الالتباس في مفهوم المجتمع المدني

د. عبد الحسين شعبان

2019-09-18 04:11

لا يزال مصطلح “المجتمع المدني”، غير محدد على نحو دقيق، بل يثير التباسات نظرية وعملية، فأحياناً نحن نتحدث عنه ونستخدمه، ولكن كل منّا يقصد أمراً مختلفاً. وعلى النطاق العربي فإن المصطلح يثير إبهاماً كبيراً وتعارضاً شديداً بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد بين فريقي التنوير والتشهير أو التقديس والتدنيس.

فأحياناً يُطلق عليه اسم “المجتمع الأهلي” وأحياناً اسم القطاع الثالث (بين القطاع العام والقطاع الخاص) وفي أحيان أخرى: القطاع الخيري، أو القطاع المستقل، أو القطاع المعفي من الضرائب، أو نسمّيه المنظمات غير الحكومية، أو المنظمات التطوعية، أو القطاع غير الهادف إلى الربح، وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً وإن كان هناك بعض التعارضات وهو وجود مؤسسات غير حكومية، غير إرثية، تطوعية، مستقلة عن الجهاز الحكومي، وتشكل قطاعاً ثالثاً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وهو ما نسمّيه بالمجتمع المدني.

وسبب صعوبة تحديد المعنى يعود إلى حداثة استخدام المصطلح لدينا وشحّة المختصين، فضلاً عن أنه بحاجة إلى سياقات فكرية وثقافية وإلى بيئة سياسية واجتماعية، لكي يكون “مقبولاً” على نحو ما نشهده في الغرب. والسبب الآخر يعود إلى الاختلاف، الذي يتضمنه الموضوع كإطار نظري ناجم عن تجارب محددة سرعان ما تتغيّر. ولعل السجالات السياسية والايديولوجية تأخذ بُعدها في هذا الموضوع، ناهيكم عن الاختلافات في الممارسة والتطبيق.

ويمكن تحديد شروط تكوين مؤسسات المجتمع المدني بما يلي:

أن تكون منظمات مدنية مستقلة وغير حكومية. أن تكون منظمات غير إرثية، أي أن العضوية فيها لا تتوارث عبر العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب أو الدين. أن تكون منظمات طوعية، أي أن الانتساب اليها يتم وفقاً لاختيار واعٍ وحر. أن تكون منظمات غير ربحية، أي لا تستهدف تحقيق الربح، وهو ما يميّزها عن مؤسسات القطاع الخاص الهادف إلى الربح. أن تكون منظمات حداثية، وذلك ما يميزها عن المؤسسات التقليدية. أن تكون منظمات ديمقراطية وهو ما يميزها عن المؤسسات التقليدية وتمارس الديمقراطية في جميع أعمالها وعلاقاتها الداخلية، بين هيئاتها وأفرادها وبينها وبين محيطها الخارجي. أن تكون منظمات تعددية أي تقبل بالاختلاف والتنوّع.

ومن أهم أهداف مؤسسات المجتمع المدني:

1- دعم مشاريع وخطط التنمية الشاملة والمستدامة، بحيث تكون شريكاً للدولة في تنفيذها ومراقبة حسن إدائها ورصد الانتهاكات والخروقات التي تعترضها.

2- اقتراح قوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها إلى البرلمانات والجهات التشريعية والحكومات.

3- السعي من أجل بناء مواطنة متساوية وكاملة ومن دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو المذهب أو الجنس أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك.

4- العمل على بناء قدرات الافراد وتنمية مهاراتهم وتدريبهم، ليسهموا في مجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل.

5- تشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفعاليات الاجتماعية.

أما الأسس التي ترتكز عليها مؤسسات المجتمع المدني فهي:

* أولاً: الأساس القانوني والمقصود بذلك الدساتير والتشريعات وقوانين الجمعيات والاتحادات والنقابات التي تنظم علاقة هذه المؤسسات بالدولة.

* ثانياً: الأساس السياسي، والمقصود به إقرار النظام السياسي بالتعددية وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات المدنية.

* ثالثاً: الأساس الاقتصادي، والمقصود به تحقيق درجة من التطور الاقتصادي الاجتماعي بإشباع حاجات الأفراد الأساسية بعيداً عن مؤسسات الدولة (الدعم الرسمي للمشروع الخاص والمبادرات الفردية).

* رابعاً: الأساس الثقافي، ويقصد به مجموعة الأفكار والتصورات التي يؤمن بها الأفراد وتشكّل محددات لسلوكهم وعلاقاتهم، وتعبّر في مجموعها عن الإطار المعرفي والثقافي للمجتمع المدني الحديث.

يمكن القول إن نشأة مفهوم المجتمع المدني تعود إلى أوروبا، وهو لم يُنجز دفعة واحدة ولا على يد مفكرٍ واحد أو فيلسوف واحد، ولم يكن ذلك في بلد واحد من بلدان أوروبا، بل اقتضى ذلك زماناً ومكاناً متنوّعين، خصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما بعدهما، فقد كان هناك فقهاء “الحق الطبيعي” من أمثال غروشيوس، كما لا بدّ من ذكر جون لوك وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا ومونتسكيو وجان جاك روسو، وهؤلاء ينتمون إلى بلدان مثل هولندا بريطانيا فرنسا وسويسرا، وكل من هؤلاء المفكرين أسهم بقسطه في تكوين مفهوم المجتمع المدني، خصوصاً بأساساته الكلاسيكية، وغالباً ما كان هؤلاء في خصومة فكرية بين بعضهم البعض، رغم وجود المشتركات بينهم في مسألة المواطنة والملكية والديمقراطية، انطلاقاً من حالة المجتمع والتعاقد الاجتماعي والقول بمبادئ السيادة.

وكذا الحال لمعرفة واستكمال فكرة المجتمع المدني، لا بد من الاطلاع على ما كتبه كانتْ وهيغل وماركس وانجلز ولينين وغرامشي، ومفكرون اجتماعيون مثل أوغست كونت وسان سيمون وألتوكفيل وماكس فايبر وعلماء اقتصاد مثل آدم سميث وكينز وروزا لوكسمبورغ وغيرهم.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي