تطوير الواقع الهندسي في العراق
المحور الخامس: قطاع البناء والإعمار
الهيئة الاستشارية العراقية للإعمار والتطوير
2018-07-18 03:27
ورقة دراسة: د. علي ناجي عطية/ كلية الهندسة ـــ جامعة الكوفة.
مقدمة:
تعرض العراق إلى الكثير من الدمار في بناه التحتية بسبب الحروب والظروف الصعبة التي مرت على البلاد خلال العقود الأخيرة ولهذا السبب لابد أن يحتل الواقع الهندسي موقع الصدارة في الاهتمام الحكومي الحالي والمستقبلي.
إن الحديث عن الواقع الهندسي وتطويره يشمل الكثير من الجوانب والدراسة الموجزة الحالية تحاول وضع المقترحات الكفيلة بمعالجة المشاكل الحالية فيه ووضع الرؤى الاستراتيجية كذلك لضمان أن يكون العراق في مصاف الدول المتقدمة في توفير الرفاهية للمواطن.
الدراسة ستسلط الضوء على هذا الموضوع بصورة شمولية فتبدأ من التعليم الهندسي المطلوب لبناء جيل واعي من المهندسين وتنتهي بالمشاريع وآليات إحالتها إلى الشركات التنفيذية. وستمر الدراسة بالمهندس وكيفية حمايته وضمان أهليته لقيادة تلك المشاريع وتنفيذها على أكمل وجه.
التعليم الهندسي
إن بناء جيل من المهندسين يمتكلون الكفاءة اللازمة لقيادة حقل العمل هو حجر الأساس لأي خطة تهدف لإصلاح الواقع الهندسي. وقد تنبهت الدول المتقدمة قبل غيرها إلى خطورة دور المهندس في البناء أو التدمير لكوكب الأرض لاسيما مع التطور التكنولوجي المتسارع. فأصبح الاهتمام في التعليم الهندسي الحديث لا يقتصر على المعرفة النظرية بالمواضيع الهندسية إنما البناء الأخلاقي لشخصية المهندس ووعيه لما يمكن أن يشكله العمل الهندسي من خطر على على مستقبل البشرية. من أجل ضمان تخرج المهندسين بالقدرات المطلوبة لتحقيق حاجات سوق العمل تم التركيز على ما يسمى بالاعتماد البرامجي حيث تقوم منظمات متخصصة بضمان الجودة بوضع معايير لبرامج التعليم الهندسي ليتم منح الاعتماد للبرامج التي تحقق تلك المعايير فقط. ومن تلك المنظمات ما يسمى بمجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا Accreditation Board of Engineering and Technology ABET وهي منظمة أمريكية قام بتأسيسها الجمعيات المهنية الهندسية في القرن الماضي.
في العراق اهتمت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالاعتماد البرامجي للتعليم الهندسي حيث تم تأسيس مجلس تحسين جودة التعليم الهندسي قبل بضعة أعوام. وقام المجلس مؤخراً بكتابة معايير وطنية لاعتماد برامج التعليم الهندسي بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى ويجري التهيئة لتطبيق تلك المعايير على التعليم الحكومي والأهلي. إن وجود تلك المعايير على الورق لا يكفي إن لم تعط القوة في التنفيذ بحيث تغلق الأقسام الهندسية التي لا تحققها ضمن فترة زمنية محددة.
المقترحات:
1- تأسيس هيئة مستقلة عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تسمى هيئة الاعتماد للتعليم العالي تكون مهمتها تطبيق الاعتماد البرامجي والمؤسسي على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الحكومية والأهلية.
2- تتبنى الهيئة المذكورة في النقطة السابقة المعايير الوطنية للاعتماد البرامجي للتعليم الهندسي التي تم كتابتها ووضعها موضع التنفيذ على جميع الأقسام الهندسية الحكومية والأهلية.
الأهلية لممارسة مهنة الهندسة
تتزايد الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في العراق بشكل كبير في الآونة الأخيرة وبالرغم من وجود متطلبات لتأسيس تلك المؤسسات إلا إنه لايمكن ضمان تخريج مهندسين بالكفاءات المطلوبة منها. لحل تلك المشكلة عمدت البلدان المتقدمة إلى إعداد آلية عمل ليتمكن من خلالها الخريج الجديد ممارسة مهنة الهندسة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال على خريج البرامج الهندسية تجاوز امتحان Fundamental Engineer FE قبل السماح له بدخول حقل العمل.
إن حصول الخريج الجديد على تلك الشهادة سيمكنه من العمل لبضع سنوات كمساعد مهندس تحت يد مهندس خبير ليتعلم فنون المهنة قبل أن يكون مؤهلاً لاتخاذ القرارات الهندسية. بعد ممارسة المهندس الجديد لهذ الدور لبضع سنوات سيكون عليه تجاوز امتحان آخر Professional Engineer PE وبعد ذلك يكون مؤهلاً لاتخاذ القرارات الهندسية ويتولى المسؤولية المهنية بشكل كامل. إن هذين الامتحانين في الولايات المتحدة يقعان تحت سيطرة الجمعيات والنقابات المهنية من أجل ضمان أهلية المهندس لممارسة المهنة.
في العراق يتخرج سنوياً الآلاف من المهندسين ويدخلون الى مواقع العمل ويمارسون المهنة بمجرد انتسابهم إلى نقابة المهندسين العراقية. يوجد هناك أسلوب للترقية تتبناه نقابة المهندسين العراقية بين المراتب الهندسية من معاون مهندس إلى مهندس ممارس إلى مهندس مجاز إلى مهندس استشاري ولكن هذا الاسلوب يحتاج إلى تطوير بحيث يتجاوز الطريق الروتيني للترقية.
المقترحات:
1- ضرورة وضع آلية لمنح رخصة ممارسة المهنة من خلال اختبار مركزي تقوم بالإشراف عليه لجنة مكونة من القطاع الهندسي والجامعات. هذا الاختبار سيكون مصدراً مهماً للمعلومات عن المستوى العلمي للخريجين في كل عام.
2- إن رخصة ممارسة العمل الهندسي يجب أن تكون متخصصة فرخصة العمل الاستشاري تختلف عن رخصة العمل التنفيذي وكذلك التخصص في كل من رخصتي التصميم والتنفيذ.
3- تقوم نقابة المهندسين بتطوير نظام الترقية فيها بحيث يستند الى الخبرة المتراكمة للمهندس خلال حياته العملية مع إجراء الاختبارات المطلوبة للترقية من مرتبة إلى أعلى.
التدرج في ممارسة المهنة والسيطرة عليها
تحتل المشاريع العمرانية في العراق مساحة واسعه وكان حجم العمل يستوعب أغلب الخريجين حتى حصول الأزمة الاقتصادية في البلاد قبل بضع سنوات. بالرغم من ذلك كان الكثير من المشاريع لاسيما تلك التي في القطاع الخاص لا تخضع لإشراف هندسي أو لا تنفذ وفق مخططات ومواصفات هندسية. فعلى سبيل المثال يتولى مهندس حديث التخرج إدارة مشروع كبير أو بعض المشاريع تعتبر صغيرة كالدور السكنية وغيرها فلا يوجد مهندس يشرف على التنفيذ فضلاً عن وضع التصاميم لها. إن التدرج في تولي المهام الهندسية ضروري جداً لأي مهندس لاكتساب الخبرة اللازمة للعمل وعدم ارتكاب الأخطاء. ومن الأسباب التي تؤدي إلى هذا الواقع هو البناء بدون رخصة في الكثير من المشاريع الهندسية أو أحياناً تعطى الرخصة عند الشروع في العمل ومن ثم لا تتم المتابعة من قبل البلدية المعنية بهذا الشأن.
المقترحات:
1- أن تتبنى البلدية أو الجهات المعنية الأخرى إعطاء الموافقات الأصولية للمشاريع بعد أن يتم وضع التصاميم لها من قبل الجهات المتخصصة. ولابد من إعداد التصاميم من قبل جهات قد حصلت على الرخصة في التصميم أولاً من نقابة المهندسين كما تم الاشارة له في الفقرة السابقة.
2- أن تتابع البلدية أو الجهات المعنية الاخرى بشكل صارم مراحل التنفيذ في أي مشروع على أن تراعى جميع الضوابط المتبعه في التخطيط والتصميم والتنفيذ.
3- متابعة البلدية أو الجهات المعنية يجب أن تشمل وجود كوادر هندسية مؤهلة لقيادة المراحل التنفيذية للمشروع ولا يتم تنفيذ أي فقرة إلا بإمضائها من قبلهم. مراعاة التدرج المهني للمهندس يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في توليه المواقع الهندسية خلال مراحل التصميم والتنفيذ.
المواصفات الهندسية
إن تصميم وتنفيذ المشاريع الهندسية لايمكن أن يتم بصورة جيدة بدون وجود مواصفات فنية معتمده في جميع المراحل لأي مشروع. وعملت وزارة الإعمار والإسكان منذ سنوات في مشروع إعداد المدونات العراقية لكافة فقرات الأعمال الهندسية لتكون المواصفات الهندسية الوطنية المعتمدة. تعرض هذا المشروع للعديد من المشاكل والمعوقات بسبب اعتماده أسلوب المناقصات في إحالته حيث أحيلت كتابة تلك المدونات إلى الجامعات وتولت كل جامعة كتابة واحدة منها. إن كتابة المدونات في الدول المتقدمة لا تعتمد على أساتذة الجامعات فقط بل تشكل لجان متخصصة فيها أساتذة وباحثين ومهندسي موقع وغيرهم ويكونون عادة من النخبة المعروفة في كل تخصص. وهذا ما لم يحصل فكل جامعة قد لا تحتوي على خيرة الأساتذة في تخصص معين ولا يمكن لأقل الأسعار الذي يتبع في المناقصة أن يؤدي إلى تكليف الجامعة المناسبة لهذا المشروع. المدونات التي تم كتابتها بحاجة إلى التحديث والتعديل لكي تكون الوثيقة التي يعتمد عليها كبديل للمواصفات الاجنبية التي قد لا تناسب الواقع المحلي في المشاريع الهندسية.
المقترحات:
1- إعادة النظر في المدونات العراقية لأعمال التصميم والتنفيذ بحيث يتم تشكيل لجان مكونة من الأساتذة المتخصصين في مجال المدونة مع نخبة من المهندسين من حقل العمل تقوم بهذه المهمة.
2- التعاون مع المنظمات العالمية في مجال إعداد المدونات والمواصفات الفنية من أجل إنضاجها وجعلها تتوافق مع التطور العلمي والتكنولوجي في مجال الهندسة.
تصنيف المقاولين وإحالة الأعمال لهم
الأسلوب المتبع في إحالة الأعمال والمشاريع الهندسية هو المناقصة ويتم عادة وضع نقاط وأوزان لعوامل عديدة مثل الأعمال السابقة وتوفر الإمكانات وغيرها ولكن يبقى السعر الأقل هو العامل الرئيسي في الإحالة للهروب من شبهات الفساد. ولكون التدقيق أصبح قليلاً في خبرة أصحاب العطاءات وأعمالهم المماثلة يقوم المقاول بتأسيس شركات أخرى بأسماء مختلفة لتغطي السعر الذي يقدمه فتقدم معه بسعر أعلى وهكذا تكون صيغة الفساد قانونية ولا تشوبها الشبهات. إن إعادة النظر في تصنيف المقاولين على أساس خبراتهم وأعمالهم السابقة يعد أمراً مهماً لعدم فسح المجال لظهور شركات عديمة الخبرة لا تكون مؤهلة للتنفيذ فتساهم في الخراب بصورة أكبر.
المقترحات:
1- إعادة النظر في تصنيف المقاولين ومعايير تأسيس شركات التنفيذ بحيث يؤخذ بعين الاعتبار الإمكانات البشرية والمادية التي تمتلكها تلك الشركات.
2- إعطاء الأولوية للخبرة السابقة في إحالة المشاريع فالشركات التي لديها تجارب متراكمة في تنفيذ مشاريع مماثلة مع امتلاكها السمعة الطيبة هي الخيار الأفضل حتى مع تقديمها سعر أعلى من غيرها.
3- تشجيع الشركات المحلية على توقيع عقود شراكة حقيقية مع شركات عالمية من أجل نقل الخبرة إلى البلد وتطوير القدرات المحلية ولكن لابد من ملاحظة الجدية في شراكة من هذا النوع وأن لا تكون صورية.
السلطة المهنية للمهندس
من العوامل المهمة التي تؤدي إلى تنفيذ المشاريع بصورة جيدة وفق المواصفات الفنية الموضوعة لها هو إعطاء السلطة المهنية للمهندس المشرف على المشروع. والسلطة المهنية تعني توفير الكثير من العوامل التي تساعد المهندس في أداء دوره ومنها توفير الحماية له مهنياً من خلال النقابات والجمعيات المهنية فالكثير من المهندسين تعرضوا للتهديد أو الأعمال الانتقامية بسبب محاولتهم الوقوف أمام سوء التنفيذ. من العوامل الأخرى هو توفير الاستقرار الاقتصادي للمهندس فمن غير المنطقي أن يشرف المهندس على مشروع بالمليارات من الدنانير وأجره الشهري قليل لأنه بذلك سيكون عرضة للفساد. من المهم ايضاً التطوير المستمر لقدرات المهندس المهنية ليكون من الناحية العلمية والعملية لديه القدرة على قيادة المشاريع وتوجيهها نحو التنفيذ على أكمل وجه.
المقترحات:
1- وضع التشريعات والإجراءات التنفيذية الكفيلة بحماية المهندس لاسيما العاملين في القطاع الخاص عند تعرضه للتهديد أو طرده من العمل بدون مبرر وقيام نقابة المهندسين بمهمة المتابعة لأوضاع المهندس بهذا الخصوص.
2- إعطاء المهندس الاستحقاقات المادية المناسبة لطبيعة عمله بحيث تحقق له الاستقرار الاقتصادي ويمكن أن يكون لنظام الحوافز أو ما يسمى نسبة الاشراف التي كانت تعتمد في المشاريع الحكومية دور في ذلك. وينبغي على نقابة المهندسين وضع حدود دنيا للأجور التي يتقاضاها المهندس ومتابعة تنفيذ ذلك لاسيما للمهندسين العاملين في القطاع الخاص لأن الحفاظ على كرامة المهندس هي السبيل لضمان تنفيذ المشروع وفق المواصفات الفنية.
3- التطوير المهني المستمر للمهندس من خلال دخوله الدورات التدريبية التي تواكب التطور التكنولوجي الحاصل. ويجب أن يكون أحد شروط الترقية من مرتبة إلى أعلى في نقابة المهندسين هو التطوير المهني كما ويكون ذلك الأساس لتكليف المهندس بالمهام المختلفة في حقل العمل.