لم بعض أذكى الناس في غاية الغباء؟
مجلة حكمة
2021-08-22 04:26
بقلم: شاتشا غولوب / ترجمة: نادية المطيري، سارة المديفر
قبل سنوات من وفاته في المنفى من النازية، ألقى الروائي النمساوي روبرت موزيل محاضرة في فيينا، بعنوان ” عن الغباء” (1937). حيث كان جوهر فكرتها: أن الغـــباء ليس “حماقة” تامة، ولا نقصا حادا في القوة العقلية. الحماقة بالنسبة لموزيل كانت أمرا “صريحا” بل “شريفا” تقريبا. غير أنّ الغباء شيء مختلف وأكثر خطورة: تكمن خطورته في أنّ أذكى الناس وأقلّهم حماقة أحيانًا هم الأكثر غباء.
زوّدتنا محاضرة موزيل بمجموعة مهمة من الأسئلة. ما هو الغباء بالضبط؟ وكيف يرتبط بالأخلاق؛ هل من الممكن أن تكون ذو خُلق جيّد وغبي مثلاً؟ وما علاقته بالرذيلة؛ هل من الممكن أن يكون الغباء نوع من التعصب؟ ولم هو محدد بمجال معين: لم الناس عادة أغبياء في مجال ما وأذكياء في مجال آخر؟
ركزت إجابة موزيل – التي تمحورت حول الادعاءات – على فترة حماس ما بين الحربين في فيينا أكثر من اللازم لتفيدنا الآن. لكن أسئلته، وحدسه تجاه خطر الغبـــاء، لازالت ذات صلة.
الغباء، بالتحديد، هو فشل معرفي. ويكون عندما لا تمتلك أدوات الفهم المطلوبة لمهمة ما. بالتالي العجز عن فهم ما يحدث، وما ينجم عن ذلك من الميل إلى تصنيف الظواهر بشكل سطحي ومشوه.
ولعّل من الأسهل ضرب مثل لحالة مأساوية. حيث كان فهم ضبّاط القيادة البريطانية العليا في الحرب العالمية الأولى لحرب الخنادق لا يتجاوز استخدام مفاهيم واستراتيجيات من معارك الفرسان وتجارب شبابهم. وكما أشار لاحقاً أحد اتباع المارشال دوغلاس هايغ[1]، اعتقدوا أن الخنادق هي “قواعد عسكرية متحركة”: أي مثل في حروب المناورة التي تتوافق مع التحذير البسيط بأنه لا يمكن أن يدوم أي شيء. وكما هو متوقع، لم ينفعهم هذا جيداً في صياغة الاستراتيجيات: وما أعاقهم، أكثر من نقص الموارد المادية، هو نوع من “التقادم المفاهيمي” والفشل في تحديث أدواتهم المعرفية لتتناسب مع المهمة القائمة.
سيظهر الغباء في مثل هذه الحالات، عندما يُفْرَض إطار عمل مفاهيمي قديم، ليشوه فهم المرء للظواهر الجديدة. فمن المهم التمييز بين هذا وبين الخطأ المحض. نحن نخطئ لأسباب مختلفة. والغباء ما هو إلا سبب دقيق ومستعصي للخطأ.
عبر التاريخ، ابدى الفلاسفة مخاوف كبيرة من اللاعقلانية في عدم استخدام الوسائل المتاحة لتحقيق الأهداف: يريد توم أن يحسن لياقته الجسدية، غير أنّ الغبار بدأ يتراكم على حذاء الركض الخاص به من الإهمال. فالحل الأساسي لمشكلة توم هو قوة الإرادة فقط. أما الغــــباء فهو أمر مختلف تماماً عن هذا. حيث أنه افتقار للوسائل المطلوبة، والمعدات الفكرية اللازمة. ومكافحة الغباء لا تتطلب قوة ارادة عظيمة، بل بناء طريقة جديدة لرؤية أنفسنا وعالمنا.
مثل هذا الغباء يتّسق بشكل تام مع الذكاء: هايغ كان رجلاً ذكياً بكل المقاييس. في الحقيقة، الذكاء، أحياناً، يحثنا على الغباء من خلال العقلانية الخبيثة: عندما عرض هاري هاوديني، فنان الخدع العظيم، لآرثر كونان دويلي – مخترع شخصية شارلوك هولمز – الخدع الكامنة في جلسات تحضير الأرواح التي آمن فيها كونان دويلي بشدة، كانت ردة فعل الكاتب آرثر أن اختلق تفسير مضاد مضحك ومفصّل عن أن الوسائط الروحية الحقيقية هي التي تتحكم بالحيل.
بينما قَدّمت الغباء بواسطة ” التقادم المفاهيمي”، فالغباء أيضاً متسق مع نوع من الأفكار الجديدة المضللة. افترض أن دولة ما تستورد بحماس أدوات مفاهيمية جديدة ليست من الماضي لكن من مكان مختلف. على سبيل المثال، تهيمن على المناظرات الدولية حول العدالة الاجتماعية مجموعة من الأفكار والمصطلحات المأخوذة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أُمة عُرِفَت بمسار تاريخي وثقافي معيّن. فعند نقل إطار العمل هذا ببساطة للدول الأخرى، كالتي تكون فيها العنصرية الطبقية أقل (مثل اعتماد بعض الدول على استغلال العمال المهاجرين البيض من أوروبا الشرقية) أو حيث التمييز العنصري بشكل أكثر تعقيداً (دول أفريقيا الجنوبية مثلاً) ذلك يُعد امراً خطير اجتماعياً ومفاهيمياً.
للغباء خاصيتان يجعلان منه خطير، وتحديداً عند مقارنته مع الرذائل الأخرى. أولاً، على عكس العيوب الشخصية، الغباء أساساً يخص الجماعات أو التقاليد وليس الأفراد؛ ففي النهاية نحن نتلقى أغلب مفاهيمنا وأدواتنا الفكرية من المجتمع الذي نشأنا فيه. لنفترض أن المشكلة مع هايج كانت الكسل: لم يكن هناك أي نقص في الجنرالات الآخرين النشيطين لاستبداله.
لكن لو أن هايغ عمل بكل جهده ضمن القيود الفكرية للتقاليد العسكرية في القرن التاسع عشر لأصبح حل المشكلة أكثر صعوبة: حيث ستحتاج إلى تقديم إطار مفاهيمي وتأسيس إحساس بالهوية والفخر العسكري لذلك. فبمجرد سيطرة الغباء على مجموعة أو مجتمع يكون من الصعب القضاء عليه – حيث أن صياغة مفاهيم جديدة وتوزيعها وتطبيعها أمر شاق جدا.
ثانياً: ينتج الغباء المزيد من الغباء نظراً لـ الغموض العميق في طبيعته. إذا كان الغباء يتعلق بالأدوات غير المناسبة للمهام، سيعتمد الفعل الغبي على نوعية المهمة: مثلاً المطرقة مناسبة لبعض المهام وخاطئة لغيرها. انظر للسياسة على سبيل المثال، حيث الغـــباء ينتشر بشكل خاص: فالشعار الغبي يتناغم مع الناخب الغبي، فهو يعكس نظرته للعالم. والنتيجة أن الغباء يصبح، بشكل ساخر، فعالاً جداً في البيئة المناسبة: حيث يستهدف نوع من الضعف فعليا. ومن المهم أن نفْصِل هذه النقطة عن الادعاءات المتعالية والمعروفة عن حماقة “الطرف الآخر” أو جهله: الغباء يتسق مع الانجازات التعليمية، كما أنه خاصية ثقافية سياسية أكثر من كونه خاصية فردية، فيجب التعامل معه من هذا المستوى.
إن موقف موزيل المتساهل والأرستوقراطي تقريباً تجاه كون الحماقة “شريفة” كان بالتأكيد موقفا متهاونا بشكل خطير: فكر مثلاً في دوره في ظاهرة المعارضين للقاح. لكن الحماقة وحدها نادراً ما تكون مهددة: فعلى رأس كل حركة حمقاء، تجد شخص غبي يقودها.
نستطيع الآن شرح أسباب أن الغباء محدد بمجال معين: لماذا يكون أحدهم ذكي جداً في مجال ما، وأبله في مجال آخر؟ إن المفاهيم ذات الصلة عادةً ما تكون محددة بمجال واحد. علاوة على ذلك، نستطيع أن نجد الكثير من الحالات التي لم تُوصَف بالغباء تماماً لكن تحاكي آثاره. تخيل أن أحدهم كان يجهل كل الدلائل التي تشير إلى تعرضه للاحتيال ثم ينتبه أخيرا ويسأل نفسه “كيف لي أن أكون بهذا الغباء؟” المشكلة هنا ليست مجرد غباء؛ حيث أن مفهوم الاحتيال منتشر بشكل كبير.
ما لدينا هنا هو شخص ”يتصرف كما لو كان غبيا”. ليس فقط لأنه فشل في كشف مفهوم الخيانة، لكنه لم يفكر في الأمر حرفياً: كان ”غير متصل” فعلياً بسبب ضغوطات عاطفية وغيرها. في هذا النوع من الحالات، يكون لدى الشخص الأدوات الفكرية اللازمة لكن لم يستخدمها من غير قصد. وهذا يوضح تناقض مهم مع الحماقة – قد نجعل من أنفسنا أغبياء لكن ليس حمقى.
لذا من الصعب علاج الغباء. حيث يتفاقم سوءاً بالطريقة التي يتسق فيها مع الرذائل الأخرى: العناد مثلا سيمنعني من إعادة النظر في مفاهيمي حتى وإن جعلت مني فاشلاً. لكن بمجرد أن نفهم طبيعة الغباء ستصبح الأمور أكثر وضوحاً.
إن رؤية المعارضين السياسية بأنهم محل سخرية في المقام الاول يحولهم الى وحوش انتهازيين، مما لا يترك أي مجال لسيطرتهم. ورؤيتهم بأنهم حمقى اساساً ما هو إلا اقتراح بوجود خلل لا يمكن إصلاحه – خلل يعتبر في مجتمعنا الهرمي العميق بأنه خاص بأولئك الذين لا يملكون المؤهلات التعليمية المناسبة.
وكلاهما يقدمان تطمين زائف: فبقليل من التفكير نؤكد بأننا لسنا محل سخرية، ومع الشهادات المناسبة نثبت بأننا لسنا حمقى. ولكن مع ذلك قد نقع في فخ الغباء. ومن تجارب التاريخ، فإنه بعد مئات من السنين، سيجد أحفادنا جزءاً واحداً على الأقل من أخلاقياتنا المعاصرة غير مفهوم ” كيف لناس محترمة أن تصدق ذلك؟” فإذا لم يحكموا علينا بالشر سيضطرون إلى استنتاج أننا أغبياء.