في المتنفس يضيق النفس
د. جليل وادي
2023-09-24 06:25
مع ان في التسوق لذة، وعند بعض الناس ما بعدها لذة، وقد تكون النساء أكثر استشعارا لهذه اللذة من الرجال، وهناك من ينتظر رأس الشهر بفارغ الصبر للاستمتاع بالتجوال في الأسواق، فمرأى السلع المختلفة والناس والألوان تبث الاسترخاء في النفس، لنقضي وقتا من الفراغ نكسر فيه رتابة يومنا ونبدد ما ينتابنا من ملل، هكذا هو المفترض، لكنك في أسواقنا العامة سرعان ما تفر بجلدك لتغادرها كارها وقاسما بأغلظ الأيمان ألا تذهب اليها ثانية الا اذا كنت مضطرا، فتتحمل ما لا يُطاق لتشتري سلعتك التي يتعذر عليك الاستغناء عنها .
تغدو الأسواق حاجة أكثر الحاحا عندما لا توجد قنوات ترفيهية كالمتنزهات المنظمة والنظيفة، والتي لا تثقل كاهل الأسرة بمبالغ غير قادرة على دفعها لا سيما الأسر كبيرة العدد، او مسارح تقدم فيها الأعمال الفنية الراقية التي تثري ثقافة الجمهور وتنقل له رسالة تنطوي على قيم من شأنها الارتقاء بحياته، ولا قاعات للعروض الموسيقية والتشكيلية لتنمية الحس الجمالي وتهذيب الذائقة الفنية، كجزء من عملية التصدي لتراجع الذوق العام الذي لم تفكر فيه الجهات المعنية، بل لا يشغل أية مساحة من اهتماماتها، وصارت تتفرج على السلوكيات غير المهذبة لبعض الناس من دون أن تسأل نفسها لماذا يحدث هذا ؟ .
وفي غياب هذه القنوات، او ان واقعها لا يستجيب لحاجة الأسر للتسلية والترفيه، لم تعد سوى الأسواق متنفسا، لكن ما أن تدخلها حتى يضيق نفسك، ويرتفع ضغطك، وتهيج فروة رأسك، فقد حدث ما أصفه عند تجوالي في مركز التسوق الرئيس في مدينة بعقوبة القديمة، بالرغم من ان التسوق لا يستهويني كثيرا، وزياراتي للأسواق متباعدة، وتنتهي بمجرد شرائي للسلعة التي أحتاجها .
أول ما يصدمك في أسواقنا نداءات الباعة المسجلة في مكبرات الصوت التي لا تتوقف طوال النهار، وارتفاع أصواتها يحول دون سماع ما يقوله الذي يقف الى جانبك، وكثيرا ما يرفض الباعة ايقاف مكبراتهم، وعندما أغلقت احدها عمدا لأسأل البائع عن بضاعته نهرني بانفعال شديد وبكلمات لم أسمعها جيدا، وأظنه شتمني، ولم يكن بوسعي سوى أن ألزم الصمت والانسحاب من أمامه لكي لا يتطور الموقف الى ما لا يليق بي . بعد مسافة ليست بأكثر من مائة متر كنت بمواجهة مولد كهربائي ضخم بصوته الكريه، تصاعد انفعالي، لكني تحكمت به ريثما انتهي من التبضع، السوق ضيق جدا، وطاقته الاستيعابية لا تكفي للمتبضعين فيه ، حتى انك لا تستطيع المشي بشكل مريح، بالتأكيد لم نصل بعد الى المرحلة التي نفكر فيها بمساحة الأسواق وتوقعاتنا لعدد المتبضعين، فمثل هذا التفكير لم يؤخذ بالحسبان حتى في الجامعات الا على الورق فقط، بينما هو معيار عالمي من معايير جودة التعليم بتحديد مساحة بالمتر المربع لكل طالب .
ما أستغربه انه في هذا المكان المكتظ سمح لأصحاب الدراجات النارية والتكاتك والسيارات بالدخول اليه، والبعض من سواق التكتك وجلهم من الأطفال يستخدمون ( الهورنات )، في غالبها للاستمتاع وليس للضرورة، فصرت اراوغ هذه المركبات تحسبا من تعرضي للخطر، وسمعت تذمر كثير من الناس من هذه الفوضى العارمة، بعد ان كان تسوقهم مريحا يوم اغلقت شوارع السوق قبل سنوات أمام المركبات لأغراض أمنية، لا أدري ان كان المسؤولون يعرفون بمعاناة الناس من هذه الضوضاء الكارثية، والارباكات التي تحدثها المركبات داخله ؟ . يُقال ان الضوضاء تؤذي الأذن وتشل التفكير وتزيد التوتر وتنقص العمر، فمن يضع حدا لها ؟.
أخيرا قررت ان أشتري سلعتي على عجل وأغادر، في هذه الأثناء تعالى صوت آذان المغرب الذي رج المكان رجا بأربعة مكبرات نقية الصوت، بينما مسجد آخر قريب جدا من الأول يتلو آيات قرآنية بمستوى الصوت نفسه، فازدادت خطواتي سرعة، بينما بالي يفكر ببعض الاقتراحات لحل هذه الاشكاليات، ودون أن أدري وصلت الى نهاية السوق ونسيت شراء ما أريد.