إدارة التعدد والتعايش في مجتمعات التنوع
شمخي جبر
2025-12-02 04:32
التعدد والتنوع ليسا حكرًا على دولة بعينها، بل إن هناك العديد من دول العالم وشعوبها عاشت حالة التنوع الديني والقومي والطائفي. لكن هذا التنوع شكّل عبئًا على بعض الدول، فوصل الأمر إلى حالة من الصراع الإثني الذي ذهب ضحيته الآلاف من الضحايا. وقد أوصل بعضها إلى حالة الانقسام، كما حدث في القارة الهندية، أو في يوغسلافيا ومناطق أخرى من العالم. لكن غالبية الدول استطاعت إدارة هذا التنوع الإثني (الديني والطائفي والقومي)، فكان مصدرًا للقوة والإثراء الثقافي داخل هذه الدول.
الموقف الديني
يمكن أن نجد الكثير من النصوص الدينية، ولاسيما في النص القرآني، ما يحث على قبول التنوع والاعتراف به، بوصفه أحد سنن الكون، وقد اتخذ الموقف من التعايش وجهات عدة، ربما يتناساها المتطرفون والمتعصبون أو يغضون الطرف عنها أو يفسرونها على هواهم. فبشأن التعددية الدينية جاء في النص القرآني مايشبر إلى الاعتراف بكافة الأديان: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. ويوصي بالتعامل بالحسنى مع أتباع الديانات الأخرى ما داموا يعيشون معهم بسلام: فليس من شأن المسلم التدخل في شؤون الآخرين، بل عليه أن يترك الأمر كله لله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، وعن التعددية القومية قال:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. المشكلة هنا ليست في التنوع بحد ذاته، إذ يمكن ألا يُعد واقعًا سلبيًا وعامل ضعف في الواقع المجتمعي لو جرت إدارته بحكمة وإنسانية، من خلال التأسيس لمبدأ المواطنة، الذي يتساوى من خلاله الجميع في الحقوق والواجبات، فتتحقق المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية للجميع بغض النظر عن انتمائهم.
أطر دستورية
من خلال الإدارة الإيجابية للتنوع، نستطيع أن نوفر الطمأنينة والعيش بسلام لجميع أفراد المجتمع، بصرف النظر عن هوياتهم الدينية والقومية والمذهبية، أما عكس هذا فيقول أمين معلوف: إن “المواجهات التي يتعرض لها الفرد بسبب أحد عناصر هويته، أو بعضها، عامل رئيس في توليد الشعور بالخوف لديه.”
وقد يسعى بعضهم إلى إيقاظ فيروس الطائفية أو التفرقة العنصرية، ومحاولة تنشيطه وبث الروح فيه من خلال بعض الأفعال والأقوال. وقد اتفق القوم على أن القول أشد إيلامًا وتأثيرًا من الفعل، فالقول قد يكون تصريحًا لوسيلة إعلام، أو تقريرًا خبريًا، يجري دسّ بعض السموم فيه من أجل الترويج وإشاعة هذا الفيروس كلما خمد وضعف أو تلاشى. وهو ما أطلق عليه الكاتب الروسي (سيرجي قره مورزا) “التلاعب بالوعي”، الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام.
فالتعايش هو فن إدارة المجتمعات، وفرصة لإقامة السلم الاجتماعي بين الجماعات في مجتمعات التنوع الديني والطائفي والقومي، ومنع نشوب الصراعات (من الممكن العيش معًا بالرغم من تبايناتنا). وعكس هذا يمكن أن يؤدي الصراع بين الجماعات إلى قيام حرب أهلية قد تصل إلى حد تقسيم الدولة الواحدة.
يحتاج التعايش إلى أطر دستورية وقانونية تنظمه وتحميه وتوفر له بيئة من السلم الاجتماعي المحمي قانونيًا. ولا يمكن أن يكون هناك تعايش حقيقي دون وجود دولة قوية، دولة تحترم الإنسان وتصون كرامته وتحمي معتقده، دولة لا تتبنى معتقدًا أو دينًا أو طائفة، بل دولة الجميع وللجميع.
الموقف الدولي
اعتُبرت هذه القيم والمبادئ أنها الأسس المهمة لبناء التعايش، وقد اهتم العالم ومنظماته الدولية بها، وعمل على التأكيد عليها وإشاعتها، لإيجاد بيئة يسودها السلام محليًا وعالميًا، وخُصصت لها أيام للاحتفاء والاحتفال بها، كيوم التسامح العالمي (16 تشرين الثاني) ويوم التنوع الثقافي الذي خُصص له يوم عالمي هو (21 أيار).
وإذا كان هناك من ينظر إلى التسامح بأنه ضعف، ويصور ثقافة التسامح بأنها ليست من ثقافتنا، فإن هؤلاء هم أعداء الحياة وأعداء الفطرة السليمة. إذ ينظر هؤلاء على أن أي حديث عن التسامح يقود إلى التساهل إزاء العقيدة. فيرد عليهم أحد الباحثين: إن “التسامح يحتاج قوة أكبر من الانتقام.” فهو تعبير عن ثقة الأمة بنفسها وبدينها.
والعراق وطن التنوع الديني والقومي، فهو وطن الجميع من: مسلمين ومسيحيين ومندائيين وإيزيديين وكاكائيين وشبك وغيرهم، وطن العرب والكرد والتركمان وجميع القوميات والأديان الأخرى. فهو مهبط الأديان السماوية وموطنها ومنطلقها.
حماية التنوع
ويمكن القول إن التنوع الثقافي لا يمكن أن يزدهر إلا في بيئة تضمن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وإيجاد ضمانات دستورية وقانونية تحمي التنوع وتنظم عملية رعايته وتنميته، لأن هذا يعني احترام كرامة الفرد وخياراته العقائدية والثقافية. ولا يمكن القفز على التنوع أو تجاهله وتجاوزه لأنه واقع سوسيولوجي وثقافي لا بد من الاعتراف به ورعايته وتوفير متطلبات تنميته.
وفي مجتمعات التعارف والتآلف، لا نجد معنى أو وجودًا لمفهوم (الأقلية)، إذ تجري مغادرته مع كل توابعه الاجتماعية والنفسية والسياسية، وبالتالي يختفي الانفصال النفسي للفرد والمجموعة الاجتماعية.
ويمكن أن يكون التعليم فرصة لتعليم التعايش وتوجيه الطفل، منذ المراحل الأولى، إلى العيش المشترك، والاعتراف بالتنوع المحيط به وقبوله. فيوصلنا التعارف إلى نتيجة: نعم أنت موجود.. نعم أنت مختلف عني.. ليست لدي مشكلة معك.. من حقك أن تعيش.. من حقنا أن نعيش معًا بسلام.
كما يمكن ألا يكون هناك تعايش دون الاعتراف بالمساواة في الحقوق والواجبات، وليس في الواجبات فقط؟ وهو ما يؤكد عليه مبدأ المواطنة الذي يساوي بين الجميع.
المؤسسة التربوية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، فضلًا عن المؤسسة الدينية، جميع هؤلاء، منفردون ومجتمعون، قادرون على إيجاد فضاء اجتماعي متعايش ومطمئن، وصناعة مجتمع يسوده السلم الاجتماعي.