تقييم القيم والمشاركة في اتخاذ القرار
شبكة النبأ
2024-10-29 05:26
بقلم: أمارتيا صن
حيث إن حرياتنا متنوعة، إذن هناك مساحة للتقييم الصريح عند تحديد الأوزان النسبية لأنماط الحريات المختلفة لتقدير المزايا الفردية والتَّقدُّم الاجتماعي. ونجد عمليات التقييم بطبيعة الحال مُتضمنة في جميع النُّهج (من مثل النفعية، ومذهب الحرية وغيرهما)، على الرغم من أنها تَرِد في سياق ضمني في الغالب. وإن من يريدون دليلًا ميكانيكيًّا -دون الحاجة إلى إشارة صريحة بشأن القيم المستخدَمة ولماذا نمَا لديهم مَيل إلى التَّذمُّر من أن النَّهج المُرتَكز على الحرية كأساس له- يستلزم أن تكون عمليات التقييم صريحة سافرة. بَيْدَ أنَّني سأدفع بأن الصراحة تمثل رصيدًا مهمًّا لممارسة التقييم، خاصة إذا كان التقييم منفتحًا ويسمح بفحصه وتدقيقه ونقده من قبل الرأي العام. حقًّا إن إحدى أقوى الحجج الداعمة للحرية السياسية تكمُن بالتحديد في الفُرصة التي تُهيِّئها للمواطنين للمناقشة والحوار. وللمشاركة في انتخاب القيم عند اختيار الأولويات.
إن الحرية الفردية في جوهرها مُنتَج اجتماعي. وثمة علاقة ذات اتجاهين بين: (١) التنظيمات الاجتماعية لتوسيع نطاق الحريات الفردية، و(٢) استخدام الحريات الفردية ولكن ليس فقط من أجل تحسين حياة كل فرد، بل وأيضًا من أجل النهوض بالتنظيمات الاجتماعية لتكون أكثر ملاءمة وكفاءة. علاوة على هذا، فإن المفاهيم الفردية عن العدالة والآداب الاجتماعية -التي تؤثر في الاستخدامات المحددة للحرية من جانب الأفراد- رَهن ارتباطات اجتماعية؛ إذ تَعتمد بوَجْه خاص على التكوين التفاعلي للتصورات العامة وعلى الفهم الجمعي التعاوني للمشكلات وعلاجها؛ لذلك يتعين أن يكون تحليل وتقييم السياسات العامة حساسًا في إدراك وتناول هذه الروابط المتنوعة.
التراث والثقافة والديمقراطية
تُعْتَبر مسألة المشارَكة مسألة محورية أيضًا بالنِّسبة إلى بعض القضايا التي دَهمَت نظرية التطوير والتنمية، ونالت من قُوَّتها ومداها. مثال ذلك هناك مَن يُؤكِّد أن التنمية الاقتصادية كما نعرفها يمكن عمليًّا أن تَضرَّ الأمة ما دامت تؤدي إلى إلغاء تقاليدها وطمس تراثها الثقافي.
ولكن سرعان ما نسقط مثل هذه الاعتراضات بناء على أن من الأفضل للأمة أن تكون غَنِيَّة سعيدة عن أن تكون فقيرة ملتزمة بالتقاليد. ويمكن أن يبدو هذا شعارًا مقنعًا، ولكنه ليس إجابة ملائمة أو كافية على النَّقد موضوع المناقشة. هذا علاوة على أنه لا يَعكس اهتمامًا جادًّا بالقضية التقييمية النقدية التي أثارها الشكوكيون بشأن التنمية.
ولكن القضية الأهم والأخطر هي تلك التي تتعلق بمصدر السُّلطة والشرعية؛ إذ ثمة مشكلة تقييمية لا فكاك منها نجدها متضمنة عند تقرير ماذا نختار، إذًا ما، وعندما يتبين أن بعض عناصر التراث والتقليد يَتعذَّر الحفاظ عليها مع التغيرات الاقتصادية أو الاجتماعية المطلوبة لأسباب أخرى. وهذا خيار مطروح على الناس المَعنيين وعليهم المواجهة والتقدير. وجدير بالذِّكْر أن الخيار مفتوح وغير مغلق (كما قد يزعم بعض المدافعين عن التنمية) كما أنه ليس خيار الصفوة، «حراس» التقاليد، ومن ثَم هم أصحاب الحق في اتخاذ القرار والحسم (كما يفترض بعض الشكوكيين بشأن التنمية). إنه إذا كان لا بد من التضحية بأسلوب الحياة التقليدية للخلاص من فقر طاحِن أو من خطر يقصف العمر (كما حدث لكثير من المجتمعات التقليدية على مدى آلاف السنين) إذن فإن الناس المعنيين مباشرة بالوضع هم من يجب أن تُتاح لهم فرصة اتخاذ القرار وحسم الخيار. وإن النزاع الحقيقي الواقعي واقع بين الاثنين:
(١) القيمة الأساسية التي يتعين السماح للناس بأن يحسموها ويَتَّخِذوا قرارًا حرًّا بشأنها هي: ما التقاليد التي يريدون، ولا يريدون، الالتزام بها.
(٢) الإصرار على الالتزام بالتقاليد الراسخة (أيًّا كانت هي) أو في المُقابِل يجب على الناس طاعة قرارات السلطات الدينية أو العلمانية المنوط بها فرض تنفيذ التقاليد، حقيقية أو مُتخيَّلة.
تَكمُن قوة القاعدة الأخلاقية السابقة في الأهمية الأساسية للحرية الإنسانية. ونحن ما إن نقرها ونقبلها حتى تظهر دلالات قوية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن نفعله باسم التقاليد. ويؤكد هذه القاعدة الأخلاقية نهج «التنمية حرية».
والحقيقة أن المنظور والتَّوجُّه إلى الحرية يقضيان بأن حرية الجميع -في المشاركة في اتخاذ القرار بشأن أي التقاليد نحافظ عليها ونلتزم بها- هي شأن لا يمكن أن يلغيه السدنة القوميون أو المحليون (سدنة السلطات الدينية أو غيرهم)، ولا أن يلغيها حُكَّام سياسيون، «أو ديكتاتوريون حاكمون»، ولا «خبراء» ثقافيون (محليون أو أجانب)، وإن الإشارة إلى أي نزاع حقيقي بين الحفاظ على التقليد ومزايا الحداثة يستلزم قرارًا قائمًا على المشارَكة، وليس رفضًا من طرف واحد للحداثة دفاعًا عن التقليد؛ سواء صدر هذا الرفض من حكام سياسيين أو سلطات دينية أو هواة أنثروبولوجيون مُعجَبون بتراث الماضي، والمسألة هنا ليست فقط غير مُغْلَقة، بل إنها مفتوحة على مصراعيها للناس جميعًا في المجتمع. لكي يُدْلوا بِدَلْوهم في المعالَجة، ولكي يشاركوا معًا في اتخاذ القرار. ولا ريب في أن أي محاوَلة لتعطيل حق حرية المشاركة تأسيسًا على قيم تقليدية (مثل الأصولية الدينية أو العُرف السياسي أو ما يُسمَّى القيم الآسيوية) إنما هو ببساطة إغفال لقضية الشرعية ولحاجة الناس أصحاب المصلحة في المشاركة من أجل اتخاذ قرار بماذا يريدون وماذا يَقبَلون مدعومًا بالأسباب العقلانية.
وطبيعي أن هذا الاعتراف الأساسي له مَرمًى واضح ومُهِم ودلالات قوية التأثير. إن الإشارة إلى التقليد لا تُشكِّل في ذاتها أساسًا لأي عمليات قَمْع عامٍّ لوسائط الحرية، أو لحقوق الاتصال بين مُواطن وآخَر. وأكثر من هذا، إنه حتى النظرية الغريبة الشائهة عن الكيفية التي كان عليها حقيقة كونفوشيوس المُستبِدِّ المتسلط، وكيف أنها مقبولة بحجة أنها صحيحة تاريخيًّا، إنما هي نظرة لا تُشكِّل أساسًا أو مبررًا ملائمًا لكي يُمارِس أي شخص أسلوبًا تسلطيًّا سواء عن طريق الرقابة أو فرض قيود سياسية؛ ذلك لأن شرعية الالتزام اليوم بمناصرة آراء جرى التعبير عنها في القرن السادس قبل الميلاد إنما يجب أن يقررها ويحسمها من يحيون الآن.
كذلك حيث إن المشارَكة تستلزم تَوافُر المعرفة وقدرًا من المهارات التعليمية، فإن حرمان جماعة ما (إناث الأطفال مثلًا) من فرصة التعليم إنما يعتبر على النقيض مباشرة للشروط الأساسية لحرية المُشارَكة، والمُلاحَظ أن هذه الحقوق كثيرًا ما صادفَت هجومًا (وإن أكثر الهجمات ضراوة جاءت أخيرًا على أيدي زعماء طالبان في أفغانستان) إلا أن هذا الشرط الأَوَّلِي لا يمكن التَّخلِّي عنه أو إغفاله في المنظور ذي التَّوجُّه نحو الحرية. إن نهج التنمية حرية له دلالات بعيدة المدى ليس فقط بالنسبة للأهداف الأخيرة للتنمية، بل وأيضًا بالنسبة للعمليات والإجراءات التي يَتعيَّن احترامها.
ملاحظات ختامية
أن نرى التنمية والتطوير في ضوء الحريات الموضوعة للناس أَمرٌ له دلالاته وتأثيراته بعيدة المدى على فَهْمنا لعملية التنمية وسُبل ووسائل النهوض بها أيضًا. ويَتضمَّن هذا على الجانب التقييمي، الحاجة إلى تقدير وتقييم مُستلزَمات التنمية والتطوير في ضوء إزالة عوائق وقيود الحريات التي يُعاني منها أبناء المجتمع. وحسب هذه الرؤية فإن عملية التنمية والتطوير لا تختلف جوهريًّا عن تاريخ التَّغلُّب على عوائق وقيود الحرية المشار إليها. وإذا كان هذا التاريخ غير مقطوع الصلة على الإطلاق بعملية النمو الاقتصادي وتَراكُم رأس المال المادي والبشري، فإن مَرماه ونِطاقه يَتجاوز كثيرًا هذه المُتغيِّرات.
ونحن إذ نركز على الحريات عند تقييمنا للتنمية، فليس معنى هذا أن ثمة «معيارًا» فريدًا ومحدَّدًا للتنمية والتطوير والذي على أساسه نُقارِن ونُحدِّد مرتبة الخبرات التنموية والتطويرية الأخرى. وإذا سَلَّمنا بعدم تجانس المكونات المتمايزة للحرية، وكذا الحاجة إلى إدراك تبايُن الحريات بتبايُن الأشخاص، فإننا غالبًا ما سوف نُواجِه حججًا تمضي في اتجاهات متناقضة. وحَرِي أن يكون واضحًا أن الحافز الذي يُشكِّل أساسًا لنهج «التنمية حرية» ليس هدفه ترتيب جميع الدول -جميع السيناريوهات البديلة- في «تنظيم مُتدرِّج كامل». وإنما الهدف لَفْتُ الانتباه إلى جوانب مهمة لعملية التنمية، وبيان أن كُلًّا من هذه الجوانب قَمِين وحده بالاهتمام. ومع هذا، وبَعْد أن نُولِي هذه الجوانب جميعها ما تستحقه من اهتمام. سوف تظل هناك بعض الاختلافات من حيث التصنيف الشامل المحتمل. بَيْدَ أنَّ وجود هذه الاختلافات لا يعقد الهدف المنشود الآن.
إن ما من شأنه أن يكون ذا أثر مُدمِّر -الذي غالبًا ما نلمسه في أدبيات التنمية- هو إغفال اهتمامات محورية وثيقة الصلة بسبب قصور الاهتمام بحريات الناس المعنيين؛ لهذا نلتمس نظرة رحبة وعامة بما فيه الكفاية عن التنمية بحيث نركز جهود الفحص التقييمي على أمور مهمة حقيقة، لكي نتجنب خصوصًا إسقاط موضوعات لها أهمية محورية. وإذا كان جميلًا أن نرى أن وضع المتغيرات وثيقة الصلة موضع الاعتبار من شأنه تلقائيًّا أن يسلم الناس على اختلاف مشاربهم إلى النتائج نفسها بالدقة، والتحديد، المتعلقين بكيفية تصنيف السيناريوهات البديلة، إلا أن النهج المستخدم هنا لا يلتزم مثل هذا الإجماع كشرط ضروري. والحقيقة أن الحوارات الدائرة بشأن هذه الأمور والتي يمكن أن تفضي إلى دراسات سياسية مهمة يمكن أن تكون جزءًا من عملية المشاركة الديمقراطية المميزة للتنمية.