الخوف من الشفقة أخطر من الإعاقة ذاتها: الباحثة سمر محمد زاير تكشف الجانب الخفي من مثابرة ذوي الهمم
أوس ستار الغانمي
2025-07-09 04:49
في عالم تتشابك فيه التحديات النفسية والاجتماعية، وتتشظى فيه صور الدعم بين النية الطيبة والأثر العكسي، تبرز قضايا الفئات المهمشة كمرآة حقيقية لاختبار إنسانيتنا وثقافتنا التربوية. ومن بين هذه القضايا ما سلطت عليه الضوء الباحثة في رسالة الماجستير بقسم العلوم التربوية والنفسية في كلية التربية للعلوم الإنسانية بجامعة كربلاء، سمر محمد زاير، من خلال دراستها المعنونة:
"الخوف من الشفقة وعلاقته بالمثابرة التحفيزية لدى ذوي الهمم".
في بحثها، لم تتوقف سمر عند حدود النظريات أو البيانات، بل انطلقت من وعي إنساني عميق، وتساؤل وجودي لافت:
هل يمكن أن تكون المثابرة لدى ذوي الهمم، أحيانًا، نتيجة خوف؟ وهل تُخفي النجاحات المتكررة رغبةً في حماية الكرامة من الشفقة أكثر من رغبة في الإنجاز؟
في هذا الحوار، نقترب من صوت الباحثة الشابة، لنفهم دوافع اختيارها لهذا الموضوع الحساس، وأهمية الربط بين الشفقة والمثابرة في سياق ذوي الهمم. نستكشف معها تعقيدات التجربة الشعورية لهذه الفئة، وكيف يمكن للمجتمع، ومؤسساته التربوية، أن يتحول من مصدر عبء نفسي غير مقصود، إلى بيئة تعزز الكرامة والدافعية الحقيقية.
فإلى التفاصيل.
بدايةً، ما الذي دفعكِ لاختيار هذا الموضوع بالذات؟ ولماذا ربطتِ بين "الخوف من الشفقة" و"المثابرة التحفيزية" لدى ذوي الهمم؟
اختياري لهذا الموضوع جاء بدافع شخصي وعلمي في آنٍ واحد. فمن جهة أنا لدي ميلًا للاهتمام بالفئات الخاصة، وهذا الميل تعزز نتيجة ملاحظتي إلى أن الدراسات النفسية في قسم العلوم التربوية والنفسية في جامعة كربلاء تتركز بشكل كبير على فئة طلبة الجامعة، ربما لسهولة الوصول إليهم، بينما لا تزال الأبحاث حول ذوي الهمم قليلة جدًا، رغم أهميتها واعتبارها أحد اهداف علم النفس التربوي. وهذا ما شجعني على اختيار هذه الفئة، سعيًا للإسهام في سد هذا النقص، وتوسيع نطاق الدراسات النفسية لتشمل شرائح أكثر تنوعًا.
وكنت دائمًا ما ألاحظ أن ذوي الهمم، رغم التحديات الجسدية والاجتماعية التي يواجهونها، يظهرون أحيانًا نوعًا من المثابرة والصلابة التي تبدو مفاجئة، ولكنها ليست دائمًا نابعة من دافع إيجابي صرف، بل قد تكون مرتبطة بحاجات نفسية أعمق.
من هنا تولد لديّ تساؤل: هل يمكن أن تكون "المثابرة التحفيزية" لدى ذوي الهمم لا تنبع فقط من دوافع إيجابية بل أيضًا نتيجة خوف داخلي من الوقوع تحت وصمة الشفقة؟
برأيكِ، ما الذي يجعل ذوي الهمم يشعرون بالخوف من الشفقة أكثر من غيرهم؟ وكيف يرتبط ذلك بثقافة المجتمع أو النظرة السائدة تجاههم؟
ذوو الهمم قد يشعرون بالخوف من الشفقة أكثر من غيرهم لأنهم غالبًا ما يكونون موضع تركيزٍ دائم لنظرة مجتمعية مشروطة، لا ترى فيهم الأفراد كما هم، بل تنظر إليهم من زاوية النقص أو الاحتياج، حتى وإن لم يُظهروا ذلك. هذه النظرة، حتى وإن كانت بحسن نية، تجعل الشفقة في وعيهم ليست تعبيرًا عن الدعم أو المحبة، بل رمزًا للتقليل من القيمة، والتذكير دائم بأنهم مختلفون أو غير قادرين.
ويُعزَّز هذا الشعور بالخوف من الشفقة من خلال أنماط التنشئة والرسائل المجتمعية غير المباشرة، كأن يُربط تقدير الشخص فقط بقدرته على "تجاوز إعاقته"، أو يُقدَّم كنموذج يُحتفى به فقط إذا حقق إنجازًا "رغم ظروفه". هذا النوع من الخطاب يحمل ضمنيًا فكرة أن قيمته لا تنبع من كونه إنسانًا بذاته، بل من كونه "استثنائيًا" لتجاوزه حالته.
كما أن بعض المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا، تميل إلى استخدام لغة عاطفية مفرطة عند التعامل مع ذوي الهمم، فيُخاطبون غالبًا بلغة الرفق والحنان الزائد، مما قد يولّد شعورًا خفيًا بالانفصال عن الآخرين، أو بعدم التكافؤ معهم. هذا النمط من الخطاب وإن بدا لطيفًا، إلا أنه يزرع إحساسًا داخليًا بأن العلاقة غير متوازنة، وأن الآخر لا يراك كشريكٍ متكافئ، بل ككائن يستحق الشفقة.
الخوف من الشفقة هنا يتحول إلى آلية دفاعية، ليس فقط لتفادي مشاعر الألم أو العجز، بل لحماية الذات من أن يُعاد تصنيفها باستمرار ضمن فئة "الضعفاء". ولذلك، يفضل الكثير منهم أن يُعاملوا بصرامة أو حيادية، بدلًا من أن يُشفق عليهم، لأن الشفقة تُشعرهم بأنهم في موقع أدنى، وأن ما يملكونه من كفاءة أو استقلالية مهدد بالاختزال في صورة نمطية غير عادلة.
في ضوء تجربتكِ البحثية، هل تعتقدين أن مشاعر الشفقة في مجتمعاتنا العربية تميل لأن تكون جارحة أكثر من كونها داعمة؟
نعم، في ضوء تجربتي البحثية وملاحظاتي الميدانية، أستطيع القول إن مشاعر الشفقة في مجتمعاتنا العربية – رغم أنها تنبع غالبًا من نوايا طيبة – إلا أنها تميل لأن تكون جارحة أكثر من كونها داعمة، خاصة حين تُقدَّم بصورة غير مدروسة وتفتقر إلى الوعي النفسي.
كيف يمكن التمييز بين الشفقة السلبية التي تثير الخوف، والتي تعزز من الثقة والقبول؟
الشفقة ليست سلوكًا سلبيًا في جوهرها، بل تُعد استجابة وجدانية تنطوي على الوعي بمعاناة الآخر والرغبة في تخفيفها. غير أن الطريقة التي تُقدَّم بها الشفقة، وتوقيت التعبير عنها، ومصدرها، تلعب دورًا حاسمًا في تفسير المتلقي لها؛ فقد تُستقبل بشكل إيجابي إذا جاءت من شخص مقرب، في وقت مناسب، وبأسلوب يحترم كرامة الفرد واستقلاله.
أما إذا قُدمت في سياق عام، أو من طرف غير مقرب، أو بشكل مفاجئ لا يراعي الحالة النفسية للمتلقي، فقد تُفهم على أنها نظرة دونية أو إثارة لمشاعر مؤذية، مما يسبب مشاعر الرفض أو الدفاع أو الخوف، خاصة عند من لديهم تجارب تنشئة مضطربة أو حساسية من نظرات التقييم.
لذا، فإن اختيار الوقت المناسب وطريقة التعبير عن الشفقة، ومراعاة العلاقة بين الطرفين، من العوامل الأساسية في جعل الشفقة تعزز الثقة والقبول بدلاً من أن تثير التحسس أو الانسحاب.
من خلال نتائج دراستكِ، ما أبرز الانعكاسات النفسية والسلوكية للخوف من الشفقة على حياة ذوي الهمم اليومية؟
من خلال نتائج دراستي، تبيّن أن الخوف من الشفقة يرتبط بعدّة انعكاسات نفسية وسلوكية تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على حياة ذوي الهمم، أبرزها:
1. التردد في طلب المساعدة
ذوي الهمم الذين يعانون من خوف من الشفقة، غالبًا ما يتجنبون طلب الدعم أو الإفصاح عن احتياجاتهم، ليس لأنهم لا يحتاجون للمساعدة، بل لأنهم يخافون أن يُنظر إليهم بنظرة عطف أو ضعف، وهذا يدفعهم إلى الاعتماد المفرط على الذات حتى في حالات الإنهاك.
2. المبالغة في إثبات الكفاءة
في محاولة لتعويض نظرة الشفقة المتوقعة من الآخرين، يميل بعض الأفراد إلى السعي المفرط لإثبات الذات، والمبالغة في الإنجاز أو الالتزام أو التحمل، ولو على حساب صحتهم النفسية والجسدية.
3. كبت المشاعر وضعف التعبير الانفعالي
الخوف من الشفقة يجعل البعض يحبس مشاعره، خصوصًا مشاعر الحزن أو الألم، خشية أن يُفسَّر ذلك على أنه استدعاء للشفقة. وبهذا يُحرم الفرد من التعبير الانفعالي الطبيعي، مما يزيد من الاحتقان النفسي مع الوقت.
4. صورة ذاتية مشروطة
يتشكل لديهم تصور داخلي بأن قيمتهم تُقاس بقدرتهم على مقاومة الضعف والاعتماد على النفس، وليس بكونهم بشرًا لهم الحق في الاحتياج والراحة. وهذا قد يؤدي إلى نقد ذاتي قاسٍ أو شعور بعدم الكفاية.
5. توتر في العلاقات الاجتماعية
نظرًا لحساسيتهم من الشفقة، قد يُسيئون تفسير بعض سلوكيات الآخرين، حتى لو كانت صادقة مما قد يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي أو سوء الفهم في التفاعل مع الآخرين.
توصّلتِ إلى أن ذوي الهمم يتمتعون بمستوى جيد من المثابرة التحفيزية رغم التحديات، ما العوامل التي تعتقدين أنها تعزز هذا النوع من المثابرة لديهم بشكل عام؟
في ضوء نتائج دراستي وملاحظاتي الميدانية، يمكن تلخيص أبرز العوامل التي تعزز المثابرة التحفيزية لدى ذوي الهمم رغم التحديات فيما يلي:
1. الرغبة في إثبات الذات
كثير من ذوي الهمم يُدركون أن المجتمع يُقيّمهم من خلال عدسة العجز أو النقص، وهذا يولّد لدى البعض منهم دافعًا قويًا لإثبات العكس، عبر تحقيق الإنجاز وتجاوز التوقعات، خاصة في المجالات التي تظهر فيها الكفاءة بوضوح (الدراسة، العمل، المهارات).
2. الدعم الأسري والمجتمعي الإيجابي
حين يتوفر لهم محيط داعم يعاملهم باحترام، ويُركز على قدراتهم لا على إعاقتهم، فإن ذلك يعزز ثقتهم بأنفسهم، ويدفعهم للمثابرة بإرادتهم، لا بدافع الخوف أو الدفاع عن الذات.
3. الخبرات المبكرة في مواجهة الصعوبات
كثير من ذوي الهمم اعتادوا منذ الطفولة مواجهة العقبات اليومية، سواء في الحركة، أو التعليم، أو التواصل، وهذا يجعلهم أكثر اعتيادًا على التحدي، وأكثر تدريبًا على الصبر، وبالتالي أكثر ميلًا للمثابرة.
4. الدافعية الداخلية المرتبطة بالهوية
تكوّن لدى بعض ذوي الهمم شعور بأنهم يمثلون شريحة مهمشة، وبأن نهوضهم هو بمثابة رسالة تغيير أو تمثيل لفئتهم، وهذا يُولّد دافعية داخلية طويلة الأمد.
5. الروح الدينية أو المعنوية
بعض المشاركين كانوا يتحدثون ضمنيًا عن إيمانهم بأن الابتلاء ليس انتقاصًا، وان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها مما يعزز لديهم التسليم والرضا، ويقوي الإرادة الداخلية في مواصلة الطريق دون تذمر.
6. استخدام المثابرة كوسيلة للهروب من الشفقة
وهي نقطة دقيقة توصلت لها من خلال علاقتها بمستوى "الخوف من الشفقة"، حيث يبدو أن بعض ذوي الهمم يستخدمون المثابرة كنوع من الدفاع النفسي لحماية أنفسهم من نظرة الشفقة، فيسعون للإنجاز كوسيلة لحماية الكرامة والشعور بالاستقلالية.
هذه العوامل لا تعمل بشكل منفصل، بل تتداخل وتتكامل، وتُظهر أن المثابرة التحفيزية لدى ذوي الهمم ليست فقط خصلة فردية، بل نتاج تجربة حياتية معقدة تُشكّلها الثقافة، والأسرة، والدين، والذات.
هل ترين أن هناك فرقاً بين الدافع الداخلي والدعم الخارجي في التأثير على المثابرة؟ وأيهما أهم برأيكِ؟
نعم، هنالك فرقًا واضحًا بين الدافع الداخلي والدعم الخارجي، من حيث:
أولًا: الدافع الداخلي
هو النية أو الحافز النابع من داخل الفرد، كالرغبة في الإنجاز، الشعور بالمسؤولية، الطموح، أو حتى الحاجة لإثبات الذات.
يتميز بأنه ثابت نسبيًا، ويستمر حتى في غياب التعزيز الخارجي.
يُنتج مثابرة طويلة الأمد، لأنه متجذّر في الهوية الذاتية للفرد.
ثانيًا: الدعم الخارجي
وهو ما يتلقاه الفرد من تشجيع أو تقدير من البيئة المحيطة به (الأسرة، المدرسة، الأصدقاء، المجتمع...).
- يُسهم في تعزيز الثقة بالنفس، وتهيئة بيئة داعمة للاستمرار.
- لكنه قد يكون هشًا إذا لم يتحول إلى دافع داخلي، أو إذا فُقد فجأة (مثل غياب المعلم أو الانتقال إلى بيئة جديدة).
أيّهما أهم؟
كلاهما مهم، لكن:
الدافع الداخلي هو الأهم على المدى البعيد.
لأنه هو الذي يصنع المثابرة التي تستمر حتى في مواجهة الإحباط.
أما الدعم الخارجي، فهو مهم جدًا في بناء الدافع الداخلي وتعزيزه في مراحله الأولى، لكنه لا يكفي وحده.
نتائجكِ أظهرت أن الذكور من ذوي الهمم لديهم خوف أكبر من الشفقة وكذلك مثابرة أعلى. الى ماذا يمكن ان نعزو هذه النتائج؟
تُعزى هذه النتيجة إلى الضغوط الثقافية التي تحمل الذكور، حتى من ذوي الهمم الى توقعات بالاستقلالية والقوة، مما يجعلهم أكثر رفضًا لمشاعر الشفقة لأنها تُهدد صورتهم الذكورية. هذا الرفض يتحول أحيانًا إلى مثابرة تعويضية، يثبتون بها كفاءتهم ويحمون بها كرامتهم. كما أن التنشئة الاجتماعية تُشجّع الذكور على كبت مشاعر الضعف ورفض المساعدة، بعكس الإناث. إضافةً إلى ذلك، يواجه الذكور ضغوطًا مجتمعية أعلى فيما يخص أدوارهم المستقبلية كمعيلين، مما يعزز لديهم دافع الإنجاز لتجنب نظرة العجز. لذا، يرتبط ارتفاع خوفهم من الشفقة بمثابرتهم العالية كرد نفسي وقائي.
بالنسبة للمصابين بالكساح تحديداً، لماذا برزت هذه الفئة بنتائج مختلفة عن غيرها؟ هل هناك عوامل نفسية أو اجتماعية خاصة بهذه الإعاقة تحديداً؟
غالبًا ما يشعر المصاب بالكساح بأن إعاقته كان يمكن الوقاية منها، لأنها ترتبط بنقص فيتامين (د) وسوء التغذية أو ضعف العناية في الطفولة، مما قد يُنتج شعورًا باللوم، سواء تجاه النفس أو الأسرة. وهذا يدفع البعض إلى التعويض النفسي عبر المثابرة، كوسيلة لتجاوز شعور التقصير أو الندم.
في ضوء نتائج بحثكِ، ما الذي يمكن أن تقدميه من توصيات للمربين والمعلمين في التعامل مع ذوي الهمم؟
في ضوء نتائج بحثي، يمكن تقديم عدد من التوصيات التربوية والنفسية المهمة للمربين والمعلمين في التعامل مع ذوي الهمم، بهدف تعزيز مثابرتهم الداخلية وتجنب الآثار السلبية للشفقة:
1. تعزيز الشعور بالاستحقاق: من الضروري ترسيخ فكرة أن ذوي الهمم يستحقون الدعم والنجاح دون الحاجة إلى إثبات استثنائي أو تعويض دائم، فهم ليسوا مطالبين بأن يكونوا "أبطالًا خارقين" ليثبتوا جدارتهم.
2. تهيئة بيئة داعمة نفسيًا وتعليميًا: عبر تقديم الفرص المتكافئة، وتعديل المناهج أو أساليب التقييم عند الحاجة، مع الحفاظ على كرامة الطالب وعدم تسليط الضوء على إعاقته بشكل زائد.
3. الإنصات الحقيقي لمشاعرهم: خلق مساحة آمنة للتعبير مما يُساعدهم على تفريغ الضغط النفسي ويعزز توازنهم العاطفي.
4. دعم المثابرة الداخلية دون ضغط مفرط: تشجيع المثابرة باعتبارها قوة شخصية، لا كرد فعل على الإعاقة، ومراعاة الحدود النفسية والجسدية للفرد دون التوقعات المبالغ بها.
باختصار، المطلوب هو دعم إنساني متزن، يعترف بالتحديات دون تضخيمها، ويُعزز القدرات دون أن يجعل منها وسيلة للهروب من نظرة المجتمع.
ما دور المؤسسات التعليمية ومراكز التأهيل في تقليل الخوف من الشفقة وتعزيز روح المثابرة؟
تلعب المؤسسات التعليمية ومراكز التأهيل دورًا حاسمًا في تقليل الخوف من الشفقة وتعزيز روح المثابرة لدى ذوي الهمم، من خلال مجموعة من الممارسات التربوية والنفسية المدروسة، وأبرزها:
1. بناء ثقافة مدرسية قائمة على الاحترام لا الرثاء
من خلال تدريب المعلمين والطلاب على استخدام لغة تواصل تراعي الكرامة، وتجنب التعليقات أو النظرات التي تُشعر الفرد بأنه "أقل"، واستبدال ذلك بثقافة التشجيع والتفهم.
2. تصميم بيئة تعليمية دامجة
كلما شعر الطالب بأنه جزء طبيعي ومتكامل من المجموعة، لا استثناءً أو حالة خاصة، تضاءل لديه الشعور بالخجل أو الخوف من نظرة الشفقة، وازدادت ثقته بنفسه.
3. دعم المهارات النفسية الداخلية
من خلال جلسات الإرشاد أو الأنشطة الموجهة، يمكن للمؤسسة أن تُساعد ذوي الهمم على تطوير مهارات التعبير عن الذات، وضبط الانفعال، والتعامل مع النظرات الاجتماعية، مما يقلل من الحساسية تجاه الشفقة ويُعزز المرونة النفسية.
4. إبراز القدرات لا الإعاقة
حين تُسلّط المناهج والأنشطة الضوء على ما يستطيع الفرد أن ينجزه، بدلًا من التركيز على إعاقته، تتولد لديه هوية إيجابية قائمة على الكفاءة لا على النقص، وهذا يعزز دوافعه الداخلية للمثابرة.
حين تتعامل المؤسسة مع ذوي الهمم كـ أشخاص فاعلين، وتُعزز فيهم الكرامة، الفاعلية، والمساواة، فإنها تقلل من الخوف من الشفقة بشكل طبيعي، وتُمهّد الأرضية لظهور المثابرة الحقيقية، لا المثابرة التعويضية.
كيف يمكن تصميم برامج نفسية أو تدريبية لمساعدة ذوي الهمم على تجاوز هذا الخوف وبناء ثقتهم بأنفسهم؟
تصميم برامج نفسية أو تدريبية لمساعدة ذوي الهمم على تجاوز الخوف من الشفقة وبناء ثقة صحية بالذات يتطلب توازنًا بين الدعم الانفعالي، وبناء المهارات، وتغيير نظرتهم للذات وللآخر. وفي ضوء نتائج دراستي، يمكن أن يستند البرنامج إلى المحاور الآتية:
1. الوعي بالمشاعر وفهم الخوف من الشفقة
الخطوة الأولى هي التوعية الذاتية، من خلال جلسات جماعية أو فردية تتيح لهم فهم مشاعرهم تجاه الشفقة: متى يخافون منها؟ كيف يتفاعلون معها؟ ولماذا؟
هذا الفهم يُحررهم من الشعور بالخجل أو الصمت، ويُعطيهم أدوات لغوية وانفعالية لوصف تجاربهم.
2. فصل الشفقة عن القيمة الذاتية
يتعلّم المشارك أن الشفقة ليست مؤشرًا على نقصه، بل على تصورات مجتمعية خاطئة، وأنه ليس مسؤولًا عن نظرة الآخرين.
وهذا يساعده على استعادة المسافة النفسية بين ذاته وبين تقييمات الآخرين، وهي خطوة جوهرية في بناء الثقة.
3. تنمية مهارات التعاطف الذاتي.
يُدرَّب المشارك على أن يكون لطيفًا مع نفسه، ويقبل ضعفه دون أن يخجل منه.
4. إعادة بناء الصورة الذاتية
من خلال أنشطة تركز على الهوية الإيجابية للفرد، كأن يُنجز مهام يبرع فيها، أو يشارك في مواقف قيادية، أو يتم تكليفه بتعليم غيره، مما يُعزز في داخله شعورًا بالكفاءة والقيمة بعيدًا عن الحاجة لإثبات دائم.
5. التدريب على التواصل الواعي مع المجتمع
يتعلم كيف يضع حدودًا للتصرفات المؤذية، ويستخدم لغة تواصل واضحة وهادئة تتيح له التعبير عن انزعاجه، دون توتر أو خجل.
مثلاً: "أنا أقدّر اهتمامك، لكن أُفضل أن أُعامل مثل أي شخص آخر."
6. إشراك الأسرة والمربين
نجاح البرنامج لا يكتمل دون توعية المحيط القريب، ليبدأ في تقديم لغة الدعم الناضج والمساواة.
البرنامج الناجح لا يعلّم ذوي الهمم كيف "يتحملون" الشفقة، بل كيف يتحررون من الخوف منها، ويُعيدون تعريف ذاتهم بعيدًا عن نظرة المجتمع، ليبنوا ثقتهم على أسس داخلية قوية.
هل تخططين لتوسيع البحث مستقبلاً ليشمل فئات عمرية أخرى أو بيئات مختلفة؟
في الوقت الحالي، لا أخطط لتوسيع هذا البحث بعينه ليشمل فئات عمرية أو بيئات مختلفة، لأنني في هذه الدراسة قد حرصت على شمول معظم الفئات العمرية ما عدا الأطفال، وتضمّنت عينتي تنوّعًا واضحًا في البيئات الاجتماعية والتعليمية والجغرافية.
لكن في المقابل، أفكر جديًا في إجراء دراسات مستقبلية تتناول متغيرات نفسية أخرى لدى ذوي الهمم التي قد تُسهم في فهم أعمق لتجاربهم النفسية وتعقيداتها، خاصة في ضوء التحديات الاجتماعية والثقافية التي يواجهونها.
ما التحديات التي واجهتكِ في إجراء هذا البحث، خاصة من حيث الوصول للعينة أو التعامل مع الحالات؟
من أبرز التحديات التي واجهتني في هذا البحث كانت طول الفترة الزمنية التي استغرقها جمع العينة. فعلى الرغم من بذل الجهد المستمر في توزيع الاستبيانات، إلا أن الوصول إلى العدد الكافي من المشاركين تطلّب انتظارًا طويلًا ومتابعة متواصلة، نظرًا لتفاوت حضور الأفراد وتوفرهم، إضافة إلى ظروفهم الصحية أو الحركية التي كانت تؤثر أحيانًا على تفاعلهم مع أدوات البحث.
وأخيراً، كيف ترين أثر هذا النوع من البحوث في تغيير نظرة المجتمع نحو ذوي الهمم؟
هذا النوع من البحوث يسهم بشكل تراكمي في تسليط الضوء على الجوانب النفسية والاجتماعية الدقيقة المرتبطة بذوي الهمم، مثل مشاعرهم تجاه الشفقة أو الدعم الاجتماعي او غيرها.
هذا الفهم يمكن أن يُسهم في تعديل طريقة التعامل معهم، سواء على مستوى الأسر أو المؤسسات أو السياسات الاجتماعية، من خلال نشر الوعي وتوفير معلومات قائمة على بيانات علمية.
كما أن نتائج هذه الدراسات قد تساعد المختصين والممارسين في بناء تدخلات أكثر احترامًا لاحتياجاتهم النفسية، مما ينعكس تدريجيًا على الخطاب العام والصورة الذهنية السائدة في المجتمع.
في ختام هذا الحوار العميق والمُلهم مع الباحثة سمر محمد زاير، نُدرك أن دراستها لم تُسلط الضوء فقط على جانب نفسي مهم لدى ذوي الهمم، بل كشفت عن تعقيدات إنسانية دقيقة تتعلق بالكرامة، والهوية، والدافع الداخلي للمثابرة. لقد بيّنت أن الخوف من الشفقة ليس مجرد انفعال عابر، بل تجربة نفسية متجذّرة في نظرة المجتمع وسلوكياته، قد تُحفّز الإنجاز كما قد تُقيّد التعبير.
من خلال هذا البحث، تتجلى دعوة واضحة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع ذوي الهمم؛ دعوة للانتقال من منطق الرثاء أو الإعجاب المشروط، إلى منطق الاحترام والمساواة الحقيقية. ويبقى الأمل في أن تُسهم مثل هذه الدراسات في تحريك الوعي المجتمعي، وإلهام سياسات تربوية ونفسية أكثر شمولًا وإنصافًا، تُعزز المثابرة الأصيلة، لا المثابرة التعويضية، وتحتفي بالإنسان كما هو، لا كما نتوقع أن يكون.
شكرًا للباحثة سمر محمد زاير على هذا الجهد العلمي والإنساني، الذي يُعد خطوة مهمة نحو فهم أعمق وأرحب لتجارب ذوي الهمم، واحتياجاتهم النفسية الخفية.