آلاء شهيد لـ شبكة النبأ: المسرح العراقي لا يصرّح بل يلمّح... يكتب بالرمز ويصرخ بالصمت

أوس ستار الغانمي

2025-08-06 03:46

في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتتشابك فيه الرموز، يصبح النص المسرحي أكثر من مجرد سرد للحكاية، بل يتحول إلى فضاء تأويلي مشحون بالمعاني، تقتنصه العيون وتفك شفراته العقول. هذا ما وقفت عليه الباحثة آلاء شهيد، طالبة الماجستير في كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل، من خلال بحثها الذي تناول ظاهرة "التكثيف الدلالي في النص المسرحي العراقي المعاصر (2013–2024)"، محاولةً تفكيك البنية الرمزية للنصوص التي كُتبت في مرحلة شهدت تحولات سياسية واجتماعية حادة، وأفرزت جيلاً جديدًا من الكتّاب الذين اختاروا الرمز طريقًا والمجاز وسيلة للمقاومة.

في هذا الحوار، تفتح الباحثة رؤيتها النقدية حول معنى التكثيف الدلالي، والفرق بينه وبين الإيجاز أو الاختصار، كما تناقش المرجعيات النظرية التي استندت إليها، والتحديات التي واجهتها خلال التحليل، وكيف يمكن لهذا النوع من الدراسات أن يسهم في تطوير المناهج الأكاديمية والكتابة المسرحية في العراق.

فما الذي يجعل نصًا مكثفًا دلاليًا دون أن يكون غامضًا؟

وهل يمكن للرمز أن يحمل رسالة سياسية دون أن يفقد روحه الجمالية؟

وإلى أي مدى تميز المسرح العراقي بتجربته الرمزية مقارنة بنظرائه في الساحة العربية؟

كل هذا وأكثر، نستكشفه في هذا الحوار مع الباحثة آلاء شهيد.

بدايةً، كيف تُعرِّفين "التكثيف الدلالي" في سياق النص المسرحي، وما الفرق بينه وبين الاختصار أو الإيجاز؟

التكثيف الدلالي هو قدرة الكاتب على شحن اللغة المسرحية (الحوار، التوصيف، الفعل) بكم كبير من المعاني والايحاءات الرمزية في مساحة لغوية محدودة، بحيث تولد الكلمة أو الصورة أو الموقف دلالات متعددة في آن واحد.                                                       

_ الفرق بينه وبين الاختصار أو الإيجاز.

-الإيجاز هو تقليص الحجم اللغوي دون المساس بالمعنى المباشر.

-الاختصار تقني يهدف إلى حذف الزوائد.

- أما التكثيف الدلالي فهو عملية تراكب دلالات ضمن بنية مكثفة، ما يسمح بالتأويل ويفتح بابًا للتفكيك والتحليل.

ما المرجعيات الفلسفية أو الأدبية التي استندتِ إليها في بناء إطاركِ النظري؟ 

اعتمدت على مرجعيات متعددة منها:

1-المرجعية القرآنية والبلاغية العربية، اعتمدت على القرآن الكريم بوصفه اعلى نموذج للتكثيف الدلالي والايجاز البلاغي، من خلال بلاغته واسلوبه التصويري والايحائي، كما اشرت الى علوم البلاغة الثلاثة (المعاني، البيان، البديع) في استعراض لكيفية انتاج المعاني بكلمات قليلة ومشحونة.

2-المرجعية الفلسفية اللسانية: استندت الى (فرديناند دي سوسير) في تعريف العلامة اللغوية بوصفها مركبة من الدال والمدلول، كما اشرت الى (تشارلز ساندرز بييرس) في السيميائية، لاسيما في الربط بين العلامات والمعاني الثقافية والاجتماعية، كما تطرقت للسيميولوجيا (رولان بارت) لدراسته العلامات والرموز. واستحضرت فكر ابن سينا الذي أكد على العلاقة الجوهرية بين اللفظ والمعنى.

3-المرجعيات الأدبية العربية: اعتمدت على الجاحظ وشرحه لأنواع الدلالات (اللفظ، الإشارة، الخط، العقد، الحال/النصبة).

4-المرجعيات البلاغية والنقدية المعاصر: ناقشت مصطلحات بلاغية ك (الايجاز، الاستعارة، الكناية، المجاز، التشبيه، الانزياح)، وربطتها بمفهوم التكثيف الدالي في النص المسرحي، واشرت الى الوظائف التعبيرية لهذه الوسائل ضمن السياق المسرحي ودورها في خلق معنى مضمر ومشحون بدلالات.

لماذا اخترتِ التركيز على النص المسرحي العراقي المعاصر (2013–2024) تحديدًا؟ 

لان هذه المرحلة تمثل:

-تحولا ثقافيًا وسياسًيا حادًا بعد 2010، خاصة مع تصاعد العنف الطائفي والحراك الشعبي.

-ظهور جيل جديد من الكاتب اختاروا التكثيف كأداة مقاومة رمزية.

-تميزها بنصوص قصيرة لكنها محملة بمستويات دلالية عالية، ما يجعلها نموذجًا خصبًا للتحليل.

كيف حددتِ معايير اختيار النصوص المسرحية ضمن عينتك البحثية؟ وهل واجهتِ صعوبة في إيجاد نصوص تحقق التكثيف الدلالي بالشكل الذي تصورته؟  

المعايير كانت صدور النص بين (2013- 2024)، واحتواؤه على خصائص التكثيف الدلالي (رمزية، ايحاء، تعدد قرارات)، انتشاره او انتاجه مسرحياً في العراق.

لا، لم اواجه أي مشكلة، وذلك بفضل التعاون المباشر الذي ابداه الكتاب معي وتجاوبهم الإيجابي، لذا لم تكن هناك أي صعوبة تذكر.

ما التحديات التي واجهتِها في تطبيق المنهج الوصفي التحليلي على النصوص المسرحية؟ وكيف تعاملتِ مع ذاتية تفسير الرموز والدلالات؟  

-ذاتية التأويل: قد يختلف فهم الرموز من باحث الى آخر.

-قصر بعض النصوص: مما جعل التحليل يتطلب عناية مضاعفة لتفكيك المعنى دون افتعال.

_واجهت التحدي من خلال اجراء مقارنة تحليلية بين عدد من النصوص، مما أتاح لي فهما أعمق للظاهرة.

_العودة الى خلفية المؤلف والبيئة السياسية.

هل اكتشفتِ أنماطًا متكررة من الرموز (كالأماكن، الشخصيات، اللغة) في النصوص العراقية المعاصرة؟ وكيف تعكس هذه الرموز الواقع الاجتماعي أو السياسي؟  

نعم، برزت أنماط متعددة ومتكررة من الرموز التي اعتمدها الكتاب العراقيون لتكثيف المعنى والدلالة داخل النصوص المسرحية، هذه الرموز لم تكن مجرد أدوات جمالية، بل مثلت حوامل دلالية عميقة تعبر عن القضايا الاجتماعية والسياسية والنفسية فكان أبرزها:

-الرموز الاجتماعية والثقافية المألوفة، استخدمت لتوصيل رسائل معقدة بوسائط مألوفة لدى الجمهور. 

-الرموز المكانية المسرحية: والتي مثلت فضاءات محملة بدلالات اجتماعية وسياسية.

-الرموز المجازية والبلاغية كالتشبيه والاستعارة والكناية والتي استخدمت لإعطاء المعاني ابعادا تأويلية متعددة.

-الرمز بوصفة بنية دلالية ضاغطة، فالرمز لم يكن معزولا، بل جاء مشبعا بوظائف متعددة (جمالية، نفسية، تأويلية) وظهر في اللغة، الشخصية، الحدث، العنوان المسرحي نفسه.

من خلال نتائجكِ، هل وجدتِ أن التكثيف الدلالي في المسرح العراقي يأتي كـ"رد فعل" على الوضع السياسي المضطرب، أم أنه تطور جمالي مستقل؟  

النتائج أظهرت انه مزيج من الاثنين:

- رد فعل سياسي على القمع والتقييد، حيث يستبدل الخطاب المباشر بالرمز.

- وفي ذات الوقت، تطور جمالي تأثر بمسرحيات ما بعد الحداثة والرمزية العالمية.

ذكرتِ أن التكثيف يعزز التواصل مع المتلقي، لكن هل يمكن أن يصبح حاجزًا أمام الفهم إذا بالغ الكاتب في استخدام الرموز الغامضة؟ وكيف يوازن النص العراقي بين الإيحاء والوضوح؟  

نعم، إذا بالغ الكاتب في الغموض دون مرجع دلالي واضح يتحول الى عائق، لكن النص العراقي المعاصر عادة ما يوازن بين الإيحاء والوضوح، من خلال إيقاع حواري شعبي، توظيف رمز مألوف محليا، ترك إشارات سياقية تسهل الفهم حتى لغير المتخصص.

ما أبرز النصوص المسرحية التي حللتها ووجدتِ أنها تمثل نموذجًا مثاليًا للتكثيف الدلالي؟ ولماذا؟  

يعد نص مسرحية (انسالات) للكاتبة (فاتن حسين ناجي) نموذجا مثاليًا للتكثيف الدلالي في النص المسرحي العراقي المعاصر، وذلك لعدة أسباب واضحة ترتبط بأسلوب الكتابة وبنية اللغة والبعد الرمزي الذي يحمله النص، إذ استطاعت الكاتبة ان توظف الرمز واللغة المكثفة والايحاء بدقة عالية، لتعكس قضايا الانسان المعاصر في البعد الاجتماعي والتقني والسياسي، فالنص لا يسرد بقدر ما يشير، ولا يصرح بقدر ما يوحي ، مما يضع القارئ امام بنية لغوية ورمزية ضاغطة ومشحونة بالمعاني، فقد استخدمت الكاتبة شخصية الإنسالة (الروبوت)، لتجسيد الانسان العراقي الذي تحول بفعل القمع والظروف الضاغطة الى كائن فاقد للإرادة، خال من المشاعر، في إشارة رمزية الى حالة التبلد العاطفي الناتج عن الصدمات المتكررة، فالكاتبة هنا اجادت فبدلًا من ان يقال العراق فقد انسانيته ،يتم تجسيد ذلك عبر صورة واحدة رمزية (الإنسالة) فالتكثيف هنا ليس لغويًا بل بصريًا ومكانيًا ودراميًا.                                      

كيف تردين على من يرى أن التكثيف الدلالي قد يُفقِد النص المسرحي حيويته أو حبكته، خصوصًا عند الجمهور غير المتخصص؟  

هذا رأي شائع، وقد يبدو منطقيًا من زاوية معينة خصوصًا لمن يفضل الوضوح والحبكة المباشرة، لكن المسرح العراقي بطبيعته التاريخية والجمالية لا يتعمد على الكلمة فقط، ولا يكتفي بالحبكة، بل هو مسرح مركب وتجريبي وجسدي في كثير من الأحيان، فالمسرح العراقي ليس اختزالًا شكليًا بل هو رد فعل جوهري، فالتكثيف ليس تقشفًا لغويًا، فحين يستبدل الخطاب السياسي المباشر بصورة مكثفة ككرسي وحيد على خشبة مسرح فهذا ليس نقصًا بل نضج درامي يجعل المتلقي يشارك في بناء المعنى، فالمسرح العراقي لا يمكن ان يفقد حيويته بسبب التكثيف الدلالي لأنه يتعامل مع التكثيف كحالة جمالية لا كقصور، كما يعتمد على عناصر تعبيرية متعددة (جسد، فضاء، رمز)، وهو يمتلك جمهورًا واعيًا يتقن قراءة الرمز، فالتكثيف فيه يشكل محركا للدهشة والتأويل لا عاملًا للجمود.                                         

هل تعتقدين أن التكثيف الدلالي في المسرح العراقي تأثر بتيارات مسرحية عالمية (مثل العبثية أو الرمزية)؟ أم أنه نابع من خصوصية المحلية؟

التأثير موجود بلا شك، إذ تأثر بالرمزية والعبثية كتيارين عالميين من حيث الشكل والأسلوب، إذ اعتمد الإيحاء بدلا من التصريح، والاعتماد على اللغة المختزلة، وتقديم شخصيات مشحونة بالمعاني التأويلية، الا انه رغم هذا التأثر ظل التكثيف العراقي محليًا في مرجعياته الرمزية، إذ استخدم رموزا ذات دلالات اجتماعية وثقافية مألوفة في السياق العراقي، أي انه يعتمد على مرجعيات واضحة، رموز مأخوذة من الموروث الشعبي العراقي.

إذا قارنتِ التكثيف الدلالي في المسرح العراقي بمسرح عربي آخر (مثل المصري أو السوري)، ما أبرز الفروقات التي لاحظتِها؟  

العراقي أكثر التصاقًا بالتجربة السياسية كألم وجودي، السوري يميل الى تكثيف بصري/ تعبيري في ظل الحرب، المصري يحافظ غالبًا على وضوح الرسالة وسخرية اجتماعية مباشرة.

كيف يمكن الاستفادة من نتائج بحثكِ في تطوير كتابة النصوص المسرحية أو تدريسها في كليات الفنون؟  

عبر تدريب الطلاب على تحليل الرمز بدل فقط سرد الحبكة، وانشاء ورش كتابة تركز على اقتصاد اللغة وعمق المعنى، وادراج نماذج مكثفه ضمن مناهج النقد المسرحي.

هل لديكِ مقترحات لدراسات لاحقة تتناول التكثيف الدلالي في سياقات أخرى (كالسينما أو الرواية العراقية)؟  

- التكثيف الدلالي في السينما العراقية القصيرة.

- تحليل التناص بين الشعر والمسرح في النصوص المكثفة.

- دراسة مقارنة بين التكثيف في نصوص الكاتبات العراقيات مقابل الكتاب الذكور.

ما الرسالة التي تودين إيصالها للمخرجين أو الممثلين الذين يتعاملون مع نصوص مكثفة دلاليًا، لضمان إيصال المعنى كما قصدَه الكاتب؟  

لا تحاولوا شرح كل شيء للجمهور، اعتمدوا على التجسيد الجسدي، الصمت، الإضاءة، الموسيقى، لتفكيك المعنى، اقرأوا النص كمجاز مفتوح، لا كحكاية مغلقة.

كيف غيّر هذا البحث نظرتكِ إلى النص المسرحي كقارئة ومتلقية؟ وهل وجدتِ نفسكِ تبحثين عن التكثيف الدلالي تلقائيًا في الأعمال الفنية الآن؟

أصبحت اقرا النص كشبكة علامات لا مجرد حوار، ابحث تلقائيًا عن الرموز خلف الكلمة، وبت إدراك كيف أن الصمت المسرحي أحيانًا أبلغ من الكلام.

بين الرمز والكلمة، وبين ما يُقال وما يُخفى خلف الصمت المسرحي، استطاعت الباحثة آلاء شهيد أن تفتح نافذة معرفية جديدة على عالم النصوص المسرحية العراقية المعاصرة، تلك النصوص التي لا تكتفي بحكايةٍ تُروى، بل تسعى لبناء طبقات من المعنى تُقرأ وتُؤول. لقد أضاء هذا الحوار زوايا مهمة من اشتغال التكثيف الدلالي كأداة فنية وفكرية في مواجهة القمع والتكرار والسطحية، وبيّن كيف يمكن للمسرح أن يظل مساحة حرة للتعبير حتى في أقسى الظروف.

من خلال هذا الجهد البحثي، يتضح أن التكثيف الدلالي ليس مجرد خيار أسلوبي، بل موقف جمالي ومعرفي يُعيد تشكيل العلاقة بين المبدع والمتلقي، بين النص والواقع.

ونأمل أن تسهم مثل هذه الدراسات في إثراء الخطاب النقدي المسرحي، وتقديم أدوات جديدة للقراءة، وفتح آفاق أوسع لتدريس النصوص وتحليلها.

كل الشكر للباحثة آلاء شهيد على هذا الحوار الغني، وعلى الجهد الذي بذلته في بحثها، وعلى إيمانها بأن الكلمة المكثفة لا تقل مقاومة عن الصرخة.

ذات صلة

حين تسير العفة نحو كربلاء.. رحلة النِّساء في زيارة الأربعينالعراق بحاجة الى مقاربة سياسية جديدة تجاه سورياقوة الحقيقة في مواجهة الفِتنَةٌوعود حكومية على الورق: التصريحات التي تصطدم بجدار الواقعالإمام الحسن قائد بمواصفات ربانية