أخلاقيات الربح والخسارة: ربحية الإنصاف وخسائر الإجحاف

علي حسين عبيد

2014-12-28 01:35

يُعَدّ الإنصاف قيمة شاملة من قيم العدل والتقدم ومؤازرة الحق، وتنطوي هذه القيم التي تدخل ضمن مدار الإنصاف في جوهرها، على مضامين وأفكار تصبّ بالنتيجة في صالح الإنسان، فردا كان أو جماعة، ويمكن توصيف الإنصاف كالشجرة التي تتفرع منها أغصان داعمة ومنتسِبة في وقت واحد، لمنظومة القيم الأخلاقية والعرفية التي تضبط إيقاع حركة المجتمع، وتدفع به نحو الاتجاه الصحيح، وهذا الفعل هو جل ما تسعى إليه الأمم والشعوب والدول، فهي تبذل المزيد من الجهود، على الصعيدين الفكري والعملي، حتى ترسّخ قيَما بعينها، تقوم بدعم الفعل الجمعي للمجتمع، سياسيا كان او ثقافيا وما شابه.

لذلك أثبتت الوقائع على مستوى بناء الفرد والدولة والمجتمع، بأن استثمار الإنصاف كقيمة راسخة في المجتمع، يعود بربحية كبيرة في هذا المجال، بالمقابل هناك خسائر فادحة من الممكن ان يتعرض لها الانسان الفرد والمجتمع في حالة التنكّر لقيمة الإنصاف وإهمالها، وتفضيل قيم اخرى مناقضة لها، كالإجحاف، والتنكّر لحقوق الآخرين، وانتفاء معايير العدل في التعاملات المتبادلة بين الناس والجماعات وحتى بين الدول، فهناك من يضع مصالحه فوق كل شيء ويتعامل بطريقة الخداع والغلبة على حساب الآخر، مستخدما في ذلك كل ما لديه من أساليب الذكاء والتحايل وما شابه، تاركا قيمة الإنصاف خلف ظهره، حاصلا على ربحية وقتية لا يمكن أن تتساوى مع الربحية المتحققة من التمسك بقيمة الإنصاف، كمبدأ دائم في التعامل مع الآخر.

علما ان هذه القيمة لا تنحصر بكيان انساني محدد، بل هي الجميع معني بها وينبغي له استثمارها على الوجه الأمثل، لذلك فهي باختصار، قيمة (انسانية)، تشمل الفرد صعودا الى الشخصيات والتسميات والتجمعات الاخرى الأكبر، ولكن من الأفضل أن يكون الانسان الفرد ذا تمسك دائم بهذه القيمة، وجعلها منهج سلوك له، كونها ستنعكس عليه بنتائج ذات ربحية واضحة على الجانبين المادي والمعنوي، فهلى سبيل المثال، يكسب الانسان ارباحا مادية متواصلة اذا كان تاجرا منصفا في تعامله، فهو في هذه الحالة يكون محط ثقة الجميع، وسوف تتكون له سمعة تجارية كبيرة، تتصاعد معها ارباحه بسبب الإقبال الكبير عليه في التعامل، على العكس من التاجر الذي لا تعنيه قيمة الإنصاف بقدر ما تعنيه ارباحه وفوائده المادية، لذلك فإن تاجرا من هذا النوع ضاربا بقيمة الإنصاف عرض الحائط في تعاملاته، و واضعا الربحية نصب عينيه، بغض النظر عن الوسائل التي يلجأ إليها في تحقيق الربح، إن تاجرا من هذا النوع وكما أثبتت النتائج الفعلية سوف يفشل في كسب ثقة الآخرين، وبهذا سيكون عرضة للفشل والخسائر الكبيرة، نتيجة لاعتماده على الإجحاف بديلا لقيمة الإنصاف.

على المستوى المعنوي، سوف يحصل الانسان المتمسك بالإنصاف على ربحية معنوية هائلة، تتراكم مع مرور الوقت، حيث يصبح الانسان المنصف ذا قيمة اجتماعية كبيرة في المجتمع، وسوف تكون قيمة الإنصاف عنوانا كبيرا له، تعرفه الناس من خلاله، وهذا بحد ذاته يجعله إنسانا وشخصية متميزة في المحيط المجتمعي، وسوف يكون ذان تأثير مباشر على الناس في جميع الامور، وقد لاحظنا تأثير مثل هذه الشخصيات المنصفة حتى في المجال السياسي، عندما كان مثل هؤلاء الناس الثقاة قبلة للسياسيين يطلبون معاونتهم على إقناع الناس بهم من اجل الحصول على أصواتهم، ولا ينحصر تأثير الشخصية المنصفة في هذا المجال فقط، بل يمتد لكي يكون مؤثرا في جميع مفاصل حياة المجتمع.

لذلك يقول الامام علي عليه السلام (من يتحلّى بالإنصاف، بلغ مراتب الأشراف)، لأن هذه القيمة نفسها تنتمي الى الشرف، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وكما نعرف فإن الإنصاف اسم علم مؤنث عربي، معناه العدل، الاستقامة، تقديم الحق، المساواة بين الخصمين بالعدل، وبهذا فإن الإنصاف قيمة لا تتصف بالجمود او الحصر في جمال محدد، إنها تعني شرف التعامل الأمين المتبادل بين الافراد والجماعات وصولا الى الدول، واستنادا الى ذلك، يمكن تعود هذه القيمة على من يتمسك بها، ويعتمد عليها، ويلجأ الى استثمارها ماديا ومعنويا، بربحية كبيرة، تشكل له تركما ماديا ومعنويا متصاعدا، على أن يكون استثمارها حقيقيا، بمعنى ليس مرحليا، لأن هذه القيمة إنسانية تعتمد الثبات في شخصية الانسان تفكيرا وسلوكا.

من تركّز النصائح الاقتصادية الحديثة على هذه القيمة، وتحذر من القيم المناقضة لهذا، ولا ترى في قيم الاحتيال و (التشاطر)، وما شابه من قيم تهدف الى الربحية بكل الوسائل، إمكانية لتحقيق نجاح دائم حتى في المجال الاقتصادي، وهذا ما يفسر النجاحات الهائلة لصناعات بعض الدول كاليابان، حيث اجتاحت البضائع اليابانية مختلف الاسواق وحققت ربحية متميزة واقبالا فائقا، على الرغم من ارتفاع اثمانها على سواها، الامر الذي يؤكد أن انصاف المشتري، الزبون، كان هدفا مباشرا من اهداف الصناعة اليابانية، على خلاف بعض الصناعات لدول اخرى وشركات صناعية معروفة، لا احد يقترب من بضاعتها، فشكلت لها خسارة فادحة بسبب اعتمادها قيما تتناقض مع قيمة الإنصاف، ولاشك أن هذا الامر ينطبق على تحقيق الربحية للفرد بذاته، في المجالين المادي والمعنوي.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي