ساعة الصفر
زهراء حيدر
2016-06-14 01:20
على ناصية الموت يقف.. همزة الوصل بين حياة هذا الانسان وموته، هي مسافة الـ ٢٥ مترا التي تفصل بين سطح البناية والأرض!، لمحتهُ من بعيد بينما كنت أتأمل غياهب الليل. تبدو على ملامحه نتوءات الإنكسار، فصورة اليأس المزروعة في أعلى جبهته تفضح عن القرون التي قضاها في تهيئة مأدبة الحياة.. لملوك الحزن والكآبة.
يائس هو ومحبط... كورقة خريفية منفية من رأس الشجرة الى وحشة أرض جرداء، من الواضح انه يعيش حالة الوجع بنكهة الإحتضار، وأنه يحترق في ما وراء المكان.. فأنا أشم رائحة الرماد تفوح من ثنايا خواطره، أظن بأن أحلامه قد بلغت مثواها الأخير.. إذ انه يمسك بأطراف الحياة بطريقة لا مبالية، ويحاول أن يترك يديه للهواء علّهُ يتحسس الحرية بيدهِ قبل رئته، أو يريد أن يقذف بنفسه من أعلى البناية.. أظن أنني قلت بأنه يريد أن يقذف بنفسه!! يا رباه.
ما وجدت نفسي إلا وأنا احاول ان اصرخ بأعلى ترددات صوتي لأوقف هذا الإنسي، لأجد خلفي مباشرة هذا الكائن الذي لا يمل ولا يكل من إزعاجي، يردد بصوت ثقيل: دعه.. دعه يستنشق الراحة الابدية، فكم له من هذا العمر حتى يعيشه خلف أسوار الحرمان! كم حياة سيعيش تحت ظل اليأس والأمل المذبوح؟!.
بينما أرمقه انا بنظراتي الصامتة.. إقترب مني ودفعني بقوة وقال بلهجة ساخرة.. أنا سأجلس في الظل! وأكمل حديثه.. أترى هذا الإنسان، او بالأحرى بقايا الإنسان.. انه يتعاطى أسبرين العزلة كل يوم عسى أن يشفى من عقدة الوجع التي باتت تنخر بروحه الهزيلة، ولكن لا فائدة من الصراخ من فم أبكم! إذ أن الهموم قتلت أجزاء من أحاسيسه ودفنته صمتا في بؤرة العمر الحزين!.
هذا الإنسان على هاوية الخيبة يعيش، فالرصاصات التي سببت ثقوبا في روحه، نزف على أثرها الكثير من دم الثقة، وبات ينفث دخان اليأس في دهليز علاقاته الانسانية، فكلما اشتدت حاجته، هرب من غصن حياته صديق، إذ ان رفقاءه رموه في غياهب الوحدة والبكاء! فهو منسي في هذا العالم كغصن زيتون منكسر، مرمي على حافة طريق مهجور.
بات الهم يتخثر في خلايا دمه، فنحصل من شهقاته إيذانا لموتِ إنسانٍ بائس، في كل ليلة يحاول ان يتجرع من كأس الحزن رشفة صبر، ولكن ما أن ابتلع الجرعة الاولى وإذا باليأس يصفعه على أم رأس ذاكرته. إنظر الى عينيه.. إنهما تنزفان ألما، وأما صمته فهو باهت.. وكأنه يبتلع وجع مدينة كاملة! ظلمته الدنيا وأهلها.. كما انه لم يسلم من وحش الفقر حتى!! الفقر والحزن والهم والوحدة.. جميعهم ينبشون قبر ذاكرته وقلبه.
ماله ومال هذه الحياة التعيسة؟! الأفضل له أن يختار ترك الحياة بشرف، فلربما بموته.. يجد حياةً أخرى افضل من هذه، وراحة بال سرمدية.. إضافة الى الراحة التي سيشعر بها خلال سقوطه.. انها نشوة الطيران!.
بحلقتُ في وجه هذا الكائن التعيس بنظرة عجب وغضب وكأني أردت أن أقول له كف عن نظرتك المتشائمة تلك.. ولكني تراجعت في آخر لحظة وقلت له:
أنا أعي مقدار الوجع الذي يموء في صدر هذا الإنسان ويخدش جدران قلبه، ولكن لا حياة تخلو من المصائب والمصاعب! ولو كان قد تَعَلَّم هذا الإنسي أن يمشي وحيدا في الإنهيارات عندما كان يغدر به الزمان، لتعلم معنى الصبر.. ولأبصر نور الأمل! فاليائس يقطع نفس المسافة التي يقطعها المتفائل، ولكن بوقتٍ أطول.. لأنه ينظر الى الخلف ولو انه رفع رأسه قليلا لوجد مرافئ السعادة تلوح له من بعيد، ورأى الأمل يرفرف منتصرا فوق ربوع أيامه.
ولأدرك بأن الحزن لا يدوم.. سينتهي كل شيء في أول كمين يضعه الأمل في درب الذّاكرة، لو أنه أجاد التعامل مع لحظات الألم لنجى من الغرق في بحر أحزانه، ولكنه نسي حتى أن يرتدي طوق النجاة، أو بالأحرى طوق الثقة بالله.
ولو أنه نسي أيامه المريرة ودمر هيكل الذكرى المتعبة، ودفن جثة الماضي المرمية على حافة الهاوية، لما لبس رداء الحداد عليها طول العمر! ولو علم بأن اليأس كفر لما وقف على ناصية الموت هذه! فمن لم يعرف كيف يجد راحة في الحياة.. لن يجدها بعد ذلك أبدا.
ومادام ثقة الله ضاربة جذورها في أرض الروح فكن على يقين بأن جميع الأمور ستكون بخير، ولو أن هذا الإنسي عاش من أجل نفسه اولا لما سببت له خيبته بالناس كل هذه الندوب! فالذي خذله مرة، لا يعتبر صديقا.. ولِما هو أصلا يربط حبال وجوده بأضغاث أصدقاء؟! ولو أنه كان يهتم بالقلوب قبل الوجوه لأحسن الإختيار، إذ ان الوجوه تتجعد وأما القلوب فلا.
كما انه لو سقى بساتين روحه بماء الإيمان والتقوى ...لأزهرت روحه وروداً وياسمينا، وأما الفقر، فليس خطأه ان وُلد فقيرا لان ذلك لم يكن من اختياره، ولكن البقاء على هذا الحال هو خياره.
بينما كنت أنفر كلماتي في وجه هذا الكائن العبوس، قاطعني بإشارة هولٍ منه على الأنسي الذي يقف على منصة الموت.. فرأيت بأن الانسان قد فتح عينه، ونظر الى السماء بابتسامة غريبة، لم استطع أن أفك شفرتها الى الآن... وكأنه كان يتأمل شروق الشمس بأبجدية حياة جديدة، بينما هو يعود بأقدامه الى الوراء ظننت للحظة بأنهُ شعر بوجودنا، ولكن تلاشى هذا الظن عندما رأيت الإنسي يحني نَفْسَهُ ليسجد على الأرض خاضعا تلك النفس الضعيفة بيد مغيّر الحال والأحوال، ثم تهجد ونطق كلمات إنسية لم أفهم معناها.. بعد ذلك حمل نفسه الأبية وغادر المكان بهدوء نسبي وقدسية عالية.
غادرنا الإنسي، والحيرة تسكن وجوهنا، أنا وهذا المخلوق العبوس.. وبعد برهة من الزمن عاد يتخاصم معي هذا المخلوق ليجلس في الظل، مع أن هناك لا وجود للظل!!.