ثقافة التواصل بين نزعة الجدال وفن الاستماع
د. لطيف القصاب
2025-09-24 07:32
يقف كل من الاستماع والمجادلة بوصفهما أداتين أساسيتين في دنيا التواصل الإنساني، ولكنهما يختلفان في الأثر والأسلوب، ففي حين يُنظر إلى الجدال بصفته قوة تعبر عن الرأي بقصد اقناع الآخرين أو إفحامهم يُعد الاستماع من جهة مقابلة جسرا يربط في ما بين العقول، والقلوب.
إن الاستماع هو الفنّ الهادئ القائم على ركيزة الانتباه لما يقوله الآخر، وفهم وجهة نظره، أو تفهمها من دون مقاطعة، ومن ثم فهو فعل عقلي، ووجداني في آن واحد، ويهيئ الأرضية السليمة لجدال عقلاني لاحق لا يكتفي بسماع الكلمات فحسب، بل يسعى لفهم النوايا والمشاعر كذلك مما يجعل الحوار أكثر عمقًا وحميمية. وفي القرآن الكريم حثٌ مستمر لهذا الخلق الرفيع، وثناء بليغ على أصحابه، من ذلك قوله تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ"....
وبقدر ما يتعلق الأمر بالمواقف الاجتماعية فإن الاستماع يسهم إلى حد كبير في تعزيز قيمة الاحترام المتبادل، وتوطيد العلاقات بين الأفراد، وهو في الوقت ذاته يقلل من مناسيب سوء الفهم واحتدام الصراعات الناتجة عن التسرع في إصدار الأحكام، أما في السياق السياسي فالاستماع الواعي يمثل أداة أساسية لإجراء حوارات موضوعية تسمح بصياغة حلول عملية للمشاكل المستعصية، وتتيح للقادة، وصناع القرار إدراك احتياجات المواطنين ومطالبهم الحقيقية.
وفي المقابل فإن الجدال هو التعبير عن الرأي والدفاع عنه، وغالبا ما يتحول إلى صراع كلامي لا يجدي نفعًا للطرفين؛ إذ إن المجادل لا يفكر عادة إلا بافحام خصمه، ويظن فيه ظن السوء، ويتهمه بالمكابرة، والعكس صحيح في أعم حالات النقاش...
والجدال يمثل سجية إنسانية لا (جدال) فيها، ولعلّ في قوله تعالى : "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" مصداقا مباشرة لهذه السجية، والجدال والجدل وإن اشتركا في المعنى العام غير أن فيهما تفاوتا دقيقا، وفي كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري إشارة واضحة لهذا التفاوت المعنوي من حيث إنّ الجدل: هو شدة الخصومة في النقاش، وهو يدل على سجال يعتمد على قوة الحجة، وإعمال الفكر، وقد يكون محمودًا إذا كان للوصول إلى الحقيقة، في حين أنّ الجدال هو المبالغة في الجدل، وغالبًا ما يكون دميمًا ذميمًا؛ لأنه قد يتحول إلى تخاصم وعناد أكثر منه نقاشًا علميًا أو منطقيًا، وهذا التفريق يتماشى مع الاستعمال القرآني،إذ غالبًا ما يجيء "الجدال" بصيغة الذم، في حين يكون "الجدل" محايدًا أو إيجابيًا في كثير من سياقاته، من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"...
وخلاصة القول في هذه النقطة يتمثل في أن الجدل أقرب نوعا ما إلى النقاش العلمي والبناء، وإنّ الجدال يرتبط -غالبا- ارتباطًا مباشرا بالخصومة لأجل الخصومة، ولا يتغيا غرضا معرفيا خالصا.
يقول (آرثر شوبنهاور) ما مضمونه إنّ الناس يهدفون إلى الانتصار بالنقاش أكثر مما يهدفون إلى البحث عن الحقّ أو الحقيقة. وقد شاع في تراثنا العربي والإسلامي ما عُرِف بمصطلح (الأجوبة المسكتة)، وهذه الأجوبة تنهج نهجين متغايرين، فتارة تنتهج سبيل البرهان، وبيان الحقيقة المحضة، وتارة تأخذ طريق الإفحام انتصارًا للذات لا للحقّ والحقيقة؛ ومما يتوافق مع المنحى الأول جواب الإمام علي بن أبي طالب لسائل قال له : "كم بين السماء والأرض يا أمير المؤمنين" فرد عليه عليه السلام قائلا : "دعوة مستجابة"، وكذا جواب ولده الحسن لرجل سأله: "كم العطاء" مستفهما عن مقدار ما يُعطى للفقير، فقال سلام الله عليه: "على قدر المروءة"!
أما ما يتناسب مع المنحى الآخر، فيمكن التمثيل له برد (وينستون تشرشل) لمرأة قالت له: "لو كنتَ زوجي، لسممتُ قهوتكَ، فرد عليها قائلا : لو كنتِ زوجتي، لشربتها."..
في نهاية هذه السطور ينبغي التأكيد على أهمية غرس ثقافة الاستماع في مجتمعاتنا لاسيما العربية منها، هذه المجتمعات التي يعاني أفرادها من قطيعة تواصلية واضحة، على أن ثقافة الاستماع ليست مجرد مهارة يجب إتقانها فحسب بل هي نهج حياة من لوازمه تحقيق التوازن بين التعبير عن الرأي، وفهم الآخر المختلف، ومن دون فن الاستماع الهادئ يصبح النقاش عبارة عن حلبة صراع توصد الباب أمام القدرة على التواصل السليم، وتخلق فردا ومن ثم مجتمعا لا يحسن حل مشكلاته بأسلوب عقلاني، وسلمي.