وتأثيرها عليه أمور تحمله على التفكير والتأويل, كذلك إقناعه بالحكمة ليكون للشعرية المتغلغلة في الحكمة دور في العمل الأدبي، إذ يلقي النص بأثره على المتلقي والاستجابة للحكمة، وذلك لما لهذا الأسلوب من قدرة على التأثير وتغيير طبائع النفوس والتحكم بدوافعها ليمتاز النص الحكمي بقدرته على أنَّ يكون نافذًا ومسموعًا ليس في عصر واحد بل في جميع العصور.
هل رأيتِ أن هناك فرقًا في شعرية الحكمة بين شعراء مختلفين؟ ما الذي يجعل حكمة شاعرٍ ما أكثر تأثيرًا وجمالاً من غيره؟
نعم، هناك فرق كبير في شعرية الحكمة بين الشعراء، ويظهر هذا الفرق في القدرة التعبيرية، والعمق الفني، وسحر اللغة. فليست كل حكمة تُقال تُلامس القلب أو تُخلَّد في الذاكرة، بل هناك عوامل تجعل حكمة شاعر ما أكثر تأثيرًا وجمالًا من حكمة شاعر آخر. ومن العوامل التي تجعل حكمة شاعر أكثر تأثيرًا وجمالًا:
1. القدرة على التخييل والتصوير
- شاعرية الحكمة لا تكمن في معناها العقلي فقط، بل في الصور التي تُحلق بها في الخيال.
فالحكمة هنا تُصاغ في ثنائية درامية مصورة، تعطي الحكمة بُعدًا إنسانيًا ملموسًا.
2. اللغة الشعرية الموحية
- شاعر يستخدم ألفاظًا منتقاة بعناية، فيها موسيقى، يكون أثره أعمق.
فقد تكون عبارة بسيطة، لكن فيها جرس موسيقي وإيحاء فلسفي، لذا حفرت مكانها في الذاكرة.
3. التجربة الصادقة والمعاناة
- بعض الشعراء يكتبون الحكمة من تجارب شخصية مريرة مر بها فلامسة جوارحه أو رؤى ناضجة، وهذا يُضفي عليها صدقًا داخليًا.
- الحكمة التي تُولد من معاناة حقيقية، تأتي مشحونة بعاطفة وقوة، فيتفاعل معها المتلقي أكثر وخصوصاً التجارب العاطفية التي عاشها شعراء الغزل.
4. التكثيف والإيجاز الفني
- الشاعر البارع يُوجز المعنى في عبارة قصيرة محملة بدلالات.
- بينما شاعر آخر قد يطيل ويكرر، فتفقد الحكمة أثرها.
- حكمة الشاعر تصبح أكثر جمالًا حين تلامس هموم الناس أو أسئلتهم الوجودية في وقتها المناسب وهذا ما تمتع به شعراء العصرين عينة الدراسة.
- شاعر معاصر قد يعبر عن حكمة قديمة، لكنه يصوغها بأسلوب عصري فيشعر بها الجيل الجديد بقوة. اذن فحكمة الشاعر لا تُقاس بعمق الفكرة فقط، بل بجمال الأسلوب، وصدق التجربة، وقوة التصوير، وسحر اللغة.
فالشعراء يتفاوتون، فمنهم من يقول الحكمة كفيلسوف، ومنهم من يُصورها كفنان يُضيء بها الوجدان.
برأيكِ، ما مدى قدرة الحكمة الشعرية على التأثير في المتلقي مقارنة بالحكمة المباشرة أو الخطاب النثري؟
وذلك لما لهذا الأسلوب من قدرة على التأثير وتغيير طبائع النفوس والتحكم بدوافعها ليمتاز النص الحكمي بقدرته على أنَّ يكون نافذًا ومسموعًا ليس في عصر واحد بل في جميع العصور. لحكمة الشعرية تمتلك قدرة تأثير أعمق وأطول مدى في نفس المتلقي مقارنة بالحكمة المباشرة أو النثرية، لأنها تجمع بين المعنى العقلي والأثر العاطفي والجمالي.
إذن الحكمة الشعرية “تغرس” الفكرة في الوجدان، بينما الحكمة النثرية “تنقل” الفكرة إلى العقل ولذلك، في التربية، الإعلام، أو التعليم، من الذكاء أن نستخدم الحكمة الشعرية عندما نريد التأثير العميق والطويل، والحكمة النثرية عندما نحتاج توجيهًا مباشرًا سريعًا.
هل يمكن للحكمة الشعرية أن تكون أكثر رسوخًا في الذاكرة بسبب بنيتها الفنية؟
نعم، تكون راسخة بسبب بنيتها الفنية حيث ان اختيار الأسلوب الذي يُجذب عن طريقه متلقيه لاستقبال الرسالة والتحاور معه وتشد الانتباه، إذ يجعل الرسالة نابعة من الوجدان، ويعبّر بها عن الإحساس وقدرة العمل الأدبي على توظيف المشاعر الجمالية التي تعمل على إيقاظ المتلقي، فهم يتّخذون من الشعر وسيلة لحفظ حكمهم لتكون اكثر رسوخاً وانتشاراً، فهي خلاصة أفكارهم يصوغها الشاعر بألفاظ سلسة عذبة جزلة أنيقة، ويستبطن معاني سلسة ذات مغزى تهدف إلى توجيه الحياة في طريق الفطنة والاستقامة، فهو يستعملها لإدراكه أنَّ مخاطبة لغة العقل ستكون سببًا في توجيه الأمور نحو الصواب، فالحكمة تمنح حجة للمتكلم يستند إليها في إثبات ما يقوله.
كيف تفسرين تفاعل المتلقي مع حكمةٍ شعرية قديمة ما تزال تُستشهد حتى اليوم؟ هل السر في الشكل، أم المضمون، أم كليهما؟
السر في بقاء هذه الحكم واستمرار تأثيرها هو التقاء المضمون العميق بالشكل البليغ. فالمعنى هو ما يُلمس، والشكل هو ما يُحفظ ويُردد. وعندما يمتزج الاثنان بصدق التجربة الشعرية، يتحوّل القول إلى حكمة خالدة، إذ تتضمن هذه الحكم قيمًا إنسانية عالمية، مثل: العدالة، الصبر، الحكمة، الشجاعة، الزهد، التواضع وغيرها.
وهي قيم لا تفقد صلاحيتها مهما تغيّرت الأزمنة. عندما يجد المتلقي أن الحكمة تعبّر عن تجربته أو واقع يعيشه، فإنه يشعر بصداها في نفسه
هل يمكن اعتبار شعرية الحكمة نوعًا من إعادة صياغة التجربة البشرية بلغة فنية؟
هي تجربة بلا شك واقعية أو قريبة منها إلَّا أنَّ تلك الأشعار إذا ضمّنت ضمن أشعار الغزل كغيرها من الأشعار التي يكون نصيب العواطف فيها وفرًا، فإنَّ قائلها في هذه الحالة يحرص أشد الحرص على التواصل والتأثير فضلًا عن وظيفة تلك الأشعار الأساسية التي هي تربوية تعليمية، لذا نجده يختار ألفاظ تلك الأشعار والأساليب التي تبنى عليها تلك الأشعار لتحقيق أكبر قدر من التواصل والتأثير والجمال وما يتبعه من لفت للانتباه، وهذا لا يتم إلَّا عبر نقل الألفاظ المختارة من وجودها الثابت في الطبيعة إلى عالم آخر تتداخل فيه العلاقات لتخرج بنية جديدة ولغة جديدة.
كيف تساعد الحكمة الشعرية في تشكيل وعي الإنسان أو تهذيب سلوكه؟
يكون ذلك عندما يلقي النص بأثره على المتلقي والاستجابة للحكمة، وذلك لما لهذا الأسلوب من قدرة على التأثير وتغيير طبائع النفوس والتحكم بدوافعها ليمتاز النص الحكمي بقدرته على أنَّ يكون نافذًا ومسموعًا.
ما العلاقة بين شعرية الحكمة والوظيفة التعليمية أو التربوية للأدب؟
التكامل بين الجمال والفائدة: شعرية الحكمة تجعل التعليم غير مباشر، ممتزجًا بالمتعة الفنية، فيتقبل القارئ أو المستمع الفكرة بسهولة.
_ إقناع المتلقي عبر الجمالية: تقديم الحكمة في شكل شعري أو أدبي يزيد من تأثيرها ودوامها في الذاكرة (كما وجدنا عند الشعراء عينة الدراسة).
_ تحقيق التوازن بين الإبداع والرسالة: الأدب لا يكون خطبة وعظية جافة، بل يحقق هدفه التربوي حين يحافظ على الشعرية ويقدم الحكمة بأسلوب غير مباشر
هل ترين أن شعرية الحكمة تتجاوز الزمان والمكان؟ وما العوامل التي تجعلها خالدة؟
نعم، شعرية الحكمة تتجاوز الزمان والمكان، وذلك لأنها ترتكز على قيم إنسانية كبرى وتجارب وجودية مشتركة بين البشر، مما يمنحها طابعًا كونيًا وخلودًا أدبيًا.
شعرية الحكمة تتجاوز الزمان والمكان
-القيم الإنسانية ثابتة: موضوعات مثل الحياة والممات، الصبر، العدالة، المعرفة، السعي وراء المجد وغيرها هي قضايا لا ترتبط بعصر محدد.
- التجربة الإنسانية المشتركة: الحكمة تستمد قوتها من عمق التجربة البشرية، وهي تجربة متكررة في كل الحضارات.
-اللغة الرمزية والجمالية: الشعرية تجعل الحكمة قابلة للتأويل عبر العصور، فيستطيع كل جيل أن يجد فيها معنى جديدًا.
العوامل التي تجعلها خالدة
-بفضل شموليتها: حين تعبّر الحكمة عن معانٍ كلية تصلح لكل زمان لتلائم كل
الاجيال.
-الأسلوب الفني الراقي: الجمالية تضمن بقاء النص حيًا، لأن الناس يميلون إلى ما يجمع بين الفكرة الجميلة والصياغة المبدعة.
-القابلية للتجديد: النصوص الحكيمة تتحمل قراءات متعددة، فيعيد كل عصر تفسيرها وفق سياقه.
-قوة الصياغة المختصرة: غالبًا ما تأتي الحكمة في عبارة موجزة ذات إيقاع، يسهل حفظها وتداولها، مما يضمن استمرارها
ما الصعوبات التي واجهتك في تحليل الحكمة بوصفها "بنية شعرية" وليست فقط "قيمة فكرية"؟
تتمثل الصعوبة الأساسية في تحليل الحكمة بوصفها بنية شعرية في طبيعة هذا المكوّن الذي يجمع بين البعد الفكري والبعد الجمالي؛ فالحكمة ليست مجرد مضمون معرفي أو قيمة أخلاقية، بل هي جزء من نسيج شعري قائم على الإيقاع والصورة والرمز. ويواجه الباحثة إشكالية التحديد المفهومي، إذ تتعدد دلالات الحكمة بين الفلسفة والتجربة الإنسانية والوظيفة التربوية، مما يجعل ضبطها ضمن الإطار الشعري أمرًا معقدًا. كما يطرح التداخل بين المضمون والشكل تحديًا منهجيًا، حيث قد يغلب الطابع التقريري على الحكمة فيفقد النص شعريته، أو تتخفى الحكمة خلف الصور الجمالية بما يصعب إدراكها. ولقد حاولنا عن طريق هذه الدراسة ان نلقي الضوء على جانب قد يبدو غريباً في شعر الغزل وهو حضور الحكمة ليس بوصفها مضموناً عقلياً فحسب بل بوصفها عنصراً شعرياً جمالياً يسهم في بناء النص الغزلي ويمنحه بعداً تاملياً إضافة إلى ذلك، تُعقّد كثافة الحكمة وإيجازها عملية التأويل، إذ تفتح المجال لقراءات متعددة تتأثر بسياق المتلقي وزمنه. لذلك، يبقى تحليل الحكمة الشعرية مهمة دقيقة تستلزم مقاربة مزدوجة توازن بين التحليل الجمالي والتحليل الدلالي لضمان الكشف عن طاقتها الفنية ورؤيتها الفكرية في آن واحد.
هل واجهتِ نصوصًا كانت فيها الحكمة واضحة لكنها فاقدة للطابع الشعري؟ كيف تعاملتِ معها نقديًا؟
اعتمدت منهجًا يقوم على الفصل بين القيمة الفكرية والوظيفة الجمالية. فقد تم تناول النصوص التي تحتوي على حكمة واضحة لكنها تفتقر إلى الطابع الشعري، بتحليل بنيتها اللغوية والإيقاعية للتأكد من مدى توظيفها لعناصر الشعرية مثل الانزياح، المجاز، والإيقاع الداخلي. وعندما تبيّن أن النصوص تنحو نحو التقريرية والخطاب الوعظي أكثر من البناء الشعري، تمت مقاربتها باعتبارها خطابًا تعليميًا أو أخلاقيًا لا يرقى إلى مستوى الشعر من حيث الإبداع الفني. هذا الموقف النقدي يستند إلى مبدأ أن الشعرية لا تتحقق بمجرد حضور الحكمة، بل تتأسس على التفاعل بين الفكرة والشكل الجمالي. لذلك، تم التأكيد في التحليل على أن الجمالية هي التي تمنح الحكمة بعدها الفني وتجعلها جزءًا من التجربة الشعرية، وإلا تحولت إلى خطاب فكري مجرد.
ما الإضافة التي تأملين أن تحققها هذه الدراسة في حقل الدراسات الأدبية والنقدية؟
الإضافة التي يُؤمَل أن تحققها شعرية الحكمة تكمن في قدرتها على دمج البعد المعرفي بالبعد الجمالي، بحيث تتحول الحكمة من مجرد خطاب تعليمي إلى تجربة جمالية حيّة. فحين تُصاغ الفكرة الحكيمة بلغة شعرية توظّف الإيقاع، والصورة، والرمز، فإنها لا تكتفي بتقديم معنى عقلاني، بل تثير في المتلقي لذة فنية وتدفعه إلى التأمل العميق في الوجود. هذه الإضافة تجعل من الشعر وسيلة لتجديد الوعي وإغناء الثقافة الإنسانية، لأن الحكمة حين تكتسب بعدًا شعريًا تصبح أكثر خلودًا وقابلية للتداول عبر الأجيال. وهكذا، تتحقق وظيفة مركّبة للأدب تقوم على الإمتاع والإفادة في آن واحد، مما يعيد للحكمة مكانتها في العصر الحديث باعتبارها طاقة فكرية وجمالية قادرة على تطوير الذائقة وبناء الوعي النقدي لدى المتلقي.
هل برأيكِ يجب إدراج مفهوم "شعرية الحكمة" ضمن مناهج تدريس الأدب العربي؟ وكيف يمكن ذلك عمليًا؟
نعم، يجب ادراجها فالحكمة في الشعر العربي ليست مجرد “نصيحة” أو “درس أخلاقي”، بل هي أيضًا رؤية وجودية. إذ ان تدريس شعرية الحكمة” يُظهر للطالب كيف تُصاغ الأفكار الكبرى — كالقدر، والموت، والعدل، والمعرفة، والمصير في بنى جمالية.
كما يساعدهم على التمييز بين “الحكمة الجافة” و”الحكمة الشاعرية” حيث ان الكثير من المتعلمين يخلطون بين الحكمة كقول مأثور، وبين الحكمة التي تتحقّق بشاعرية الأسلوب، وقوة التصوير، وتكثيف المعنى. كما ان تدريس شعرية الحكمة يُنمي القدرة على تذوّق “كيف” يُقال الشيء. كذلك توسيع مدارك الطلاب وتفعيل حسّ التأويل
فمن خلال دراستنا لشعرية الحكمة وجدنا انها لا تقدّم إجابات جاهزة دائمًا، بل تفتح المجال للتفكير والتأويل. كما انها تُربّي لدى الطالب موقفًا نقديًا تجاه الأفكار، لا موقف الحفظ والتلقّي فقط.
يمكن إدراجها عمليًا في المناهج:
أولًا: تصميم وحدة دراسية تحت عنوان “شعرية الحكمة في الشعر العربي”
_يمكن أن تكون هذه الوحدة ضمن منهج الصف الثانوي أو الجامعي.
_تتناول نصوصًا شعرية قصيرة تُمثّل حكمة ذات طابع جمالي.
واخذ عينات تمثل تنويع النصوص عبر العصور: الجاهلي والاسلامي والاموي والعباسي
ومقارنة بين بيتين يحملان حكمة، أحدهما شعري والآخر نثري.
_واعطاء امثلة ما الذي يجعل الشعر أكثر تأثيرًا؟ هل هو المجاز؟ الإيقاع؟ التراكيب؟
كما يطلب من الطالب إعادة صياغة حكمة مأثورة شعريًا بطريقته الخاصة. وشرح جماليات التعبير عن فكرة فلسفية طرحها الشاعر عن طريق حكمته وبيان قدرة الحكمة الشعرية: هل لا تزال صالحة؟ هل تنتمي لعصرها فقط؟ ام امتدت لباقي العصور إذن إدراج “شِعرية الحكمة” ليس مجرد تطوير لمحتوى المنهج، بل هو نقلة نوعية في طريقة تدريس الأدب، حيث يُصبح الشعر أداة تفكير وتأمّل، لا فقط وسيلة تعبير.
ومن خلال هذا الإدراج، يتحقق التكامل بين الذائقة الجمالية والفهم الفلسفي وهو ما نحتاجه في تعليم الأدب اليوم.
وهكذا، كشفت لنا الباحثة هديل فرحان عودة من خلال دراستها في قسم اللغة العربية / كلية التربية بجامعة ذي قار، عن أن الحكمة ليست مجرد خطاب عقلي مباشر، بل طاقة جمالية قادرة على أن تعيش داخل النص الغزلي جنبًا إلى جنب مع العاطفة، فتمنحه بعدًا أعمق وأثرًا أبقى.
لتبقى هذه التجربة مثالًا على أن البحث الأكاديمي حين يلتقي بالإرادة والدعم العلمي الرصين، فإنه ينتج دراسات تحمل قيمة معرفية وجمالية معًا، وتفتح أبوابًا جديدة أمام الدارسين لفهم الأدب العربي من زوايا لم تُطرق كثيرًا.