كيف نربّي الموهبة؟
حكايات من وحي التجربة
علي حسين عبيد
2018-01-16 05:20
في مطالع الستينيات من القرن المنصرم، في الصف الخامس الابتدائي، دخل علينا معلّم مادة العلوم، كنتُ أقتعدُ مقعداً من الخشب يتوسط الصف، نهض الطلاب الصغار احتراما للمعلم، لم أنهض كما فعلوا، لمحني معلم العلوم جالسا باستقرار في مكاني، غير عابئ به ولا مهتمّ له، لم يقل للطلاب (جلوس) كما جرتْ العادة، تركَ الطلاب واقفين، وتشاغل بمحفظة سوداء صغيرة كان يحملها معه، يبدو أنه منحني بعض الوقت كي أغيّر رأيي وأنهض واقفاً احتراماً له كما فعل الطلاب الآخرون، لكنني لا أحترمه ولن أنهض لهُ.
عندما عرف المعلّم أنني لن أستغل فرصة تشاغله بمحفظته السوداء، وأنني من المحال أن أنهض واقفا له، أعطي أمر الجلوس للآخرين، واصطحبني بلا ضجيج إلى غرفة الإدارة وشرح للمدير ما حدث في الصف، فسألني المدير عن سبب بقائي جالسا في مكاني مخالفا قواعد احترام المعلم، قلتُ للمدير يمكن للمعلم نفسهُ أن يخبركَ بالسبب كذلك طلاب الصف جميعهم يعرفون السبب، أما أنا فلا أريد أن أنكأ الجرح النفسي العميق الذي أحدثه لي هذا المعلم، حينها لم يلحّ المدير عليَّ لمعرفة السبب وطلب مني العودة الى الصف، فقلت للمدير أنا سأغادر المدرسة الى البيت، وسأطلبُ نقلا منها طالما هذا المعلم يبقى موجودا فيها.
من المشاهد المشرّفة التي لن أنساها في حياتي عدم مناصرة المدير لمعلم العلوم، وبقاء أعضاء التعليم (المعلمين) في حالة حياد بانتظار النتائج وما ستؤول إليه الأمور، طلب مني المدير البقاء في المدرسة ووعد بحل يُرضي الجميع، قبل نهاية الدوام بدقائق جاء (فرّاش) المدرسة، واصطحبني إلى غرفة المدير مرة ثانية، دخلت الغرفة، لم يكن فيها أحد سوى المدير، طلب مني الجلوس قبالتهُ، وأمر الفراش بعدم السماح لأي شخص بدخول الغرفة، ثم قال لي بهدوء، الآن أنت حر، اخبرني لماذا لم تقمْ احتراما لمعلم العلوم؟.
دموع ساخنة
تكوَّرتْ دمعة ساخنة في عيني وأنا أعيش إحساس الإهانة النفسية الثقيلة التي جرحت كرامتي وألقت بها في الحضيض، مسحتُ دمعتي وبدأت بالكلام على مضض، كانت العبرة تخنقني بين لحظة وأخرى، طلب المدير مني التوقف، ثم نصحني أن أغسل وجهي بقليل من الماء البارد، بعد دقائق هدأتُ وبدأت بالكلام من جديد، قلت للمدير:
في درس مادة العلوم ليوم أمس، دخل علينا هذا المعلم نفسه، فوقفنا جميعا كالمعتاد وأنشدنا كلمات الترحيب، فأجابنا المعلم بالجلوس، ثم بدأ بشرح الدرس المخصص، واستهلَّ ذلك بكلام لطيف عن النظافة وأهميتها في مكافحة الأمراض أو الحد منها، وأن النظافة من الإيمان، ثم قال المعلم: هناك من يحب النظافة ويحترمها وهي بالمقابل تحترمه فتساعده على كفّ الأمراض عنه وتقرّب الناس منه وإعجابها بشخصيته، وأشار الى طالب من طلاب الصف أبيض اللون تبدو علامات العافية ظاهرة عليه واتخذّ منه نموذجا للناس المحبين للنظافة، ثم بحث عن نموذج آخر لطالب لا يحترم النظافة، فوقعَ اختياره عليَّ أنا، وقال لجميع الطلاب، هذا هو الإنسان الذي لا يحترم النظافة (مشيرا بإصبعه إليّ)، وأضاف المعلم: انظروا الى جسده الأعجف و وجنتيه الناتئتين وعينيه الصفراوين وشعره المجعّد، هذا هو النموذج لمن لا يحترم النظافة.
مرّ كلامه سهلاً عاديّا على الجميع، حتى هو (المعلم) لم يجد خطأً ما في كلامه، الصاعقة وقعت على رأسي وحدي أنا، ومن لحظتها قررتُ ترك المدرسة والى الأبد. هل عرفت الآن يا أستاذي لماذا لم أقف احتراما لمعلم العلوم، قال: نعم والحق يقف إلى جانبك، استمر في الدراسة بصفكَ نفسه، ولا تطلب نقلا إلى مدرسة أخرى، ومنذ ذلك اليوم لم يدخل معلم العلوم المسيء إلى صفنا قط.
قوّة نفسية هائلة
وفي أسابيع قليلة، حصلتُ على لقب (فارس الصف) وهو عبارة عن شريط أبيض شفاف، يعلَّق في مقدمة جسد الطالب بشكل طولي، من أعلى الكتف الأيمن الى الركن الأيسر للبطن، ويُكتَب على هذا الشريط جملة (هذا فارس الصف) ويبقى محتفظاً بهذه الميزة حتى نهاية السنة، قبل هذه الحادثة كانت علاماتي جيدة وموهبتي في الحفظ ومحاولة التميّز موجودة لكنها ليست كما هي بعد حادثة معلم العلوم، فقد نشأت في أعماقي قوة نفسية هائلة، لا أعرف من أين أتتْ ولا كيف حصلتُ عليها؟ ورفعت علاماتي وحضوري بشكل كبير.
ولا أنسى كيف تغيّر أسلوب المعلمين مع جميع الطلاب، فسادت الصف كلمات المعلمين اللطيفة، وأسلوبهم الهادئ، وشعرنا جميعا نحن الطلاب الصغار بمحبة المعلمين وتشجيعهم لنا وعدم تفريقهم بين جميع الطلاب لأي سبب كان، حتى الكسالى بدأ فهمهم يتطور، وعلاماتهم في الامتحانات تتصاعد، وبزغت مواهب واعدة عديدة بين أفراد الصف، فمنهم من برز في الحساب، وآخر في القراءة، وثالث في النشيد ورابع في الرسم وخامس تميّز في الخطابة وسادس برع في تلاوة القرآن وآخر اشتهر بكونه (قصة خون) الصف، فكان يقص علينا أجمل الحكايات، واشتهر صفنا بين الصفوف الأخرى، واشتعلت مواهبنا أيما اشتعال، بسبب تشجيع المدير والمعلمين لنا، وكانت نقطة الانطلاق هي خطوة التصحيح التي قام بها المدير وأعاد فيها الاعتبار ليس لي وحدي وإنما لجميع الطلاب الذين تضاعفت فرحتهم وتصاعد كبريائهم واعتدادهم بأنفسهم، حتى أننا دخلنا في مسابقات مختلفة مع مدارس أخرى، وغالبا ما كنّا نحصل على المراكز الأولى لصفّنا ومدرستنا، وانعكس ذلك على الرياضة أيضا، فكانت مدرستنا تفوز بألعاب الساحة والميدان بصورة لافتة.
في خلاصة القول، كل صغير تنشأ معهُ موهبة ما، من الكفر أن يتم قتلها مبكّرا من قبل عائلته، أو المدرسة، لأن هذين العالمين (العائلة والمدرسة) هما أول المؤسسات التي يصطدم بهما عالم الطفولة والموهبة، وبإمكان العائلة أن تقتل موهبة طفلها بسهولة ويسر، بمجرد إشعاره بضعف كيانه، وللمدرسة القدرة نفسها على قتل موهبة الطالب من كلا الجنسين، لكن في الوقت نفسه لهما القدرة على رعاية وإنضاج هذه المواهب إذا قاما (العائلة والمدرسة) بما يستوجب من تشجيع للمواهب ورعايتها وحمايتها من أمثال معلم العلوم الفاشل.