تأملات في ملاحظة

د. جليل وادي

2023-01-02 06:50

تواجهك في يومك الكثير من المظاهر السلوكية التي تبدو بسيطة، وقد لا تستوجب في نظر البعض التوقف عندها مليا، ولكنها قد تنطوي على دلالات خطيرة، وربما يتهمك البعض بأنك تحمّل الأمور أكثر مما تحتمل، ومنهم من يصدمك بقوله: هكذا هي الحياة يا رجل، ليست سوى صراع، والبقاء للأقوى كما يقول دارون صاحب نظرية التطور، والذي لم يكيّف نفسه مع هذه الحال تسحقه سنابك الخيل لا محالة، هذا ما يتبادر الى ذهنك، فيتسلل الاحباط واليأس الى دواخلك، بينما تحلم بعالم يتيح للضعفاء البقاء أيضا الى جانب الأقوياء، متنعمين بحياة منحها الله تعالى للناس مرة واحدة، ومتحررين من قلق المستقبل.

لا نريد للحياة أن تتحول الى غابة يأكل قويها ضعيفها، ويتقدم سخيفها على مؤدبها، ويديرها فاشلها وليس كفوئها، لكن بلوغ عالم بمثل هذه الأوصاف يثق فيه المرء بأخيه، ويعيشان تحت سقف عادل مقترنا بشعور المواطنة، لا يأتي اعتباطا بترك الامور سائبة تتشكل عشوائيا، بل بحاجة الى رؤية وتخطيط، وتفكير وعمل، واخلاص ومحبة .

كل ذلك راودني وأنا أُخضع بعض المظاهر للملاحظة الشخصية لأستشف منها بعض المعطيات، فالنظريات انطلقت من أفكار وملاحظات بسيطة الى ما هو أعمق، ومثالها نظرية (الاستجابة الشرطية) للعالم الروسي ايفان بافلوف في تجربته الشهيرة على الكلاب، والصناعات المتطورة انطلقت من صناعات أولية، فالوصول للذرة لا بد أن يبدأ من معمل لحليب الأطفال وآخر لمعجون الطماطم، لذلك أقول: ان الأهداف الكبيرة التي تتطلع الى تحقيقها تبدأ من ترتيب سرير منامك، وبعكسه لا تظن انك محقق لأهدافك، ذلك ان حرق المراحل ليس بالضرورة طريقا سليما لتحقيق الحلم، فالتنظيم يقف وراء كل عظيم، ويقتضي تضيق مساحة الغابة والقضاء عليها أن نعمر الانسان، ذلك ان اعمار الانسان أولى من اعمار البنيان، بديهيات اضطررنا لتجديد الحديث عنها، وذلك من بين مؤشرات تردي الحال.

على مدى سنوات وبشكل يومي، أقف عند نهاية زقاق سكني أنتظر السماح لي من سائقي المركبات بسلوك شارع فرعي من دون مزاحمة، في البداية كان يسمح لي بالمرور بعد مركبتين، وتصاعد العدد الى أربعة مركبات، وفي الخامسة يعطيني أحد الأخيار فرصة المرور، وحاليا ازداد عددها الى سبعة مركبات، وغالبا لا يُسمح لي، وبالرغم من وجود مسافة كافية تفصلني عن مركبة قادمة، الا ان سائقها يزيد من سرعة مركبته لكي يفوز بمنعي من المرور، وانتهيت الى انه علّي مزاحمتهم والمخاطرة بحياتي لكي أحصل على حقي، مؤسف جدا أن يتطلب الحصول على الحقوق المجازفة بالحياة.

معروف ان العلاقات بين البشر والدول تحكمها ثلاثة مبادئ: التعاون والتنافس والصراع، ويعد التعاون السمة الغالبة في المجتمعات الواعية، أقول السمة الغالبة، فلكل قاعدة استثناء، ولا وجود لمجتمع مثالي خال من السيئين والجاهلين وغيرهما.

والتنافس قانون للرقي، لا ارتقاء بلا تنافس شريف، ولكن عندما يتجرد التنافس من شرفه يتحول الى صراع الذي ان ساد صار المجتمع شبيها بالغابة التي يحذر الجميع فيها من الافتراس، وليس في الذهن سوى حماية النفس بأي طريقة كانت.

وقارب الفكرة في ذهنك عندما يرن هاتفك في ساعة مبكرة من الفجر، فليس أمامك سوى قراءة ما تيسر لك من الآيات والأدعية لينجيك الله تعالى من (التائهات) التي يزداد عددها يوما بعد آخر، ويسقط ضحاياها أبرياء كثر.

أستنتج من الملاحظة التي ذكرتها غيابا يكاد أن يكون تاما للتعاون، ولا يمكنني وصف ما حدث بالتنافس، لأن ما جرى يفتقد للذوق والحق وتفهم مواقف الآخرين، وبالتالي فهو صراع، ما يعني شيوعا للروح العدوانية فرضتها أزمات خانقة يتعرض لها المجتمع، وأول ما يجب القيام به لكبح جماح هذه الروح هو اعادة النظر بعمليات التنشئة الاجتماعية، ماذا تقولون؟

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي