وزارة للانتحار!

محمد علي جواد تقي

2018-10-13 04:35

روح الانسان، أعزّ ما يملكه في حياته، فمن حيث الفطرة والغريزة، يخشى الانسان على حياته من أي خطر يداهمه ويؤدي به الى الموت، ويصف البعض الموت بـ "المنطقة الباردة" كونها نقطة توقف للحياة لا حركة بعدها ولا حياة، حسب تصورهم، فما الذي يدفع البعض للتخلّي عن هذه الحياة بالانتحار؟

العلماء في الشأن الاجتماعي والنفسي عزوا اكثر من سبب وراء هذه الظاهرة الجديدة على البشرية التي لم تعهد هذه الظاهرة بين الاقوام والمجتمعات في القرون الماضية، إلا بعد دخولنا القرن العشرين، حيث التطور في المجالات كافة، لاسيما في حياة الانسان وفي طريقة تفكيره ايضاً، بيد أن التطور الهائل في الوسائل ومستلزمات الحياة لم تحقق السعادة المنشودة لجميع الناس في العام، فظهرت شريحة راقبها علماء الاجتماع والنفس، فضلت الموت على البقاء على قيد الحياة للتخلص من الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن هذا التطور الذي ربما وفّر فرص النجاح والإثراء لأناس، بينما أوقع أناس آخرين في وادي الفشل والانهيار النفسي.

إن نبأ تعيين رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي مؤخراً وزيرة لمنع الانتحار، ربما يكون "كجزء من جهد وطني للحد من عدد الأشخاص الذين يقدمون على إنهاء حياتهم"، كما ورد في المصادر الخبرية، بيد أنه يعد استجابة من نوع جديد ومثير لنداءات البحث عن حلول ناجعة لمعالجة هذه الظاهرة الاجتماعية المتفشية في العالم، وربما لا يكون هذا التعيين بعيداً عن التوقيت مع اجتماع قمة عالمية في لندن هذه الايام لمؤتمر قمة للصحة العقلية! يشارك فيه ممثلوا من خمسين دولة في العالم.

وحسب "بي بي سي" فان في بريطانيا وحدها ينتحر نحو 4500 شخص كل عام لاسباب مختلفة، فيما يموت في العالم نحو مليون انسان منتحرين كل عام بمعدل منتحر واحد كل 40 ثانية وفق احصائيات منظمة الصحة العالمية، وبات الانتحار احد ابرز اسباب موت الشريحة الشابة في العالم من سن الخامسة عشر الى التاسعة والعشرين، وفي الفترة الماضية كان الرجال يفوقون النساء في الانتحار، بيد ان احصائيات هذه المنظمة تشير الى اجتياز النساء النسبة خلال العقود الماضية، ومع تزايد نسبة الانتحار في العالم، فان مع حلول عام 2020 سيرتفع العدد الى مليون ونصف المليون انسان يتخلصون من حياتهم، ويشهد العالم انتحار انسان كل ثلاثة ثوان!

لم يستقر العلماء والخبراء على سبب او اسباب معينة تدفع الانسان نحو الموت بملء ارادته، ففي البلاد الغربية نلاحظ الانتحار تقف ورائه اسباب نفسية بحتة مثل الاكتئاب والفراغ الروحي والمعنوي، بينما في بلادنا الاسلامية نجد الاسباب اجتماعية واقتصادية الى جانب الاسباب النفسية، مثل المشاكل الأسرية والتخلص من الفضائح الجنسية، الى جانب أزمات مثل الفقر والإدمان على المخدرات والفشل في مجالات عدة بالحياة، لاسيما ما يتعلق بالتعليم والدراسة، أي ان المشكلة في الغرب معنوية، بينما لدينا مشكلة مادية الى جانب المشكلة النفسية ايضاً.

في البلاد الغربية ينظرون الى ظاهرة الانتحار صحّياً ونفسياً بالدرجة الاولى، حيث تعمل جمعيات بمسميات عدة لمساعدة المضطربين نفسياً، لاسيما المدمنين على المخدرات او المصابين بامراض نفسية مثل الانفصام والكآبة، من خلال جلسات العلاج النفسي بالمحادثة المتبادلة مع المريض توفر أكبر ضمانة وأفضل فرصة لإنقاذ حياة من هم على درجة عالية من خطورة الإقدام الجدي على التخلص من حياتهم، ويلغي هذا النوع من العلاج خطورة محاولات الانتحار بمقدار 50% لدى المرضى المصنفين بأن لديهم رغبة عالية في الانتحار، الذين يتناولون أدوية لعلاج الاكتئاب.

بيد ان هذه الجمعيات تقف عاجزة امام استمرار حالات الانتحار في صفوف الماصبين بأمراض عضال تسبب لهم معاناة كبيرة، وايضاً لذويهم، وربما هذا يعود الى التزام هذه الجمعيات بمبدأ الحرية الفردية وان الانسان مسؤول عن تصرفاته، فان حالات انتحار عديدة شاعت بين مصابين بامراض عضال مثل السرطان والسل وغيرها من الامراض التي يكون فيها المريض على موعد غير محدد مع الموت، لذا فانه يقرر وضع حد لحياته بشكل او بآخر، ورغم ان معظم دول العالم، ولاسيما الغربية منها تعد الانتحار عملاً غير قانوني، وتعاقب على إعانة المنتحرين، نسمع مؤخراً ان بلداً مثل سويسرا تعلن انها تبيح من الناحية القانونية الانتحار في مستشفياتها، فتحول هذا البلد الى وجهة سياحية من نوع غريب وجديد لمن يريد التخلص من حياته وما يعيشه من تعاسة وبؤس، رغم وجود كل اسباب الراحة والعناية الصحية.

وكما ان الاسباب تختلف حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فان طرق العلاج هي الاخرى تختلف ايضاً، فاذا كان بامكان تغيير قرار الانسان الغربي من الانتحار الى الثقة بنفسه وبالحياة من خلال جلسات محادثة، فان نفس الامر ممكن ايضاً في بلادنا من خلال إعطاء قيمة عالية للانسان ولقدراته، وضخ الامل في نفسه، وان لا تصغر الحياة في عيون البعض لتكون عبارة عن شهادة جامعية، او زوجة جميلة، او حفنة من الاموال وغير ذلك.

ان احصائية منظمة الصحة العالمية تشير الى عدم وجود دول عربية واسلامية في صدارة الدول التي تعاني ظاهرة الانتحار، ما عدا السودان التي تقول بعض الاحصائيات بان نسبة المنتحرين فيها تساوي نسبة المنتحرين في قارة آسيا كلها، هذا التميّز يعود الفضل فيه الى الايمان بالله –تعالى- وبيوم الحساب، حيث الثواب والعقاب، وانه –تعالى- هو الرزاق والمعطي والشافي والموفّق، ولو بنسبة معينة، وكذلك مبدأ الاخلاق في العلاقات الاجتماعية، والتزام الناس بقدر معين بقيم مثل؛ التعاون والتكافل والإيثار وغيرها. ولكن!

مع كل هذا فان الضلال السوداء للسياسات الفاشلة لمعظم حكوماتنا – ان لم نقل جميعها- تخلق مزيداً من المشاكل في حياة الناس وتجعلهم يأنون تحت ضغوطات قاتلة في لقمة عيشهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث الفقر والبطالة والفساد الاداري وغياب القانون والرقابة تجعل شريحة واسعة من الناس، لاسيما في مجتمعات مثل المجتمع العراقي او الايراني او الخليجي يفكر ولو للحظة واحدة بالانتحار للتخلص مما يعانيه من مشاكل غير قابلة للحلّ.

وهذا يستدعي المعنيين من علماء وخبراء الى جانب المسؤولين الحكوميين اخذ الامر بجدية لاسيما وان الانترنت يلعب دوراً محورياً في تقارب الثقافات والعادات بين شعوب العالم، فحتى الالعاب الالكترونية اخترقتها فكرة الانتحار كما حصل في لعبة "الحوت الازرق"، فالشاب الذي يندمج مع لعبة كهذه وتأخذ كل وقته وفكره وكيانه، هو ذلك الشاب الضائع بين أبويه و اصدقائه ومجتمعه، فيرى من السهل تجربة الموت من خلال هذه اللعبة او أي تطبيق آخر يجده بين يديه وهو يقلب المواقع لوحده ولساعات مديدة.

فاذا كان لبريطانيا وزارة للانتحار، يجدر بنا ان نضخ النشاط والحيوية في وزارات الشباب والتعليم والثقافة لان تكون بيوتاً كبيرة تحتضن الشباب و ايضاً الكبار وتجعل الحياة كبيرة في عيونهم، وتعزيز الثقة بانفسهم على انهم قادرين على تغيير واقعهم للافضل، وحتى ممارسة الضغط على الحكومات لتعديل سياساتها والكف عن الظلم والفساد، كل هذا يتم من خلال برامج ومشاريع تنموية وتأهيلية تعيد للانسان كرامته وقيمته في الحياة، من ثمّ تحفيزه على المزيد من العمل والابداع والانتاج.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي